Monday, December 21, 2009

ضد الديموقراطية، ضد حقوق الإنسان


علي زبيدات - سخنين

في العصر الحديث يوجد هناك ثلاث دول تدعي وتفتخر بأنها نموذج يحتذى به للنظام الديمقراطي وهي بريطانيا الولايات المتحدة الأمريكية وإسرائيل. هذا الادعاء الذي أصبح حقيقة لا يقبل الجدل ويدرس كعلم في كافة المراحل التعليمية من المدارس الابتدائية إلى الجامعات ومراكز الأبحاث كان كافيا لأقولها لكل من يريد أن يسمع: أنا ضد الديمقراطية.
بريطانيا، تاريخها مظلم حالك السواد بالرغم من أن الشمس لم تكن تغيب عن إمبراطوريتها. بنت حضارتها واقتصادها وتطورها , على احتلال بلدان عديدة في شتى أرجاء العالم واستعباد شعوبها ونهب ثرواتها وخيراتها. هذا بالإضافة إلى الحروب العديدة التي شنتها في أوروبا وأفريقيا وأسيا وأمريكا والى الجرائم ضد الإنسانية التي اقترفتها خلال هذه الحروب. هل لأنها حددت صلاحية الملك ونقلت صلاحيته إلى رئيس الحكومة الذي يمثل الحزب الأكبر والذي ينتخب كل عدة سنوات أصبحت دولة ديمقراطية نزيهة؟
النموذج الثاني للديمقراطية، الولايات المتحدة الأمريكية التي قامت على جماجم المواطنين الأصليين من الهنود الحمر بعد أن شنت عليهم حرب إبادة تعتبر من أبشع حروب الإبادة في تاريخ البشرية طالت الإنسان والحضارة واللغة وتتقزم أمامها كافة حروب الإبادة السابقة. وهي الآن تتعامل مع الديمقراطية كسلعة رأسمالية للتصدير إلى جانب الأسلحة الفتاكة التي تصدرها. جرائم الولايات المتحدة الأمريكية "الديمقراطية" أكثر من أن تحصى وتعد، بدءا بإبادة المواطنين الأصلين مرورا باستعباد ملايين الزنوج الذين خطفوا من أفريقيا وتم الإلقاء بهم في حقول التبغ والقطن والمناجم وحتى الحروب العديدة المستمرة والتي لم تسلم منها بقعة على الكرة الأرضية. هل هذا الدولة لأنها كتبت في وثيقة استقلالها " أن جميع البشر خلقوا متساوين وأن بعض الحقوق غير قابلة للتصرف ومنها الحق في الحياة والحرية والبحث عن السعادة" أصبحت نموذجا للديمقراطية؟ بالرغم من أن كل خطوة خطتها منذ يوم استقلالها في الرابع من تموز عام 1766 وحتى يومنا هذا تؤكد عكس ما كتبته تماما: إذ أن جميع البشر لم يخلقوا متساوين، فمنهم من خلق وبيده سلاح القمع والهيمنة ومنهم من خلق عبدا أو محتلا أو لاجئا أو مطاردا. وإن جميع الحقوق قابلة للتصرف بما فيها حق الحياة والحرية والبحث عن السعادة عن طريق إتعاس الآخرين.م هل أصبحت نموذجا للديمقراطية لأنها تنتخب كل خمس سنوات الرئيس الذي اختارته الشركات الكبرى والتي أنفقت ملايين الدولارات لتضعه في الواجهة؟
الضلع الثالث في هذا المثلث الديمقراطي غير المقدس، ثالثة الأثافي، هي دولة إسرائيل. التي بنت نظامها الديمقراطي جدا جدا على الأرض التي نهبتها من تحت أقدام الشعب الفلسطيني في وضح النهار وعلى مرأى العالم أجمع وبمباركة ما يسمى بالشرعية الدولية، بعد أن شتته وألقت فيه بالمنافي، أصبحت واحة من الديمقراطية في وسط صحراء من الاستبداد والطغيان العربي. ولكن يبدو أن الديمقراطية الإسرائيلية لا تتعارض مع سياسة التطهير العرقي ومع سياسة السلب والنهب وكبت الحريات والقتل والزج في السجون بل على العكس، تنسجم معها تمام الانسجام.
قد يقول البعض أن الديمقراطية شيء وأن الأنظمة التي تطلق على نفسها أنظمة ديمقراطية هي شيء آخر. حيث يوجد هناك دوما فجوة بين النظرية والتطبيق. وأن العيب يكمن في التطبيق وليس في النظرية. وهكذا بالرغم من معرفتنا بطبيعة هذه النماذج تبقى "الديمقراطية" حلمنا المقدس المفقود.
أنا أحد الناس الذين يكفرون بالديمقراطية نظرية وتطبيقا. إذا كان التطبيق على هذه الدرجة من السوء ولفترة طويلة من الزمن، فلا بد أن يكون الخلل في النظرية أيضا. الديمقراطية لغويا هي كذبة رائجة ومنطقيا تنطوي على تناقض داخلي: إذا كان الشعب هو الحاكم فمن هو المحكوم إذن؟ وما ضرورة أن يمارس الشعب الحكم على نفسه؟ هذه الكذبة قديمة قدم الديمقراطية نفسها. في اليونان القديمة عندما كانوا يستعملون كلمة شعب لم يكن العبيد والنساء محسوبين على هذا الشعب. إذن حل التناقض يكمن في تعريف كلمة الشعب: بالنسبة للأمريكيين المهاجرين ذوي الأصول الأوروبية هم الشعب، أما السكان الأصليين فهم خارج الشعب، بل أعداء الشعب وبالتالي من الطبيعي إبادتهم. في إسرائيل، المستوطنون الصهاينة هم الشعب، أما الفلسطينيون فهم أعداء الشعب ولا تسري الديمقراطية عليهم. الطبقة الحاكمة هي التي تحدد من هو داخل الشعب ومن هو خارجه. وفي حالات معينة ممكن أن تقصي أشخاصا أو فئات كانت معدودة على الشعب. أثينا القديمة الديمقراطية قررت أن سقراط هو عدو الشعب وقدمت له السم. مما حدا بأفلاطون أن يرفض الديمقراطية ويدعو إلى استبدالها بسلطة الفلاسفة.
في هذه الأيام لم يعد هناك فلاسفة. وإذا وجد البعض فأنهم مغرقون بالرجعية. الديكتاتورية الثورية للطبقات المظلومة هي البديل الوحيد لهذه الكذبة التي تسمى الديمقراطية. الديكتاتورية الثورية التي لا تكتفي بالكلام عن الحقوق غير القابلة للتصرف بل تعمل على تطبيقها. هذه الديكتاتورية الثورية التي يقودها ثوريون ملتزمون تأخذ شرعيتها من الجماهير الثائرة وليس من وثائق ودساتير ميتة بين صفحات الكتب.
كذبة أخرى رائجة في أيامنا هذه جرى الاحتفال بذكراها مؤخرا هي كذبة حقوق الإنسان: بينما كان لاجئو فلسطين في عام النكبة يهيمون على وجوههم باحثين عن مكان يضعوا عليه خيماتهم تبنت الأمم المتحدة في 10 ديسمبر 1948 ما يسمى: الإعلان العالمي لحقوق الإنسان. هذا الإعلان، الذي أصبح إنجيلا بالنسبة للبلدان "الديمقراطية" و لمنظمات حقوق الإنسان التي انتشرت كالفقع في كل مكان ومعظمها لا يعدو كونها أكثر من حوانيت خاصة تتاجر بهذه السلعة الفاسدة، ينضح من أول كلمة فيه إلى آخر كلمة بالنفاق والتمييز بين إنسان وإنسان. إن تكرار الجملة الممجوجة التي تقول: "يولد جميع الناس أحرارا متساوين في الكرامة والحقوق" لم يغير من منسوب النفاق في هذا الإعلان من المادة الأولى إلى المادة الثلاثين الأخيرة شيئا.
معظم أبناء الشعب الفلسطيني، على سبيل المثال لا الحصر، ولدوا تحت الاحتلال أو في اللجوء وكرامتهم مهانة وحقوقهم مهضومة. وعلى دولة إسرائيل قبل أن توقع على هذا الإعلان كان الأحرى بها أن تكون هي نفسها إنسانية أولا. لا يعقل أبدا أن تقترف دولة إسرائيل والدول "الديمقراطية" الأخرى وعلى رأسها الولايات المتحدة الأمريكية جرائم في حق الإنسانية وفي الوقت نفسه تتشدق بحقوق الإنسان وتأتي لتبيعنا بضاعتها الكاسدة في هذا المجال.
عندما يصبح الإنسان أبن نوعه أي عندما يصبح إنسانا يكتسب الحق الأخلاقي للكلام والدفاع عن حقوق الإنسان.

Monday, December 14, 2009

القدس الواحدة هي العاصمة الابدية لفلسطين


علي زبيدات – سخنين

المعادلة بسيطة: من قبل في الماضي ومن يقبل في الحاضر تقسيم فلسطين فلن يكون غريبا عليه أن يقبل تقسيم القدس. ومن وجد ألف تبرير لماذا يجب القبول بتقسيم فلسطين فلن يعجز عن إيجاد ألف تبرير آخر لماذا يجب تقسيم القدس والرضا بما تتنازل لنا عنه إسرائيل لتقوم عليها عاصمة الدولة الفلسطينية. منذ أن تناولت وسائل الإعلام خبرا مشكوك بمصداقيته يفيد بأن السويد تقود تحركا أوروبيا غير مسبوق بصدد اعتراف الاتحاد الأوروبي بالقدس الشرقية عاصمة للدولة الفلسطينية، والمسئولين الفلسطينيين في السلطة من الرئيس إلى اصغر موظف في مكاتب المنظمة في أوروبا يكادون أن يشقوا ثيابهم طربا وفرحا.
لكن كالعادة، تمخض الجبل فولد فأرا. حيث تبين أن بيان الاتحاد الأوروبي لا يتناول لا من قريب ولا من بعيد الاعتراف بالدولة الفلسطينية أو بالقدس المحتلة كعاصمتها، بل يجتر المواقف المعروفة للإتحاد الأوروبي منذ عقود والتي تدعو: "إسرائيل والفلسطينيين إلى تسوية وضع القدس على أنها عاصمة الدولتين في المستقبل" كيف تتم تسوية وضع القدس ومتى يأتي هذا المستقبل؟ يبقى ذلك في عالم الغيب.
في خضم هذا الجدل الملتهب على الساحة المحلية والإقليمية والدولية أرى من الواجب أن يقوم شخص واحد على الأقل، وأتطوع أن أكون هذا الشخص، ليقول للاهثين وراء سراب الدولة والعاصمة على الساحة الفلسطينية أولا وللإجماع القومي الإسرائيلي ثانيا من ثم للإتحاد الأوروبي وللعالم أجمع: أن القدس بشرقها وغربها، بجنوبها وشمالها، بقديمها وحديثها هي مدينة واحدة، مدينة عربية فلسطينية، سواء كانت عاصمة لدولة أو لدولتين أو لم تكن، سواء كانت مقدسة للأديان السماوية الثلاثة أم لم تكن. هذه المدينة مثلها مثل الوطن بأسره غير قابلة للقسمة مهما نهشتها الكلاب البشرية ومزقت أشلاءها قوى الظلم في هذه المرحلة التاريخية أو تلك.
لقد روجت دولة إسرائيل، منذ قيامها على الأقل، لكذبة راجت على جميع الأصعدة حتى أصبحت بمثابة بديهية مفروغ منها لا تحتاج لأي برهان تقول: أن القدس الغربية أو القدس الجديدة هي مدينة يهودية إسرائيلية. وقد ساهم النظام العربي والفلسطيني الرسمي في ترويج هذه الكذبة وأقتصر كلامهما على القدس القديمة أو الشرقية التي احتلتها إسرائيل في حرب 1967 وقامت بضمها.
أهالي القدس يعرفون جيدا أن "القدس الجديدة" بنيت على أنقاض ما لا يقل عن 15 حيا فلسطينيا أصيلا وأن جميع مؤسسات الدولة الصهيونية من كنيست إلى المحكمة العليا إلى مقر رئيس الدولة إلى متحف "يد وشم" وغيرها قائمة على أنقاض هذه الأحياء. وأن الأحياء الجديدة الأخرى التي بنتها الدولة بعد عام النكبة قامت على أراض فلسطينية مغتصبة ومحتلة. حسب علمي، لم يحضر المستوطنون الصهاينة الذين غزوا فلسطين بأعداد متزايدة في أعقاب الانتداب البريطاني الأرض في جيوبهم أو على ظهور السفن التي نقلتهم بل استولوا عليها بواسطة كافة أساليب الغش والسرقة ومن ثم بواسطة القوة العسكرية.
طبعا لم تكتف إسرائيل بسلب واحتلال الأراضي الفلسطينية التي قامت عليها القدس الغربية بل واصلت سياسة التطهير العرقي المنهجية لتهويد كامل مدينة القدس بعد إكمال احتلالها وضمها عام 1967. كانت سياستها هذه واضحة منذ البداية ولم تحاول حتى التستر عليها، فقط المكفوفين في السلطة الفلسطينية وجامعة الدول العربية لا يبصرون ذلك، وهي أن مصير القدس لن يكون أفضل من مصير يافا وحيفا وعكا واللد والرملة. التهويد يجب أن يصل إلى كل مكان وكل مجال. هكذا بدأت بإفراغ القدس القديمة من سكانها العرب بدءا بما يسمى بالحي اليهودي وهو حي فلسطيني أصيل وجلب المستوطنين إليه ومن ثم انتشار البؤر الاستيطانية السرطانية في كافة أرجا القدس من جبل الطور إلى جبل المكبر ومن سلوان إلى حي رأس العامود إلى حي الثوري والشيخ جراح. هذا بالإضافة إلى المستوطنات التي ألحقت بالقدس مثل معاليه ادوميم، بسغات زئيف، التلة الفرنسية جبل أبو غنيم وغيرها من ضواحي القدس وأراضيها.
إذن، عن أية عاصمة يتحدثون؟ ولا يغرنك الشعارات، ففي سياق هذا المزاد العلني المعروض حاليا فلن تكون مفاجأة أن تصبح أبو ديس هي مدينة القدس وهي العاصمة. المفاوضون الفلسطينيون يتبعون المثل البدائي الذي يقول: أطلب الكثير لكي تحصل على القليل. لم ننس بعد تصريح الناطق باسم رئاسة السلطة نبيل أبو ردينة وهو يقول:"قد نتنازل عن السيادة في الحرم القدسي لمصلحة طرف ثالث".
إذا كانت الحكومات الإسرائيلية المتعاقبة التي احتلت وألحقت القدس بصورة غير شرعية حسب كافة القوانين الدولية والأخلاقية، تكرر ليل نهار وأمام كل من يريد أن يسمع، بأن القدس "الموحدة" هي العاصمة الأبدية لدولة إسرائيل، فلماذا نجبن نحن أصحاب الحق والأرض ولا نقول لكل من يريد أن يسمع: أن القدس الواحدة هي عاصمة فلسطين الأبدية؟

Wednesday, December 02, 2009

أوهام الدولة وحقيقة المقاومة


علي زبيدات – سخنين

عندما تستحوذ الأوهام على رؤوس بعض الناس تصبح أخطر من الحقيقة ويصبح من الصعب بل في بعض الأحيان من المستحيل استئصالها. وهم الدولة الفلسطينية إلى جانب دولة إسرائيل ليس جديدا بل هو قديم قدم القضية الفلسطينية نفسها. ولكنه في ذلك الوقت كان من نصيب أفراد أو أحزاب هامشية منبوذة على الصعيد الشعبي لا تمتلك القرار. أما اليوم فأنه يستحوذ بشكل مرضي على عقول شريحة واسعة من الزعامة المستنفذة للشعب الفلسطيني.
الحملة الأخيرة على هذا الصعيد بدأها سلام فياض، رئيس الحكومة في السلطة الفلسطينية قبل عدة أشهر عندما نشر برنامج حكومته من خلال وثيقة أطلق عليها اسم: "إنهاء الاحتلال وإقامة الدولة" وزعم أنه سيبني مؤسسات الدولة المستقلة خلال سنتين حيث ستقوم هذه الدولة بغض النظر عن نتائج المفاوضات مع إسرائيل. وقد بدأ واضحا أن هذه الوثيقة تحظى بدعم الولايات المتحدة الأمريكية وحلفائها في المنطقة ولا تتعارض جوهريا مع تصور رئيس الحكومة الإسرائيلية، نتنياهو للدولة الفلسطينية والسلام الاقتصادي الذي يعرضه.
هذه الأوهام انتشرت مثل النار في الهشيم وبلغت ذروتها عندما صرحت السلطة على لسان كبير مفاوضيها، صائب عريقات، عن نيتها إعلان الدولة المستقلة من طرف واحد والتوجه إلى مجلس الأمن من أجل الاعتراف بهذه الدولة. بالرغم من موافقة الاتحاد الأوروبي والولايات المتحدة المبدئية على مثل هذه الدولة الوهمية إلا أن موقفهما المعلن هو ضرورة أن تكون هذه الدولة نتيجة للمفاوضات بين الطرفين. ولكن كالعادة فأن الاتحاد الأوروبي يحسن ذر الرماد في العيون ويظهر بعض المرونة في موقفه، حيث تزحزح قليلا عن موقفه السابق الذي يقول بأن ظروف الإعلان عن الدولة الفلسطينية لم تنضج بعد، إلى موقف يقول بأنه على استعداد للاعتراف بهذه الدولة وبالقدس الشرقية كعاصمة لها. وسوف يتخذ قرارا بهذا الشأن الأسبوع القادم خلال اجتماع لوزراء خارجيته. أما الموقف الأمريكي فما زال مطابقا للموقف الإسرائيلي الذي يحتم عودة الفلسطينيين للمفاوضات بدون شروط مسبقة لكي يتم تفصيل الدولة الفلسطينية على مقياس الزعامة الفلسطينية بما تسمح به إسرائيل فقط. على كل حال، يبدو واضحا أن التفاوت في هذه المواقف جاء من باب تقسيم الأدوار والهدف واحد هو تصفية القضية الفلسطينية نهائيا لصالح إسرائيل باسم الحل السلمي.
طبعا، نحن هنا، الفلسطينيون القاطنون في الأراضي المحتلة عام 1948 لسنا بمعزل عن هذه الأوهام بل العكس هو الصحيح حيث تنخر بنا حتى النخاع. قسم لا يستهان به تأسرل نهائيا إلى أقصى ما تسمح به قوانين وواقع الدولة العنصرية، وقسم كبير آخر أصبح هجينا يلهث وراء إيجاد المعادلة، الوهمية في حد ذاتها، بين هويته الإسرائيلية والفلسطينية. وهذا القسم يتبوأ الآن زعامة الجماهير الفلسطينية في هذا الجزء من الوطن المحتل من خلال لجنة المتابعة العليا والأحزاب العربية الإسرائيلية الممثلة في الكنيست وغير الممثلة به ومن خلال باقي المؤسسات. هذه الزعامة تعاني هي الأخرى من صرع أوهام الدولة وتمنح دعمها اللامحدود، مع كونه تافها، لزعامة السلطة في جهودها التسووية.
في الحقيقة حالة هؤلاء المصابين بوهم الدولة تثير الشفقة. فدولة إسرائيل تضرب بعرض الحائط أبسط أوهامهم ولا تكن ذرة احترام لتوسلاتهم ولاستعدادهم تقديم المزيد من التنازلات. تدعهم يهيمون وراء أوهامهم السرابية وطرق أبواب الاتحاد الأوروبي والأمم المتحدة، بينما تتابع هي تنفيذ خططها المعلنة في تهويد القدس وتطوير وتوسيع المستوطنات وإكمال بناء الجدار العازل. أي أنها تزرع الحقائق على ارض الواقع، على كل بقعة تطؤها أقدام الجندي الإسرائيلي. هذه الحقائق التي نواجهها نحن باللهث وراء الأوهام.
عندما يكون هناك احتلال الحقيقة الوحيدة المتبقية هي مقاومة هذا الاحتلال. هذه القاعدة لم تخترعها إسرائيل ولم يخترعها الفلسطينيون. بل هي حقيقة أكدتها وتؤكدها تجارب الشعوب التي ناضلت من أجل حريتها واستقلالها في مشرق الأرض ومغربها. فقط بعد دحر الاحتلال يمكن الكلام عن الكماليات الأخرى مثل الدولة والسلام والتطور والبناء. ما دام الاحتلال جاثما على صدور الناس يمنعهم حتى من التنفس بشكل طبيعي فإن الكلام عن أمور أخرى غير كنس الاحتلال أولا لا يصب إلا في بحر الأوهام.
الاستمرار في طريق المقاومة مهما كانت هذه الطريق شاقة ومهما كلفت من تضحيات ومن آلام هو الطريق الوحيد للتخلص من الأوهام والانتقال إلى الحقيقة. وكما يقول المثل العربي: آخر العلاج الكي. وها نحن نقف أمام آخر العلاج: إما أن تصفى القضية نهائيا، فيبقى اللاجئون لاجئين إلى الأبد وتبقى الأرض محتلة إلى الأبد وإما أن تنهض الأمة من محرقتها كالعنقاء وتتابع مسيرة الحرية.

Tuesday, November 24, 2009

عندما تقسم الضحية

علي زبيدات - سخنين

تأتي الذكرى ال62 لقرار تقسيم فلسطين هذه السنة بينما يحتفل العرب والمسلمون بعيد الأضحى. وعلى ما أظن، وأتمنى أن أكون مخطئا في ظني هذا، أنه في خضم مآدب الشواء التي لا تنتهي والرحلات الترفيهية المتنوعة لن يكون لديهم متسعا من الوقت أو مزاجا ملائما للتوقف أمام هذه الذكرى الأليمة لتقسيم أكثر ضحية مأساوية في حياة البشر تفوق بما لا يقاس خروف إبراهيم وابنه وباقي الخرفان والأبقار والجمال التي ضحي بها من ذلك الوقت وحتى يومنا هذا.
في 29 تشرين ثاني 1947 قرر أصحاب القوة والقرار، الذين خرجوا منتصرين من الحرب العالمية الثانية، مكافأة حركة من العصابات الاستيطانية الصهيونية الخارجة على القانون بمنحها قسما عزيزا من فلسطين لكي تقيم عليها دولة يهودية، وذلك بغياب كامل لشعب فلسطين.
لن نجدد شيئا إذا كررنا للمرة المليون أن هذا القرار كان مجحفا بحق الشعب الفلسطيني حسب كافة المقاييس المتعارف عليها: كيف يعقل أن يحظى ثلث السكان الطارئين الذين قدموا من شتى أصقاع الأرض على 55% الأرض؟ حسب أية قوانين تكون مثل هذه القسمة عادلة؟ ولا نريد هنا أن نعود إلى الوراء ونتكلم عن الضغوطات التي مارستها الولايات المتحدة الأمريكية والدول الأوروبية على الدول النامية لكي تصوت إلى جانب قرار التقسيم. ولا نريد أن نكرر الارتداد السوفيتي عن مواقفه المبدئية السابقة وسيره في الثلم نفسه مع الدول الامبريالية ودعمه لعصابات المستوطنين. كل هذه الوقائع تعبر عن نفسها وليست بحاجة إلى أي تفسير أو شرح.
في الحقيقة، إنا أتفهم تماما ما حدث في تلك الحقبة الزمنية ومثلي الكثيرون: القوة العسكرية والاقتصادية هي التي فرضت الواقع ولم يكن هناك دور لأي اعتبارات أخرى واردة من عالم الأخلاق أو المبادئ أو العدالة. وهذه القوة كانت موجودة بشكلها المطلق عند الطرف الآخر وما كان أمام الشعب الفلسطيني إلا أن يدفع الثمن، وقد كان الثمن باهظا جدا كما هو معروف للجميع.
ولكني لا أستطيع أن أتفهم أبدا أن يقوم شخص أو مجموعة أشخاص معدودين على الضحية بقبول وتبني هذا القرار المجحف وإيجاد الأعذار والتبريرات التي هي أبشع من ذنوب لتسويغ ذلك. وهذا ما يفعله على سبيل المثال لا الحصر القيادي في الحزب الشيوعي الإسرائيلي، عصام مخول، في مقالة طويلة نشرتها جريدة الاتحاد وموقع الجبهة بعنوان: "حين يصبح اللاحل هو الحل". يعيد الكاتب كتابة التاريخ على طريقة تذكرني بالمثل الصيني الذي يقول إذا كان الحذاء ضيقا فعليك بقص أصابع القدم لكي تتلاءم مع الحذاء. في سياق دفاعه عن حل الدولتين، الحل الوحيد الواقعي والعادل والذي يضمن حق تقرير المصير للشعبين، يبرر الكاتب قبول الحزب الشيوعي الفلسطيني (الإسرائيلي لاحقا) لقرار التقسيم ويدافع عن هذا القرار بعدما يصور الأمور وكأن الخيار كان بين قبول قرار التقسيم الذي يؤمن للشعب الفلسطيني حوالي نصف البلد وبين النكبة. ونتيجة تحليله أن جماهير الشعب الفلسطيني وقواه الوطنية كانت من الغباء بأنها رفضت قرار التقسيم واختارت النكبة. أي أن الضحية هي الملومة، على عكس ما كان يردده أحد أقطاب هذا الحزب، ولكن في سياق آخر: لا تلوموا الضحية.
قلت في مقالة سابقة أن الحزب الشيوعي الفلسطيني (الإسرائيلي) منذ ميلاده قبل 90 سنة وهو يعيش في تناقض داخلي بسبب نشأته وترعرعه في ظل مشروع كولونيا لي عنصري لا يمكن أن تتعايش مع إيديولوجية تحررية تقدمية.
لم يكن الشعب الفلسطيني غبيا عندما رفض قرار التقسيم جملة وتفصيلا. كان ضعيفا، ممزقا، يعاني من تخلف سياسي واقتصادي واجتماعي بسبب أربعة قرون من الاحتلال العثماني ولكنه لم يكن غبيا. كان يناضل من أجل حقه الطبيعي في الحياة والبقاء. لذلك رفض قرار التقسيم كما رفض من قبله قرار الانتداب ووعد بلفور. ومهما طال الزمن ومهما تغيرت موازين القوى، ومهما تساقطت قوى كانت في يوم من الأيام محسوبة على المعسكر الوطني، سيبقى البند التاسع عشر من الميثاق الوطني الفلسطيني يجسد ضمير الشعب الفلسطيني الحي. يقول هذا البند الذي قامت سلطة أوسلو بشطبه:" تقسيم فلسطين الذي جرى عام 1947 وقيام إسرائيل باطل من أساسه مهما طال عليه الزمن لمغايرته لإرادة الشعب الفلسطيني وحقه الطبيعي في وطنه ومناقضته للمبادئ التي نص عليها ميثاق الأمم المتحدة وفي مقدمتها حق تقرير المصير"
منذ أن تخلى الحزب الشيوعي الفلسطيني عن مطالبته بدولة ديمقراطية واحدة وتبنيه حل الدولتين لشعبين في أعقاب قبوله لقرار التقسيم وهو يختبئ وراء شعار حق الأمم في تقرير مصيرها التي دافعت عنه وناضلت من أجله الحركة الشيوعية عندما كانت ثورية. وهذا ما بزعمه عصام مخول بصراحة في مقاله المذكور بأن قيام دولة إسرائيل هو تجسيد لحق الشعب اليهودي في تقرير مصيره. هذا تشويه وتزييف لمبدأ حق الأمم في تقرير مصيرها. أولا منذ متى يطلق على عصابات استيطانية أمة؟ وثانيا، ولنفرض جدلا أنها أمة أو أصبحت أمة فهل لها الحق في أن تقرر مصيرها على حساب أمة أخرى؟
قرار التقسيم كان مؤامرة صهيونية امبريالية على فلسطين وشعبها، وفي ذلك الوقت لم يقع في فخ هذه المؤامرة من الأحزاب السياسية سوى الحزب الشيوعي الذي كان من المفروض أن يقود النضال ضدها. ولكن بعد 62 عاما وقعت في شباك هذه المؤامرة الحركة الوطنية الفلسطينية بكاملها مع بعض الاستثناءات وقد عبرت عن هذا التحول الخطير ما يسمى وثيقة الاستقلال الفلسطينية التي نصت على ما يلي: "فإن هذا القرار (قرار التقسيم) ما زال يوفر شروطا للشرعية الدولية تضمن حق الشعب العربي الفلسطيني في السيادة والاستقلال الوطني"
قرار التقسيم كان في 29 تشرين الثاني عام 1947 قرارا لا يمت للشرعية الدولية وغير الدولية بصلة وهو اليوم لا يمت للشرعية بصلة وسيبقى أبد الدهر لا يمت للشرعية بصلة حتى يتم إلغائه هو وكافة نتائجه.

Saturday, November 21, 2009

الاستقلال الكاذب



توجد هناك ظاهرة أصبح وجودها نادرا ولكنها ما زالت موجودة تسمى بلغة الطب بالحمل الكاذب أو الحمل الوهمي. حيث تظن السيدة التي تعاني من هذه الظاهرة، عادة بسبب اضطرابات نفسية، أنها حامل وتظهر عليها أعراض الحمل الحقيقي: انقطاع الدورة الشهرية، انتفاخ البطن بسبب اختلال توازن الهرمونات، الإقبال على الأكل الزائد فيزداد وزنها، اشتهاء بعض الأطعمة فيبدو وكأنه وحم طبيعي. فتقوم هذه السيدة المسكينة بالاستعدادات لاستقبال المولود وإشاعة الخبر السعيد. ولا تقبل كونها غير حامل بالرغم من تأكيد كل الفحوصات، فهي لا تصدق الأطباء وتحاول التهرب من إجراء فحوصات جديدة. بالطبع هذا الوضع لا يدوم إلى ما لانهاية. وبعد اكتشاف الحقيقة عادة ما تصاب هذه السيدة بصدمة نفسية تتفاوت شدتها وقد تكون بحاجة إلى علاج نفسي طويل.
هذه هي تقريبا حكايتنا مع الاستقلال الكاذب الذي كان من المفروض أن يحتفل شعبنا بذكراه ال21 قبل بضعة أيام وبالتحديد في 15 تشرين الثاني. ولكن مع فرق واحد عن الحمل الكاذب هو أن السيدة بعد أن تكتشف أن حملها كان وهميا تدخل في صدمة نفسية ، أما نحن، وبعد أن اكتشفنا استقلالنا الوهمي لم نصاب بأية صدمة ، وكأن شيئا لم يحدث،وكأن جلودنا أصبحت كجلود التماسيح. ويقوم من يعلن مرة أخرى عن استقلالنا الوهمي القادم. فقبل أن نستفيق من خطة رئيس حكومة السلطة سلام فياض بصدد إعلان الدولة المستقلة خلال سنتين نفاجأ بخطة أخرى صادرة عن أقطاب السلطة مطالبين الإعلان عن استقلال الدولة من طرف واحد ومطالبين المجتمع الدولي الاعتراف بهذا الاستقلال.
الحمل الكاذب، اقصد الاستقلال الكاذب، بدأ بكذبة كذبناها على أنفسنا وصدقناها في دورة المجلس الوطني الفلسطيني المنعقدة في الجزائر عام 1988 والتي سميت اعتباطا "دورة الانتفاضة" بينما كان الهدف الحقيقي منها إجهاض الانتفاضة التي أربكت ليس إسرائيل وأمريكا فحسب بل أيضا القيادة الفلسطينية القابعة في تونس. وبحجة استثمار انجازات الانتفاضة الشعبية على الصعيد السياسي وبناء على وعود من الإدارة الأمريكية بالتفاوض المباشر مع منظمة التحرير الفلسطينية عقدت هذه الدورة وتم رسميا قبول قرار الأمم المتحدة 242. هذه الدورة فتحت الطريق مباشرة إلى مؤتمر مدريد الذي جاء مكافأة أمريكية للأنظمة العربية على موقفها الداعم للحرب الأمريكية على العراق ومن ثم كانت الطريق إلى أوسلو قصيرا ومعها تم إجهاض الانتفاضة نهائيا.
مصمما الاستقلال الكاذب قد رحلا عنا، وحسب تقاليدنا وعاداتنا الشرقية من العيب انتقاد القادة المتوفين خصوصا بعد أن أضفينا عليهما هالة من القدسية، وأعتذر لأني لست من أنصار هذه التقاليد والعادات. الأول: هو الرئيس الراحل ياسر عرفات الذي ورطنا وورط نفسه في اتفاقيات أوسلو والنتيجة معروفة للجميع ولا حاجة هناك للخوض بها ، بالإضافة إلى انه أورث لنا القيادة الحالية. والثاني شاعرنا القومي محمود درويش الذي كتب "وثيقة الاستقلال" واضعا نصب عينيه وثيقة الاستقلال الإسرائيلية. وكلاهما أراد أن يلعب دور بن غوريون الفلسطيني. قد يكون محمود درويش شاعرا مبدعا حمل الجرح الفلسطيني على طريقته الخاصة ولكنه كسياسي كان دون المتوسط وقفزه من سفينة أوسلو والنجاة بنفسه قبل أن تتحطم لم يغير من هذا الواقع قيد أنملة. فقد كان حتى يومه الأخير شاعر البلاط المدلل.
جميع الفحوصات أكدت أن هذا الاستقلال كاذب. انقطاع الدورة الشهرية كان انقطاعا عن المقاومة الشرعية للاحتلال، الإقبال على الأكل الزائد كان إقبالا على خيرات الغرب غير الصحية والنتيجة كانت انتفاخ البطون لبعض المتنفذين في السلطة. وإعلان الاستقلال كان الخبر السعيد الذي من خلاله يلهون الشعب.
ليس من باب الصدفة أن جماهير شعبنا لم تخرج إلى الشوارع محتفلة بهذا اليوم. لم تكن هناك مفرقعات ولا عروض رقص شعبية ولا حتى رحلات الشواء في أحضان الطبيعة أسوة بأبناء عمنا. بصراحة أقولها، أنا الذي أعتبر نفسي غارقا في الهم الفلسطيني حتى النخاع، وهناك العديدين مثلى، نسيت 15 تشرين الثاني وما يمثله إلا بعد سماعه في الأخبار أو القراءة عنه ولا اشعر نشئ إزاء هذا اليوم يدغدغ عاطفتي الوطنية. هل يستطيع أحدنا أن ينسى يوم النكبة أو يوم الأرض؟ أظن أن الاحتفالات الوحيدة في هذه المناسبة اقتصرت على نزلاء المقاطعة في رام الله وبعض الأماكن الأخرى المعروفة بميولها.
الشعوب تحتفل باستقلالها الحقيقي الذي يأتي تتويجا لنضال طويل ومرير والذي ينتهي بدحر المحتلين أو المستعمرين. أليس من العار أن نتكلم عن استقلال وما زال الاحتلال يجثم فوق صدورنا؟ أي استقلال هذا وكل شبر من ارض الوطن مباحا أمام المحتلين؟ كيف يستطيع أهلنا في غزة الاحتفال بالاستقلال وهم يعانون من أطول حصار عرفه التاريخ الحديث؟ وأي استقلال هذا في ظل الجدار العازل ومئات الحواجز التي تمزق ارض الوطن طولا وعرضا؟
لكي نصنع الاستقلال الحقيقي ونحتفل به يجب أن ندحر الاحتلال عن أراضينا أولا.

Tuesday, November 10, 2009

سنة حلوة يا جميل

سنة حلوة يا جميل
بمناسبة 90 عاما على ميلاد الحزب الشيوعي الإسرائيلي
علي زبيدات – سخنين

من منا لا يحب الحفلات؟ وهل يوجد أجمل من أن يحتفل الإنسان بعيد ميلاده؟ فهذه المناسبة تجمع الأهل والأصدقاء والزملاء الذين فرقهم الزمن ومتاعب الحياة. وإذا كان الشخص المحتفى به شخصية معتبرة فهناك الهدايا الجميلة وهناك زخات من المدائح التي تنهال على رأسه من المهنئين حتى يبدأ بالتساؤل: هل أنا حقا المعني بهذا الكلام؟ وإذا كان الشخص يرى نفسه ولا يصدق فسرعان ما ينضم لجوقة المداحين، ينفش ريشه كالطاووس وينزل نفخ في نفسه حتى يشارف على درجة الانفجار أو حتى تنقطع أنفاسه. وفي اليوم التالي بعدما ينظف نفايات الحفلة من حوله، يعود إلى حجمه الحقيقي ويغص ثانية في لجة حياته المملة. وقد يتمتم مع فريد الأطرش: عدت يا يوم مولدي، عدت يا أيها الشقي، الصبا ضاع من يدي وغزا الشيب مفرقي، ليت يا يوم مولدي كنت يوما بلا غد. وهذا ليس من باب التشاؤم أو من باب اليأس لا سمح الله، ولكن لأن هذا هو واقع معظمنا في هذا الزمن الرديء.
الأحزاب السياسية، تقريبا كالأشخاص، هي أيضا تولد في يوم ما وتقطع مسيرة قد تقصر أو تطول حتى يأتي أجلها في يوم ما. وهي كالأشخاص تحب الحفلات وخصوصا حفلات عيد ميلادها. وتحب أن تجمع في هذه الحفلات أكبر عدد من الأصدقاء والأحباء وتتقبل الهدايا بكل سرور وتتلهف إلى سماع الإطراءات. وإذا كان هذا الحزب، كالشخص، شايف حاله وغير مصدق، ينضم هو الآخر إلى جوقة المداحين ويبدأ بعرض إنجازاته الخارقة حتى يسكر طربا على صوت المدائح والموسيقى. وفي اليوم التالي، بعد ما يسلم قاعة الاحتفالات إلى أصحابها يعود ليأخذ دوره الطبيعي على هامش السياسة وعلى هامش التاريخ.
في هذه الأجواء احتفل الحزب الشيوعي الإسرائيلي بعيد ميلاده التسعين. أولا وقبل كل شيء مبروك وعقبال ال190 وأكثر. والآن لنضع أقدامنا مرة أخرى على أرض الواقع.
تأسس الحزب الشيوعي في روسيا عمليا في عام 1903 عندما قاد لينين انشقاق البلاشفة عن الحزب الاشتراكي الديمقراطي الروسي، وحتى عام 1917 كان وراءه ثورتان الأولى عام 1905 فشلت ولكن خرج الحزب منها أقوى والثانية تكللت بالنجاح بعد أن دك احد أعتى الأنظمة رجعية. وبعدها، من غير توقف، خاض حربا أهلية مدعومة من قوى عالمية عظمى وانتصر عليها وبدأ في تشييد أول دولة اشتراكية وخاض الحرب العالمية الثانية ضد النازية الشرسة وانتصر عليها. مثل هذا الحزب لو احتفل بعيد ميلاده العاشر أو العشرين أو الثلاثين وتحدث عن إنجازاته فهو يستحق ذلك. ولكن ككل إنسان عظيم تكون حياته عريضة وعميقة وإن لم تكن طويلة، مات مبكرا وترك الأحزاب التي تسمي نفسها شيوعية يتيمة تتخبط في الظلام مع أوهامها، ولكن هذه قصة أخرى.
الحزب الشيوعي الصيني ولد عام 1921 أي بعد ولادة الحزب الشيوعي الإسرائيلي، ومنذ لحظة ولادته تعرض إلى مؤامرات ومجازر لتصفيته ولكنه خاض حربا بلا هوادة ضد الإقطاعيين وأمراء الحرب المحليين وضد المحتلين اليابانيين، وقبل أن يحتفل بعيد ميلاده ال30 كان يحرر أكبر دولة في العالم من حيث السكان ويبني الصين الجديدة. فلو احتفل هذا الحزب بعيد ميلاده وتكلم عن إنجازاته لأخرس جميع المتطاولين.
الحزب الشيوعي الفيتنامي، الذي ولد عام 1941 بقيادة هو تشي منه، خاض منذ لحظة ولادته الأولى الحرب ضد الغزاة اليابانيين وعندما انتهت الحرب العالمية الثانية وحاولت فرنسا العودة لاستعمار فيتنام تابع الحزب الشيوعي الفيتنامي حربه التحريرية حتى انتصر على الاستعمار الفرنسي وأجبره على الرحيل. وتابع الحزب الشيوعي الفيتنامي نضاله لتحرير الجزء من الوطن الذي بقي تحت سلطة العملاء المدعومين من الامبريالية الأمريكية الجديدة حتى حقق الانتصار النهائي في عام 1975. مثل هذا الحزب لو احتفل بعيد ميلاده وتكلم عن إنجازاته فما علينا إلا أن نحني هاماتنا احتراما وتقديرا.
ولكن أن يقف أحد قادة الحزب الشيوعي الإسرائيلي على المنصة ويترنح طربا ويقول: " إن الحزب الشيوعي الإسرائيلي هو قائد الانجاز الأكبر للشعب الفلسطيني في أماكن وجوده كافة، من خلال قيادته لبقاء الجماهير الفلسطينية في وطنها، ويقابل بالتصفيق؟ أليست هذه جريمة في حق التاريخ؟ ويتابع هذا الحزبي التعيس أضغاث أحلامه ويقول:" أن الحزب الشيوعي الإسرائيلي أعاد بناء الشعب الفلسطيني من خلال الحفاظ على لغته وصنع أيامه الوطنية كيوم الأرض الخالد وبناء المؤسسات والأطر الوحدوية..." هذا إذا أضفنا خطابات النفاق التي تخرج من اللسان ولا تتجاوز الآذان والتي تكرم بها ممثل سلطة رام الله المنهارة وممثل حزب الشعب الهلامي الذي لم يتخذ يوما موقفا مستقلا ورئيس لجنة المتابعة ورئيس بلدية حيفا، تحلو الحفلة ويحلو الرقص.
ولكن بصفتي فردا من هذا الشعب المنكوب، فردا كان وما زال يحلم بمجتمع شيوعي حقيقي خال من القهر ومن استغلال الإنسان للإنسان، لا أستطيع أن أرقص على هذه الألحان النشاز.
الحزب الشيوعي الإسرائيلي، الذي ولد باسم الحزب الشيوعي الفلسطيني وغير اسمه بعد ولادته الثانية مع ولادة أمه الثانية، دولة إسرائيل عام 1948، ولد عن طريق الخطيئة بتزاوج الأفكار الشيوعية مع المشروع الكولونيالي الصهيوني. ومنذ اليوم الأول لولادته وحتى يومنا هذا وهو يحمل أوزار خطيئته هذه.
لقد آن الأوان أن يستفيق الرفاق وخصوصا من قطاع الشبيبة الذين لم يتم إفسادهم كليا بعد وينظروا إلى التناقض الصارخ الذي يحمله اسم حزبهم في أحشائه: "الحزب الشيوعي الإسرائيلي". هل يعقل أن يولد حزب شيوعي حقيقي من صلب مشروع استيطاني عنصري؟

Tuesday, November 03, 2009

وماذا عن "بلفورات" العرب

وماذا عن "بلفورات" العرب؟
علي زبيدات - سخنين

قبل عدة أيام مرت الذكرى ال92 لوعد بلفور. ما أشبه اليوم بالأمس. وكأننا لا رحنا ولا جئنا. في هذه المناسبة وعلى ضوء ما قرأته في وسائل الإعلام العربية التي نشرت ما جادت به أقلام من يعدون أنفسهم مفكرين قوميين أو إسلاميين أو شيوعيين، أستذكر مقولة كارل ماركس الشهيرة: التاريخ يعيد نفسه مرتين مرة بشكل تراجيدي ومرة أخرى على شكل هزلي. ولكن في هذه المناسبة، وأعذروني على وقاحتي، أود أن أصحح مقولة معلمي الكبير: التاريخ يعيد نفسه مرتين، مرة بشكل تراجيدي ومرة أخرى بشكل أكثر تراجيدية.
حوالي القرن مر على وعد بلفور وما زلنا نجتر الكلمات نفسها ونكيل الشتائم نفسها ونعيد التبريرات والأعذار نفسها. لم نتعلم أي شيء من التاريخ وخصوصا لم نتعلم أي درس من هذه التجربة الوجودية الخاصة. ما رأيكم، لقد قرأت أكثر من عشرة مقالات في هذه المناسبة وكلها تكرر بصوت ببغاوي: وعد بلفور المشؤوم... لا أدري من أول من أطلق هذه الصفة على هذا الوعد، وما كانت منطلقاته الفكرية وموقفه السياسي، وهو بلا شك كان على حق تماما بإلصاق هذه الصفة به. ولكن بعد 92 سنة لا نجد كلمة أخرى نصفه بها؟ إن هذه لمصيبة.
في ذلك الوقت قدم وزير الخارجية البريطاني بلفور باسم الحكومة البريطانية وعدا للحركة الصهيونية بمساعدتها ودعمها حتى تحقيق هدفها بإقامة "وطن قومي" لليهود في فلسطين. إذن، لم يكن هذا التصريح سوى الخطوة الأولى في سياسة استمرت حتى الإعلان عن قيام دولة إسرائيل وما زالت مستمرة بأشكال أخرى إلى يومنا هذا. تلت هذه الخطوة قيام بريطانيا باحتلال فلسطين تحت اسم الانتداب من أجل تنفيذ هذا الوعد على أرض الواقع. وقد ذكر هذا الهدف بشكل واضح لا يقبل التأويل في صك الانتداب. في الوقت نفسه كانت الزعامات العربية تتهافت على بريطانيا وتحاول أن تقنعها بأنها سوف تخدم مصالحها في المنطقة بشكل أفضل مما تستطيع أن تقدمه الحركة الصهيونية، وكانت تعمل المستحيل لكي تعبر عن صداقتها لهذه الدولة الاستعمارية، وكانت تطير في الفضاء فرحا عند سماعها لوعود وهمية بمنحها الاستقلال.
ماذا تغير منذ ذلك الوقت وحتى الآن. ها هو حفيد بلفور، طوني بلير مبعوث الرباعية للسلام في الشرق الأوسط يصول ويجول في العواصم العربية ويستقبل بالأحضان وهو يحاول إقناع الحكام العرب بتقديم المزيد من التنازلات لإسرائيل والتطبيع معها على أمل تحقيق السلام المفقود.
منذ قرن من الزمان ونحن نتبع مثلنا العربي الذي يقول: "اليد التي لا تستطيع أن تكسرها، قبلها وأدعو عليها بالكسر".
إذا كان وعد بلفور مشؤوما فماذا نقول عن قبولنا لقرار تقسيم فلسطين وعن الاتفاقيات الخيانية من كامب ديفيد إلى وادي عربة إلى اتفاقيات أوسلو إلى مبادرة السلام العربية وحتى المفوضات العبثية الراهنة؟.
من السهل جدا أن نصب جام غضبنا على بلفور وعلى وعده بعدما أصبحا في ذمة التاريخ وفي الوقت نفسه نقبل وندافع عن كل ما تمخض عنه هذا الوعد.
الحلول التي تطرح اليوم لتصفية القضية الفلسطينية أسوأ بما لا يقاس من وعد بلفور. على الأقل ذكر هناك: " على أن يفهم جلياً أنه لن يؤتى بعمل من شأنه أن ينتقص من الحقوق المدنية والدينية التي تتمتع بها الطوائف غير اليهودية المقيمة الآن في فلسطين، ولا الحقوق أو الوضع السياسي الذي يتمتع به اليهود في البلدان الأخرى". بينما كل الأعمال التي تتم اليوم في سياق ما يسمى بالعملية السلمية ليس فقط أنها تنتقص حقوقنا المدنية والدينية بل تشطبها تماما. وهي أيضا تتعامل معنا كما ينص وعد بلفور أي كطوائف غير يهودية وليس كشعب.
"البلفورات" العرب من شريف مكة وسلالته مرورا بالحكام العرب على مر عصورهم وحتى رئيس السلطة الفلسطينية وباقي إخوانه في جامعة الدول العربية هم أشد شؤما من آرثر جيمس بلفور وزير الخارجية البريطانية.
تغيرت الأسماء ولكن السياسة واحدة والمؤامرة واحدة. بالأمس كان لويد جورج ووزير خارجيته بلفور واليوم غوردن براون ومبعوثه طوني بلير.
تصريح بلفور هو جريمة ضد الإنسانية قبل أن يكون جريمة في حق الشعب الفلسطيني والأمة العربية. وكما هو متعارف عليه عالميا، الجرائم ضد الإنسانية لا تسقط بالتقادم. فبدلا من الاكتفاء بكيل الشتائم ووصفه بالوعد المشؤوم في كل ذكرى دعونا نعمل على ملاحقة مصدري هذا الوعد وأحفادهم من الساسة البريطانيين الحاليين في كافة المحافل الدولية وتقديمهم إلى العدالة لمعاقبتهم على جرائمهم ولنبدأ بتقديمهم إلى محكمة الشعب الفلسطيني الشعبية الثورية.

لا للمصالحة لا للإنتخابات

لا للمصالحة لا للانتخابات
علي زبيدات – سخنين

كفى، لقد فقئوا أعيننا وأصموا آذاننا بالكلام المجتر والسقيم منذ أكثر من ثلاث سنوات حول الحوار الوطني والوفاق الوطني والمصالحة الوطنية والوحدة الوطنية. تعددت التسميات والشعارات والمضمون واحد وهو العكس تماما مما تعنيه هذه الكلمات. لقد آن الأوان أن تذبح بعض البقرات المقدسة على مذبح الحقيقة. لقد آن الأوان أن تحطم بعض الأصنام التي نعبدها. لقد آن الأوان أن يقولها أحدنا بصوت عال، من غير لف أو دوران وبدون كلمات تؤول إلى أكثر من معنى: إلى الجحيم أيتها المصالحة، إلى الجحيم أيتها الوحدة لأنه لا يوجد بك رائحة الوطنية. لا يمكن الاستمرار في خلط الأوراق. لا يمكن الاستمرار في التلاعب بالألفاظ ومن خلالها التلاعب بقضية شعب كامل.
أنا شخصيا مع الصراع ولست مع الوحدة. الصراع مطلق أما الوحدة فهي نسبية. الشعب الفلسطيني المشرد والمشتت والمضطهد الذي يلملم جراحه المفتوحة منذ أكثر من نصف قرن ويناضل من أجل استعادة صورته الإنسانية من خلال تحرير أرضه وعودته إلى وطنه هو في حالة صراع مطلق مع الكيان الذي شرده وأغتصب أرضه. الوحدة ضرورية بين القوى التي تقود هذا الصراع إلى نهايته الطبيعية وليس مع القوى المارقة التي تخدم العدو القومي والوطني والطبقي. من خلال تجارب الشعوب التي ناضلت وتناضل من أجل حريتها واستقلالها، وفي خضم الصراع تتساقط أوساط معينة كانت في بعض الفترات محسوبة على القوى الوطنية، تنتقل إلى المعسكر الآخر وتصبح مطية للمحتلين. الوحدة مع هذه الأوساط ليست وحدة وطنية، بل هي وحدة لا وطنية. على القوى الوطنية الحقيقية أن تعمل على استمرارية الفرز، أن تعمل على فصل القمح من الزوان. وليس ما نراه اليوم على الساحة الفلسطينية من خلط مريع للأوراق، من طمس الفوارق بين طريقي المقاومة والمساومة.
هل التنسيق الأمني مع الاحتلال يخدم الوحدة الوطنية؟ هل تدريب وتسليح قوى أمنية تأتمر بأوامر الكولونيل الأمريكي دايتون والمخابرات الإسرائيلية تخدم المصالحة الوطنية؟ هل الاستمرار في المفاوضات العبثية إلى ما نهاية وتقديم المزيد من التنازلات حتى التخلي الكامل عن الثوابت الوطنية تسمى وفاقا وطنيا؟
لماذا يقود رئيس مخابرات عربي مرتبط بالمعسكر الأمريكي الإسرائيلي حتى النخاع جلسات ما يسمى بالحوار الوطني؟ ولماذا يجري الكلام فقط عن أمور شكلية وتقنية مثل تركيب الحكومة وتوزيع الوزارات وتحديد الصلاحيات ويتم تجاهل الناحية السياسية بالكامل؟ أليست القضية الفلسطينية هي قضية سياسية أولا وأخيرا؟ لماذا لا يدور الحوار عن الإستراتيجية الأفضل لإدارة النضال الوطني حتى تحقيق أهدافه؟
أمامنا طريقان متوازيان لا يلتقيان أبدا. طريق المقاومة وطريق المساومة. وعندما يتم تلاقي هذين الطريقين بواسطة الضغط والابتزاز والوعود الكاذبة حتما ستقع الكارثة الأعظم.
في هذه السياق، أصدر الرئيس الفلسطيني، المنتهية صلاحيته والفاقد للشرعية مرسوما لأجراء الانتخابات في كانون الثاني القادم. هذا المرسوم التعيس، الصادر عن مؤسسة أتعس لا يثير إلا الشفقة والسخرية. وكما يقول المثل: شر البلية ما يضحك. لنبدأ من النهاية، حتى لو كانت الانتخابات حرة ونزيهة فإن نتائجها لن تقبل إذا كان الفائز غير الفريق الذي يحظى بدعم أمريكا وإسرائيل والرجعية العربية، كما كانت الحالة في الانتخابات الماضية قبل 3 سنوات. ولكن في هذه المرة تعلم الفريق الخاسر الدرس وشطب كلمة نزاهة من قاموسيه. ما يجري الآن في الضفة الغربية هو عملية رشوة جماعية وتزييف واسعة النطاق تصل إلى كل قرية ومدينة فلسطينية. وفي المقابل يتم سجن وتهديد كل من تسول له نفسه الحياد عن الثلم المرسوم. هذا إذا أضفنا حالة الانقسام السياسي والجغرافي بين الضفة الغربية وقطاع غزة تجعل كل عملية انتخابية مهزلة.
ولكن يجب رفض الانتخابات لاعتبارات أخرى أهم مما تقدم بما لا يقاس. أولا، تجري هذه الانتخابات التي قد تؤثر على مصير القضية الفلسطينية ككل في الضفة الغربية وغزة فقط حيث يسكن أقل من نصف الشعب الفلسطيني، بينما تبقى باقي الجماهير الفلسطينية في الشتات وفي الأراضي المحتلة عام 1948 في موقف المتفرج. مثل هذه الانتخابات ليست فقط أنها لا تمثل عموم الشعب الفلسطيني بل أيضا ترسخ وتكرس حالة التمزق التي يعاني منها. وثانيا، ما هي ضرورة الانتخابات في ظل الاحتلال؟ الانتخابات سوف تفرز مجلسا تشريعيا، مثل هذا المجلس معطل ونصف أعضائه أسرى بالسجون الإسرائيلية أو سجون السلطة. مثل هذه الانتخابات سوف تفرز حكومة وسوف يقوم أي جندي إسرائيلي على الحاجز بتشليح رئيس الحكومة من ثيابه وتفتيشه بشكل مذل. في ظل الاحتلال لا يوجد هماك مكان لا لانتخابات تذر الرماد في الأعين ولا لمجلس تشريعي معطل ولا لحكومة لا تملك من أمرها شيئا. الرد على الاحتلال هو المقاومة بكافة أشكالها وفقط المقاومة.
هنا استغرب الموقف الانتهازي الذي تتخذه الجبهة الشعبية لتحرير فلسطين. وكذلك فصائل المقاومة الأخرى وعلى رأسها حماس. لا يمكن مسك الحبل من طرفيه. لا يمكن أكل الكعكة والإبقاء عليها سالمة في الوقت نفسه. لا يمكن أن تكون ضد اتفاقيات أوسلو وضد كل ما انبثق عنها وتستمتع ببعض ما جلبته هذه الاتفاقيات. الانتخابات هي من إفرازات أوسلو الخبيثة التي تخدع أوساط واسعة من الشعب الفلسطيني ويجب تعريتها. الانتخابات في ظل الاحتلال ليست تعبيرا عن الديمقراطية ولا عن الوعي السياسي، بل العكس من ذلك تماما هدفها الرضوخ للأمر الواقع، واقع الاحتلال.
اتفاقيات أوسلو سقطت منذ زمن طويل ولكن عقلية أوسلو المترعة بالأوهام والتفريط ما زالت تعشش في رؤوس الأوساط المتنفذة التي تتلاعب بمصير الشعب الفلسطيني. مقاومة هذه العقلية لا يقل من حيث الأهمية عن مقاومة الاحتلال.

Wednesday, October 21, 2009

حول لجنة المتابعة وقضايا خلافية أخرى

حول لجنة المتابعة وقضايا خلافية أخرى
علي زبيدات - سخنين

نشر المحامي أيمن عودة، سكرتير الجبهة الديمقراطية للسلام والمساواة على موقع الجبهة الالكتروني "دراسة" بعنوان: لجنة المتابعة العليا – لجنة منتخبة أم لجنة منتخبين؟" يتناول بها وجهة نظر الحزب الشيوعي الإسرائيلي والجبهة بصدد لجنة المتابعة من حيث أهميتها ومستقبلها وعلاقة الجماهير الفلسطينية مع الدولة ومع الأغلبية اليهودية ودور الأحزاب والحركات المكونة لهذه اللجنة وأخيرا موقف الحزب من إعادة بناء هذه اللجنة من خلال انتخابها.
هذه المقالة ليست ردا على هذه"الدراسة"، هذا إذا ما اعتبرنا ما كتبه أيمن عودة دراسة أصلا. ما وجدته هناك هو سرد تاريخي تتخلله بعض الأفكار والمواقف المعروفة للحزب مع بعض الشطحات لإعادة كتابة التاريخ بحيث يكون الحزب وتاريخه ونضاله محور القضية. ليست هذه المقالة سوى ملاحظات عابرة ولكنها متمردة ترفض "الحقائق" المحسومة بشكل اعتباطي التي تنضح بها هذه الدراسة في أمور تهمنا جمعينا وتقول: للتزييف حدود يا رفيق.
طبعا كل شخص يستطيع أن يقول عن نفسه ما يريد، وكما يقول المثل: لا ضريبة على الكلام. وكذلك الأحزاب والحركات السياسية تستطيع أن تقول وتكتب عن نفسها ما تريد. تستطيع أن تدعي الانتصارات مع أنها تحمل على كاهلها هزائم لا تعد ولا تحصى. وتستطيع أن تتفاخر بالانجازات الوهمية وتصدق نفسها. وتستطيع أن ترفع الشعارات السامية وتطبق نقيضها. وبما أننا لا نحكم على الشخص من خلال كلامه عن نفسه، بل من خلال ممارساته العملية والفكرية، كذلك لا نستطيع أن نحكم على الأحزاب والحركات السياسية من خلال ما تقوله وتكتبه عن نفسها، بل من خلال ممارساتها العملية وفكرها السياسي.
بالنسبة للكلام المجتر منذ سنوات طويلة حول إعادة بناء لجنة المتابعة تبلور هناك موقفان. الأول: تمثله الحركة الإسلامية الشمالية والتجمع الوطني الديمقراطي وأبناء البلد، هذا بالرغم من التفاوت والاختلافات في التفاصيل فيما بينها. والذي يدعو إلى انتخاب لجنة المتابعة عن طريق انتخابات حرة وعامة. والثاني: الموقف الذي تقف في محورة الجبهة الديمقراطية والحزب الشيوعي الإسرائيلي وبعض الجهات الأخرى والذي يتلخص بالحفاظ على الوضع الراهن مع بعض التحسينات في الأداء. بما أن عماد لجنة المتابعة هم أعضاء الكنيست العرب وهم أعضاء منتخبون، ورؤساء البلديات والمجالس المحلية وهم أيضا منتخبون، إذن ما ضرورة انتخابات جديدة تسيء أكثر إلى علاقتنا مع الدولة ومع الأغلبية اليهودية وخصوصا مع "القوى الديمقراطية اليهودية"؟
ويضيف أيمن عودة سببا وجيها آخرا إلى تحفظه من انتخاب لجنة المتابعة. وهو أن الانتخابات في وسطنا العربي تجري على أساس العائلية والطائفية والمصالح الفئوية الضيقة، فما الذي سيمنع نسخ هذه المضامين إلى انتخابات لجنة المتابعة؟ بالإضافة إلى ذلك فإن نصف المصوتين لا يصلون إلى صناديق الاقتراع أصلا وحوالي نصف الذين يصلون يدلي بصوته للأحزاب الصهيونية.
حسب رأيي، السؤال الرئيسي هنا والذي يتحاشى الخوض في غماره كلا المعسكرين، ليس إذا كنا نريد لجنة متابعة منتخبة أو لجنة متابعة من منتخبين. بل إذا كنا أصلا بحاجة إلى لجنة متابعة بهذا المضمون؟
ما هي ضرورة وجود لجنة تكرس تمزقنا وتشرذمنا؟ ما هي ضرورة وجود لجنة تدعي تمثيل جزء معين من الشعب الفلسطيني وتبقيه بعيدا عن باقي أجزائه؟
في بداية سنوات الستين وحتى نهاية سنوات الثمانين كنا نعتبر، بغض النظر عن انتماءاتنا التنظيمية ومشاربنا السياسية، منظمة التحرير الفلسطينية هي الممثل الشرعي الوحيد للشعب الفلسطيني في جميع أماكن تواجده. في ذلك الوقت كان الحزب الشيوعي الإسرائيلي، ومن ثم الجبهة الديمقراطية، يسبح ضد التيار. إذ كان يطمح بل يعتبر نفسه بأنه هو الذي يمثل فلسطينيي الداخل وليس منظمة التحرير.
أحيت منظمة التحرير الفلسطينية في بداية عهدها، وبالرغم من جميع سلبياتها ومساوئها، حلما بوحدة الشعب الفلسطيني رغما عن حالة اللجوء والشتات، حلما بضرورة وإمكانية التحرير. غير أن هذا الحلم قد اندثر وزال أو أصبح في أغلب الحالات كابوسا مزعجا. فالمنظمة أصبحت تنظيمات متنافرة أو متناحرة، ومفهوم التحرير تم شطبه نهائيا من قواميسها مع شطبه من الميثاق الوطني الفلسطيني في أعقاب اتفاقيات أوسلو، ولم تعد فلسطينية مع تغلغل الأنظمة العربية والقوى الامبريالية إلى شرايينها.
الشعب الفلسطيني بحاجة إلى منظمة تحرير فلسطينية جديدة تعيد اللحمة إلى أجزائه الممزقة، تعيد حلم تحرير الأرض والإنسان والعودة، تكون فلسطينية قلبا وقالبا، ليست مستقلة عن الرجعية العربية والقوى الامبريالية فحسب بل معادية لهما. تكون جزءا من حركة التحرير الوطنية العالمية ليس لفظا بل عملا وممارسة. فقط في ظل وجود منظمة كهذه تستطيع الجماهير الفلسطينية التي تعيش ظروفا خاصة أن تتنظم محليا بما ينسجم مع الرؤيا الشاملة للتحرير.
الجريمة التي تقترفها لجنة المتابعة بكافة مركباتها، التي تريد إعادة بنائها عن طريق الانتخابات والتي تريد أن تحافظ على شكلها الراهن، أنها تتعامل مع جماهيرنا كأقلية، ضاربة بعرض الحائط الحقائق الدامغة التي تقول أننا جزء من أمة تعد 350 مليونا ومن شعب يقارب العشرة ملايين، فمن الأقلية هنا ومن الأغلبية؟ هل الحدود اللاشرعية التي تمزق الوطن الواحد والأمة الواحدة وسياسة التهجير والتطهير العرقي هي التي تحدد الأقلية والأغلبية؟
لست ضد تنظيم الجماهير الفلسطينية في كل مكان تتواجد فيه، بل على العكس، فإن تنظيمها ضرورة حياتية ومصيرية، ولكن بشرط أن يكون الأفق الوحدوي العابر لواقع التجزئة هو الحاسم.
لجنة المتابعة العليا في صيغتها الراهنة هي رافد آخر يلتقي مع الكنيست الصهيوني والسلطة المحلية هدفه تدجين الجماهير الفلسطينية وسلخها عن انتمائها الطبيعي. أقنعة الشعارات الرنانة لا تستطيع أن تخفي هذه الحقيقة. الشعب الفلسطيني في كافة أماكن تواجده مطالب الآن أكثر من أي وقت مضى بانطلاقة ثورية جديدة تعيده إلى التاريخ البشري.

Wednesday, October 14, 2009

التطبيع الثقافي وأهدافه غير الثقافية

التطبيع الثقافي وأهدافه غير الثقافية
علي زبيدات – سخنين

تحيرنا في تسمية المجموعة السكانية التي لم تغادر منازلها وبقت متشبثة بأراضيها بعد عام النكبة وإقامة دولة إسرائيل. أوساط لا بأس بعددها تعرف نفسها بكل بساطة بعرب إسرائيل ويعلنون ولاءهم للدولة بكل مناسبة ومن غير مناسبة واندمجوا بالمشهد الإسرائيلي بقدر ما تتيح لهم القوانين العنصرية المؤسسة لهذه الدولة وواقع التمييز العنصري. ومنهم من يعرف نفسه: بالعرب الفلسطينيين سكان دولة إسرائيل أو الأقلية القومية الفلسطينية من مواطني دولة إسرائيل. أما الأحزاب والتنظيمات الأكثر راديكالية فتنعت نفسها بفلسطينيي الداخل حيث يصبح سكان جنين ونابلس وغزة ولاجئي المخيمات: "فلسطينيي الخارج". كل ذلك لكي يتحاشوا التعريف الوحيد الواقعي وهو أن كل فلسطين ترزح تحت الاحتلال وكل فئات الشعب الفلسطيني بغض النظر عن أماكن تواجدها تعاني من هذا الاحتلال. وفي النهاية فإن الفوارق في ممارسات الاحتلال هي نسبية ومشروطة ولا تغير من طبيعة وجوهر الاحتلال الاستيطاني شيئا.
إذن ما يميز هذه المجموعة السكانية من محافظيها إلى راديكاليها هو علاقتهم بالدولة. هذه العلاقة تتراوح بين القبول التام وبين التحفظ النسبي. وهذا ما نلمسه من الوثائق الصادرة عن مؤسسات رسمية أو أكاديمية تدعي تمثيل هذه المجموعة السكانية مثل "التصور المستقبلي" الصادر عن لجنة المتابعة العليا للجماهير العربية في إسرائيل و"وثيقة حيفا" الصادرة عن مركز مدى الكرمل و"الدستور الديمقراطي" لمؤسسة عدالة. وهذا ما تتضمنه بشكل أو بآخر البرامج السياسية لكافة الأحزاب العربية.
النتيجة أن جميع من يدعي تمثيل هذه المجموعة السكانية يريد أن يستمتع بكلا العالمين: عالم الرفاهية الذي تؤمنه الدولة المتطورة التي تحظى بدعم وتأييد العالم وتنهمر عليها الأموال من جميع الاتجاهات. وعالم الانتماء إلى شعب منكوب يصارع من أجل بقائه.
تطبيع العلاقة بين هذه المجموعة السكانية والدولة التي تحتلهم ليس جديدا فقد بدأ قبل قيام الدولة ولم يتوقف حتى هذا اليوم. هذا التطبيع لا يقتصر على النواحي السياسية واليومية بل يتعداه إلى ما يسمى بالتطبيع الثقافي وهذا حسب رأيي أخطر أنواع التطبيع وذلك لأنه لا يحظى بالاهتمام الكافي وبالتالي لا يقاوم بالشكل المطلوب. وكذلك لأن مخاطرة بعيدة المدى تؤدي إلى تحولات جذرية في جوهر الصراع لا يمكن تلافي عواقبها الوخيمة إذا استفحلت.
في العام الماضي أو الذي سبقه أذكر أني تلقيت رسالة من صديقة عزيزة لا غبار على انتمائها الوطني الصادق تدعوني إلى مشاهدة مسرحية "هادفة" تعرض في إطار مهرجان "مسرحيد" الذي يقام سنويا في مدينة عكا،بصفتي شخص مثقف يحب المسرح. فطلبت من صديقتي أن ترسل لي ما لديها من معلومات عن المسرحية والمهرجان. فوجدت أن مدير المهرجان هو قاض متقاعد وتذكرت أنه حكم علي شخصيا بالسجن ودفع الغرامات عدة مرات وتذكرت وجوه الناس الغلابة الذين كانوا يملؤون قاعته ينتظرون أحكامه بهدم منزلهم أو إرغامهم على دفع الغرامات الناهضة. ووجدت أن ضيف الشرف في هذا لمهرجان هو الوزير العربي الأول للثقافة والرياضة وضيف الشرف الثاني هو نائب المدير العام لهذه الوزارة المسؤول عن ميزانية بعض الشواقل لنشر "الثقافة" في الوسط العربي.
اعتذرت من صديقتي شارحا لها دوافعي، فقالت: ولكن المسرحية ملتزمة وأنا اعرف المخرج شخصيا وهو إنسان وطني معروف. فقلت لها واضعا حد للنقاش: على المخرج الوطني أن يجد إطارا آخرا لعرض مسرحيته "الملتزمة".
في هذه السنة أيضا، أقيم في مدينة عكا مؤخرا مهرجانان من هذا النوع: مهرجان "مسرحيد" ومهرجان "المسرح الآخر". وجوه بعض الضيوف قد تغيرت. إذ لم يعد لدينا وزير ثقافة، حيث لبس هذه القبعة شخص آخر. بالمقابل كان المهرجانان تحت رعاية رئيس بلدية عكا الذي تعرفه الجماهير العكية جيدا بسياسته العنصرية.
أحد النشيطين في هذا المهرجان وهو مسرحي معروف وينتمي (أو هو فقط مقرب) إلى حزب وطني جدا يفتخر بأن التواجد العربي في هذا المهرجان لم يكن مسبوقا، حتى أن الجائزة الأولى حازت عليها بالمناصفة مسرحية عربية وكذلك الجائزة الثانية. طبعا يجب أن تكون الجائزة بالمناصفة لإرضاء كلا الطرفين. ويضيف هذا المسرحي "الملتزم" معترفا: " المواطن العربي كان بعيدا عن المشاهدة". ويعزو ذلك إلى عدم الاهتمام الإعلامي الكافي لوسائل الإعلام العربية مخفيا الأسباب الحقيقية التي تتلخص بشعور المشاهد العربي بالاغتراب وعدم الانتماء لا من قريب ولا من بعيد لهذا المهرجان. بالإضافة إلى القيمين والراعين الرسميين لهذا المهرجان كانت هناك مجموعة كبيرة من الفنانين المتسولين على أبواب الوزارة والانتهازيين على أشكالهم. من ضمنهم على سبيل المثال لا الحصر، عريفة المهرجان ميرا عوض وصديقتها أحينوعم نينو التي مثلت دولة إسرائيل في مهرجان الأوروفيزيون بينما دماء أطفال غزة لم تجف بعد.
المشاهد العربي لا يكون بعيدا عندما يشعر بالانتماء الحقيقي ومدينة عكا تشهد على ذلك. ومن يشك في ذلك عليه زيارة عكا في أيام الأعياد لكي يرى بأم عينه مدى محبة الجماهير العربية لهذه المدينة. فبدلا من مهرجانات التطبيع والتعايش على المخلصين من فنانينا أن يعرضوا فنهم في مثل هذه المناسبات حيث الجماهير الغفيرة.
يبرر بعض المثقفين نشاطاتهم التطبيعية على أنها الطريقة الوحيدة للحصول على بعض الميزانيات. عندما تصبح الثقافة سلعة رخيصة تباع في المزاد العلني فيجب الإلقاء بها إلى سلة المهملات لأنها تصبح قمامة وليست ثقافة.من أجل الحفاظ على هويتنا الوطنية علينا مقاومة ومقاطعة التطبيع الثقافي بكافة صوره وإشكاله.

Friday, October 09, 2009

فضيحة جولدستون: لا حدود للنذالة

فضيحة جولدستون: لا حدود للنذالة
علي زبيدات – سخنين

ما زالت أوساط فلسطينية وعربية ودولية واسعة وخصوصا المؤسسات العاملة في مجال حقوق الإنسان تأبى أن تصدق وصول نذالة السلطة الفلسطينية إلى درجة المبادرة لسحب مناقشة تقرير جولدستون في مجلس الأمم المتحدة لحقوق الإنسان وإرجاء التصويت عليه لمدة ستة أشهر.
ولكن ما الغريب في هذا الأمر؟ وهل تصرف السلطة الفلسطينية هو مجرد نذالة أم يتجاوزها إلى درجة الخيانة؟ حسب رأيي لا تناقض بين الصفتين بل إن إحداهما تكمل الأخرى: فالنذالة المنفلتة من عقالها تقود بخطوات سريعة إلى الخيانة، والخيانة بدورها لا يصدر عنها إلا تصرفات نذيلة إلى أبعد الحدود.
نحن لا نقف هنا أمام ظاهرة فريدة من نوعها تنفرد بها السلطة الفلسطينية. تشير تجارب الشعوب التي ناضلت وما زالت تناضل من أجل حريتها واستقلالها إلى ظواهر عديدة من هذا الصنف. لنأخذ فيتنام كمثل: بينما كانت جماهير الشعب الفيتنامي، وعلى رأسها محاربي الفيتكونغ والحزب الشيوعي الفيتنامي، تخوض نضالا مريرا ضد الغزاة الأمريكان (ومن قبلهم الفرنسيين) كانت أوساط واسعة من الفيتناميين تحارب إلى جانب الجيش الأمريكي المحتل. حتى تم التحرير والاستقلال وتكنيس الطرفين معا. الظاهرة نفسها نشهدها اليوم في العراق وأفغانستان،.إلى جانب المقاومة الشعبية ضد المحتلين الأجانب نمت وترعرعت سلطات عميلة بشكل مباشر. ولماذا نذهب بعيدا، فحتى سنوات قليلة مضت قامت سلطة من هذا النوع على حدودنا الشمالية ممثلة بقوات أنطون لحد العميلة في جنوب لبنان، حتى جاءت المقاومة اللبنانية سنة 2000 وكنست المحتل والعميل معا.
السلطة الفلسطينية لا تختلف من حيث الجوهر عن هذه الشوائب التي تلتصق بمسيرة الشعوب التحررية. أوجه الشبه بين كرزاي والمالكي ولحد ومحمود عباس أكثر من أن تحصى، يراها حتى مكفوفي البصر والبصيرة. كل شخص منهم يقوم بدوره الذي رسم وأعد من أجله. ولكن، كما يبدو لا أحد منهم يتعلم من تجارب غيره.
لنعود إلى موضوع تقرير جولدستون، ونسأل: ما المفاجئ في الموقف المخزي الذي اتخذته السلطة بزعامة عباس؟ بعد مرور سنة على حرب الإبادة التي شنتها إسرائيل على قطاع غزة تأكدت الأخبار التي عرفها الجميع عن تواطؤ السلطة في هذه الحرب القذرة. فقد صرح وزير الخارجية الإسرائيلي ليبرمان أن محمود عباس حث إسرائيل على شن الحرب على غزة، وعندما شنتها حثها على مواصلتها حتى الإطاحة بحركة حماس. تتناول وسائل الإعلام العالمية اليوم وجود وثائق مصورة تجمع عباس مع براك وليفني تؤكد ذلك. فإذا كانت إسرائيل قد اقترفت جرائم حرب وجرائم ضد الإنسانية فإن السلطة الفلسطينية تتحمل قسم كبير من المسؤولية عن هذه الجرائم. إذن ليست الضغوط الإسرائيلية والأمريكية وحدها كانت وراء الموقف الفلسطيني الرسمي، بل المشاركة في هذه الجرائم والخوف من فضح أبعادها هي التي حسمت الموقف.
أمام هذه الفضيحة حاولت السلطة البحث عن تبريرات لتنقذ جلدها من سخط الجماهير. فادعت أولا أن الدول العربية والإسلامية هي المبادرة إلى هذه الخطوة. الأمر الذي نفاه الطرفان. مع أنه لا يمكن غض الطرف عن تواطؤ هذين الطرفين أيضا. وبعد ذلك بدأت تبحث عن أعذار أقبح من ذنوبها. فمرة تقول أن إرجاء التصويت يمنح الدول المعنية دراسة التقرير دراسة عميقة والتوصل إلى قرار بالإجماع وتارة أخرى تدعي أن مناقشة التقرير والتصويت عليه الآن سوف يعرقل "العملية السلمية".
لقد قلت من زمن بعيد، وأعود وأقولها مجددا أن سلطة أوسلو غير شرعية وهي من مخلفات اتفاقيات قد اندثرت أصلا. بناء على ذلك وباختصار شديد أضم صوتي إلى جميع الأصوات الوطنية الشريفة التي تنادي بتفكيك سلطة أوسلو وحلها نهائيا والعودة إلى طريق المقاومة والتشبث بالثوابت الوطنية. هذه السلطة غير الشرعية أحاطت نفسها بمؤسسات غير شرعية أيضا لتبرر وجودها واستمراريتها. ابتداء من مؤتمر فتح المزيف الذي عقد مؤخرا وأفرز قيادة تتماها مع الحلول التصفوية وانتهاء باللجنة التنفيذية الجديدة لمنظمة التحرير. الموقف اليوم لا يقتصر على نزع الشرعية عن هذه السلطة العميلة والعمل على حلها، بل يجب المطالبة الفورية باستقالة رئيسها ومقاضاته وطنيا هو والطغمة التي تحيط به.
لم نسمع أبدا عن حركة تحرر وطني تنسق أمنيا مع الجيش الذي يحتل أراضيها وتتعاون معه في ملاحقة المقاومين. لم نسمع أبدا عن حركة تحرر وطني يتنقل زعماءها تحت حماية مخابرات العدو. يجب على هذه المهزلة أن تتوقف.
الشعب الفلسطيني الذي قدم آلاف الشهداء خلال مسيرته الطويلة والشاقة من أجل استعادة حقوقه الطبيعية المسلوبة يستحق سلطة أفضل بما لا يقاس من هذه السلطة. لقد بلغ السيل الزبى وأصبح الصبر على هذا الوضع جريمة. على كافة الأوساط التي ما زالت الحياة تجري في أطرافها من الشعب الفلسطيني أن تتحد وتكنس هذه السلطة التي تشكل وصمة عار في التاريخ الفلسطيني المعاصر.

Wednesday, September 30, 2009

ماذا تبقى من انتفاضة الاقصى غير الذكرى؟

ماذا تبقى من انتفاضة الأقصى غير الذكرى؟
علي زبيدات – سخنين

ماذا تعني كلمة ذكرى أصلا؟ حسب رأيي الذكرى، كل ذكرى، مكونة من ثلاثة عناصر: أولا) وقوع حدث ما ذو أهمية معينة. ثانيا) نسيان أو تلاشي هذا الحدث مع مرور الوقت. ثالثا) من حين لآخر تذكر هذا الحدث وهذا ما نسميه إحياء الذكرى. وهكذا دواليك: حدث فنسيان فذكرى.
تاريخنا الفلسطيني مليء بالذكريات: هناك ذكرى النكبة، ذكرى النكسة، ذكرى يوم ، ذكرى دير ياسين وكفر قاسم وصبرا وشاتيلا. تقريبا كل يوم من أيام السنة يحمل في طياته ذكرى أو أكثر. إذن الذكرى تعني أولا وقبل كل شيء نهاية الحدث. وهذا ما يصنع الفرق مثلا بين الانتفاضة كعمل نضالي مستمر وبين إحياء ذكرى الانتفاضة. كانت أحداث أكتوبر سنة2000 جزء لا يتجزأ من انتفاضة الأقصى التي انفجرت في شتى أرجاء فلسطين. ولكن سرعان ما تمت السيطرة عليها من قبل السلطات الإسرائيلية بالتعاون مع القيادة العربية وعلى رأسها لجنة المتابعة والأحزاب السياسية والجمعيات. وسمح لهم بإحياء الذكرى فقط. حتى هذه الذكرى تم تشويهها وتقزيمها. لقد راجعت جميع البيانات التي صدرت عن لجنة المتابعة والأحزاب السياسية والجمعيات فلم أجد بيانا واحدا يقول: أن الإضراب الشامل والمسرة في الأول من أكتوبر هو بمناسبة الذكرى التاسعة لانتفاضة الأقصى. في أحسن الحالات، بعض التنظيمات التي تعد راديكالية إسلاميا أو وطنيا تكلمت عن هبة الأقصى ولكن معظم المصادر اكتفت بيوم القدس والأقصى أو ذكرى سقوط 13 شهيدا (لاحظوا، وليس سقوط 5000 شهيد سقطوا في هذه الانتفاضة) بينما الجبهة الديمقراطية للسلام المساواة التي بادرت إلى طرح الإضراب العام وضرورته هذه السنة على عكس مواقفها السابقة تتكلم عن: " ذكرى يوم القدس والأقصى وأحداث أكتوبر الأسود" (اقتباس من موقع الجبهة). لاحظوا أن ما استمر عندنا حوالي شهر كامل وفي بعض الأماكن الأخرى في فلسطين تسع سنوات تم اختزاله في يوم واحد. وإن ما جرى مجرد أحداث كحوادث الطرق مثلا. ولماذا أكتوبر الأسود؟ ألأن الجماهير أظهرت انتمائها الحقيقي وهويتها الوطنية الحقيقية وانخرطت بالانتفاضة أسوة بباقي جماهير شعبنا؟ أكتوبر 2000 كان من أشد الشهور نصاعة في تاريخنا القاتم منذ سنوات طويلة.
هل ما زالت انتفاضة الأقصى مستمرة؟ أم هل توقفت مع موت ياسر عرفات وانتخاب محمود عباس الذي صرح أكثر من مرة أن انتفاضة الأقصى جلبت المصائب على الشعب الفلسطيني مبرئا بذلك الاحتلال الإسرائيلي من جلب هذه المصائب ووصف عملياتها بالحقيرة وصواريخها بالعبثية بينما لم نسمع منه مثل هذه الألفاظ عن عمليات وصواريخ إسرائيل؟ أم هل انتهت بعد الحرب الأخيرة على غزة والكلام الذي لا ينتهي عن التهدئة؟
في الحقيقة الجواب على هذا السؤال ليس سهلا وهو يعتمد على من تسأل وما هو تعريفك للانتفاضة. وهذا موضوع يطول الخوض فيه.
بعد سقوط حوالي خمسة آلاف شهيد و50 ألف جريح (هل ما زال هناك من يحصي عدد الشهداء والجرحى؟) بالمناسبة هذه الأرقام لا تشمل ضحايا الحرب الأخيرة، نستطيع أن نقول أن الانتفاضة رسميا ما زالت مستمرة بالرغم من الجهود الإسرائيلية والعربية والفلسطينية والدولية لإنهائها. ولكن....
بالنسبة لسلطة أوسلو الانتفاضة انتهت منذ زمن والآن ما يجري بالضفة الغربية هو "الانتفاضة" المضادة، أي ملاحقة المقاومين وتصفيتهم أو زجهم بالسجون أو تسليمهم لإسرائيل. ما زالت هناك بعض جيوب المقاومة التي يجري مطاردتها من خلال التنسيق الأمني بين قوى الأمن الفلسطينية بقيادة دايتون وقوى الاحتلال الإسرائيلية.
بالنسبة لزعامتنا المحلية، الانتفاضة لم تبدأ أصلا. أي لا حاجة هناك لإنهاء ما لم يكن موجودا. كل ما الأمر كانت هناك أحداث أسفرت عن سقوط 13 شهيدا ولا مناص من إحياء هذه الذكرى لاعتبارات سياسية ضيقة.
اليوم تشمر الأحزاب السياسية العربية الإسرائيلية المنضوية تحت مظلة لجنة المتابعة عن سواعدها لإنجاح الإضراب العام والمسيرة في الأول من أكتوبر وتبث جوا من الوحدة المصطنعة ولكنها في الواقع لم تغادر تقوقعها وتربصها بغيرها من الأحزاب . في غياب القيادة الثورية التقدمية للجماهير المعبأة عفويا قد تستطيع هذه الأحزاب من جذب أوساطا واسعة من الجماهير لإنجاح نسبي للإضراب والمسيرة القطرية. ولكن ككل ذكرى سوف تنتهي في اليوم التالي وستعود هذه الأحزاب لتغط في سبات النسيان حتى الذكرى القادمة.
ينبغي على الأوساط الحية من شعبنا وقواه الطليعية أن ترفض تحويل النكبة إلى مجرد ذكرى تمهد الطريق للتنازل عن التحرير والعودة، وتحويل يوم الأرض إلى ذكرى تشكل غطاء على عمليات النهب والمصادرة الحكومية المستمرة واختزال انتفاضة الأقصى إلى يوم ذكرى واحد. فقط من خلال جعل هذه المناسبات جزء لا يتجزأ من نضال يومي ومستمر، جزء لا يتجزأ من إستراتيجية نضالية هادفة يستطيع شعبنا انتزاع حقوقه كاملة.

Tuesday, September 15, 2009

صبرا وشاتيلا - جلادو الامس اصبحوا اصدقاء اليوم


صبرا وشاتيلا – جلادو الأمس أصبحوا أصدقاء اليوم
علي زبيدات - سخنين

في مثل هذه الأيام قبل 27 عاما خرجت جماهير غفيرة من العالم العربي ومن شتى أصقاع الأرض إلى الشوارع معبرة عن سخطها واستنكارها للمجزرة الرهيبة التي اقترفتها الأيدي الآثمة الفاشية في إسرائيل ولبنان بحق الشيوخ والنساء والأطفال والمواطنين العزل في مخيمي صبرا وشاتيلا. لقد ذرفت هذه الجماهير في حينه الدموع الغزيرة وتعالت حناجرها الغاضبة بالهتاف: لن نغفر ولن ننسى.
ولكن، ويا لسخرية الأقدار، فقد نجا المجرم بجريمته، ليس فقط أنه لم يعاقب على ما اقترفته يداه، بل على العكس من ذلك فقد حظي منذ ذلك الوقت وحتى اليوم بجوائز عديدة، كان أهمها إنه أصبح صديقا حميما وحليفا إستراتيجيا. لقد تبين أن قسم كبير من الدموع التي سكبت لم تكن سوى دموع تماسيح، خصوصا تلك التي انهمرت من مآق الملوك والرؤساء والأمراء العرب والفئات المهيمنة على القرار الفلسطيني. أما الصراخ بعدم المغفرة والنسيان لم يكن سوى مسرحية للاستهلاك المحلي لا أكثر.
لقد سقط شهداء صبرا وشاتيلا مرتين: مرة بسلاح قطعان الفاشية القادمين من جانبي الحدود ومرة بسلاح ذوي القربى، سلاح الجبن والصمت والنسيان الذي يتوج حاليا باحتضان المعتدين. وغني عن القول أي السلاحين أشد مضاضة.
ما حدث في صبرا وشاتيلا كان واضحا وضوح الشمس حتى أن ماكينة الدعاية الصهيونية مهما بلغ جبروتها لم تستطع أن تطمس الحقيقة. صور الجثث المكدسة في الطرقات وباحات الدور والقبور الجماعية، التي تناقلتها وسائل الإعلام العالمية كانت، وما زالت، تتحدث عن نفسها. لقد كان التعاون وتقاسم الأدوار بين الفاشيين الإسرائيليين واللبنانيين قد بلغ ذروته وأخذ أنجع أشكاله. حيث قام الأوائل بفرض الحصار التام على المخيمين، سدوا جميع المنافذ، سلحوا وجلبوا قطعان الفاشية المحليين، أضاءوا لهم سماء المخيمين وقالوا لهم: هيا أدخلوا.
لا يعرف أحد بالضبط، حتى اليوم، عدد الشهداء الذين سقطوا، ما هي أسماءهم؟ ما هي هويتهم الشخصية؟. المصادر الأمنية اللبنانية التي أرادت أن تتهرب من مسؤوليتها وتواطؤها تكلمت عن (470) شهيدا، المصادر الإسرائيلية قالت بين (800-1000) شهيدا، غير أن المصادر الصحفية العالمية والفلسطينية أكدت أن العدد يتراوح بين 2000-3000) شهيدا. ولكن في نهاية المطاف جميع هذه الأرقام لم تكن ذات أهمية. العالم رأى وسكت. لم يكن هناك أي تحرك للكشف عن الحقائق. لم تكن أية مطالبة بمعاقبة المسؤولين. لا محكمة دولية، لا لجنة تحقيق دولية، لا شيء.
دعونا نجري هذه المقارنة: في عام 2001 بعد نسف أبراج التوأمين في نيويورك رصدت الإدارة الأمريكية سقوط 2752 قتيلا. أي تقريبا نفس ضحايا مجزرة صبرا وشاتيلا. كيف كان رد الإدارة الأمريكية على ذلك؟ قامت بشن حرب عالمية على ما يسمى الإرهاب، احتلت أفغانستان والعراق بعد أن قتلت وهجرت الملايين ودمرت البنى التحتية لهذين البلدين ولم تتورع عن التصريح بأنها تريد إعادة هذين البلدين إلى العصر الحجري. وما زال العالم بأسره يدفع ثمن ما حدث في 11/9/ 2001 حتى وإن لم يكن ذد صلة بما حدث لا من قريب ولا من بعيد.
نحن نعلم جيدا أن مجرد المقارنة بين ما حدث في نيويورك وما حدث في صبرا وشاتيلا هي وقاحة تتعدى كل الحدود بل هي جريمة لا تغتفر، إذ ما هو وجه الشبه بين المعدومين والمنبوذين من سكان المخيمات وبين أولئك الذين يمسكون في تلابيب الاقتصاد العالمي في نيويورك؟
مجزرة صبرا وشاتيلا لم تكن الأولى ولا الأخيرة التي تقترفها الدولة الديمقراطية الوحيدة في الشرق الأوسط وجيشها الأخلاقي جدا، الذي يحافظ على طهارة سلاحه كما يحافظ على بؤبؤ عينه. فقد سبقتها مجازر عديدة من دير ياسين إلى كفر قاسم إلى بحر البقر، وتلتها مجازر أخرى لا تقل عنها فظاعة من قانا الأولى إلى قانا الثانية إلى مجازر غزة الأخيرة.
يا للعار، جميع هذه المجازر تم غفرانها وتم نسيانها. وإذا ذكرها أحدنا فعلى سبيل أنها صفحة من التاريخ أكل الدهر عليها وشرب، يجب علينا أن نقلب صفحة جديدة. أليس من العار أن اللجنة الوحيدة التي حققت في هذه المجزرة الرهيبة كانت لجنة إسرائيلية والتي كان هدفها المعلن مسبقا هو تبرئة القيادة الإسرائيلية وعلى رأسها شارون من المسؤولية؟ وهي لجنة كاهان التي لم يكن أمامها إلا أن تعترف ب"إهمال" و"سوء تقدير" هذه القيادة. وتركنا بعض الناجين من المجزرة يتسولون أمام المحاكم الأجنبية عسى أن تستطيع محاسبة المجرمين بينما كانت القيادة الفلسطينية نفسها تبحث عن اقصر الطرق المؤدية إلى أحضان هؤلاء المجرمين.
في هذه الذكرى الأليمة، الذكرى ال27 لمجزرة صبرا وشاتيلا، نزف بشرى للشهداء بأن الحكومة الإسرائيلية الجديدة، أسوة بالحكومات السابقة، تعد العدة للمزيد من المجازر، وأن مزيدا من الضحايا سوف ينضمون إلى قافلة الشهداء. ولكن وكما قال أحد الشعراء: الشهادة في سبيل الوطن ليست مصيرا سيئا، بل هي خلود في موت رائع.

الدولة الفلسطينية: بنيامين نتنياهو يخطط سلام فياض ينفذ


الدولة الفلسطينية: بنيامين نتنياهو يخطط سلام فياض ينفذ
علي زبيدات – سخنين

لعلكم تذكرون خطاب أوباما في القاهرة قبل 3 أشهر والذي ألقاه مخاطبا العالمين العربي والإسلامي والذي اعتبرته وسائل الإعلام العربية والدولية خطابا تاريخيا؟ ولعلكم تذكرون أيضا كيف طارت قلوب الزعماء العرب فرحا عندما تحدث اوباما في هذا الخطاب عن التزام الإدارة الأمريكية بإقامة الدولة الفلسطينية؟ هذا بالرغم من أنه بدأ كلامه بالإشادة بالعلاقات التاريخية المميزة التي تربط أمريكا بإسرائيل ودعوة الفلسطينيين إلى نبذ العنف مع إنه بالمقابل لم يتطرق بكلمة واحدة عن العنف الإسرائيلي.
بعد هذا الخطاب "التاريخي" بفترة وجيزة وقف رئيس الحكومة الإسرائيلية، نتنياهو وأعلن للعالم عن قبوله لمبدأ قيام الدولة الفلسطينية وشرح بإسهاب تصوره لهذه الدولة الفريدة من نوعاها، التي لا يوجد لها مثيل في العالم أجمع. يجب أن تكون هذه الدولة أولا وقبل كل شيء منزوعة السلاح. السلاح الوحيد المسموح به هو سلاح الأجهزة الأمنية التي وظيفتها الوحيدة الحفاظ على الأمن الإسرائيلي. وعلى هذه الدولة أن تكون بلا حدود معترف بها، وذلك لكي لا تضطر دولة إسرائيل أن تعترف رسميا بتنازلها عن أجزاء من ارض إسرائيل هذا من جهة، ولكي تستطيع أن تدخل وتخرج إلى هذه الدولة متى تشاء من جهة أخرى، تقتل وتعتقل من تشاء وتهدم أين متى تشاء، كما تفعله حاليا. على هذه الدولة ألا تمارس أي شكل من أشكال السيادة على أرضها وجوها وبحرها. لن يدخل إليها أحد إلا بموافقتها ولن يغادرها أحد إلا من خلال حواجزها العسكرية. على هذه الدولة أن تعترف بإسرائيل كدولة قومية للشعب اليهودي وبالمقابل يجب أن تنبذ كليا فكرة عودة اللاجئين، وأن تعترف بالقدس الموحدة كعاصمة أبدية لإسرائيل. بالمقابل تستطيع هذه الدولة ، إذا أرادت، أن تختار أية قرية صغيرة في المنطقة وتطلق عليها اسم القدس وتجعل منها عاصمتها. سوف تعمل إسرائيل، بمشاركة المجتمع الدولي وأموال النفط العربية، على أن تجعل من هذه الدولة " سنغافورة" الشرق الأوسط، من خلال الاستثمار المكثف في الاقتصاد، وبناء المناطق الصناعية المشتركة التي سوف تقام على الأراضي الفلسطينية واستخدام العمالة الفلسطينية الرخيصة (لمحاربة البطالة ورفع مستوى الحياة) ولكن يجب أن تكون تحت الإدارة الإسرائيلية لكي تؤمن نصيبها من الإرباح. وهذا ما يطلق عليه نتنياهو: السلام الاقتصادي.
ظن البعض أن تصورات نتنياهو هذه حول الدولة الفلسطينية مرفوضة جملة وتفصيلا دوليا وعربيا ولكن بالأساس فلسطينيا. وتعالت الأصوات المنددة بهذه التصريحات معتبرة إياها دليلا آخرا على تعنت إسرائيل وعرقلتها التوصل إلى تسوية سلام نهائية. غير أن هذه الأصوات بدأت تخفت تدريجيا حتى تلاشت نهائيا. فالإدارة الأمريكية وجدت في خطاب نتنياهو خطوة إلى الأمام فهو في نهاية المطاف قد وافق على مبدأ الدولتين. والدول الأوروبية سارت خلف السياسة الأمريكية كعادتها. أما الدول العربية فبقيت جثة هامدة لا تحرك ساكنا، تنتظر دورها في تحويل بعض استثماراتها إلى المنطقة.
المصيبة تكمن في الموقف الفلسطيني، الذي عبر عنه مؤخرا سلام فياض، رئيس حكومة السلطة الفلسطينية المستقيل، العائد، الانتقالي، الذي لا يتمتع بأية شرعية سوى رضا ومباركة إسرائيل وأمريكا ، من خلال الإعلان عن برنامج حكومته تحت عنوان:" وثيقة فلسطين، إنهاء الاحتلال وإقامة الدولة". حيث صرح عن نية حكومته إعلان الدولة بعد عامين بغض النظر عن التوصل إلى اتفاق مع إسرائيل أو عدمه.
إذا تخطينا الشعارات الممجوجة الخالية من أي معنى حول إنهاء الاحتلال وحل عادل متفق عليه لقضية اللاجئين والقدس كعاصمة لهذه الدولة، نجد أنفسنا وجها لوجه أمام السلام الاقتصادي الذي يتكلم عنه نتنياهو. وهذا ليس غريبا بتاتا كما قد يظن البعض. ينتمي الشخصان إلى مدرسة اقتصادية واحدة فكلاهما نتاج للعولمة الاقتصادية ولسياسة البنك الدولي. بالنسبة لسلام فياض عدالة القضية الوطنية والحقوق المهضومة والتحرير كلمات مجردة لا تعني شيئا عمليا. وبالمناسبة، ارض إسرائيل الكاملة، والحق التاريخي لليهود في فلسطين وباقي الأساطير المؤسسة للصهيونية لا تعني شيئا بالنسبة لنتنياهو أيضا. كلاهما يستعمل هذه الشعارات للاستهلاك المحلي لا غير. الوطن بالنسبة لكليهما ليس أكثر من شركة اقتصادية تدر الإرباح.
عندما يتكلم فياض عن بناء المؤسسات التي سوف تقيم الدولة فهو يتكلم عن بناء مناطق صناعية مشتركة مع إسرائيل، عن إقامة مشاريع سياحية في أريحا والبحر الميت وأماكن أخرى، وربما عن زيادة عدد الكازينوهات أيضا. والكلام عن بناء مطار دولي في الأغوار ومد السكك الحديدية وشق الطرق وغيرها من وسائل الاتصال لن يكون تعبيرا عن سيادة الدولة، حيث ستبقى هذه السيادة بأيدي إسرائيل بشكل مطلق. هدفها الوحيد هو خدمة المشاريع الاقتصادية.
إننا أمام شكل من أسوأ أشكال الحكم الذاتي الذي يخلد الاحتلال. ولا مانع من أحد أن يسمى هذا الشكل بالدولة أو بالإمبراطورية إذا شئتم.
الكلام عن عامين لم يصدر بشكل اعتباطي، هذه هي الفترة التي يحتاجها الثنائي نتنياهو – فياض لفرض تصوراتهما على ارض الواقع ولكي يأخذ كل طرف دوره: تتكفل أمريكا وأوروبا والدول العربية بالتمويل والاستثمار وتوفير الدعم السياسي، ويتكفل نتناهو وفياض بالتخطيط والتنفيذ.
الصورة باختصار وبشكل مكثف: هناك عامان أمامهما لتصفية القضية الفلسطينية نهائيا وهناك عامان أمامنا لإسقاطهما.

Wednesday, September 02, 2009

الحلقة الاضعف


علي زبيدات - سخنين

مما لا شك فيه أن الحركة الصهيونية بعد قرن وربع قرن من تاريخها وبعد ستين سنة ونيف من قيام دولتها، إسرائيل، استطاعت تحقيق إنجازات هامة غيرت وجه المنطقة تغييرا جذريا وأثرت على مجرى التاريخ الحديث على المستوى العالمي.
ما هو أعظم وأهم إنجاز حققته الحركة الصهيونية والكيان الذي خلقته؟ هل هو إقامة دولة عصرية قوية استطاعت أن تحتل فلسطين التاريخية وتشرد شعبها وتبني قاعدة كولونيالية متينة في قلب العالم العربي على الرغم من أنف كافة الأنظمة والشعوب العربية؟
أم هل كان أهم إنجازاتها أن تحظى بشرعية دولية وعربية وتكافأ على جرائمها ضد الشعب الفلسطيني وضد الإنسانية وتتحول من مجرم إلى ضحية، ويسكت العالم عن هذه الجرائم ويلهث الجميع طلبا لودها ولصداقتها؟
أم أن أعظم إنجازاتها هو تحويلها إلى أكبر ترسانة حربية في العالم تمتلك أعتى أسلحة الدمار الشامل، تشن الحروب متى يحلو لها، تأجج الصراعات والحروب في جميع أرجاء العالم، تصدر الأسلحة والمرتزقة المحترفين إلى العديد من دول العالم، وتشكل أكبر تهديد للسلام العالمي؟ ومع كل ذلك تعتبرها الدول الغربية المهيمنة على الاقتصاد العالمي وعلى الساسة العالمية دولة محبة للسلام، واحة للديمقراطية وسط بحر متلاطم من الاستبداد؟
أم أن أعظم إنجازاتها هو اعتراف العالم بأنها الممثل الشرعي والوحيد ليهود العالم؟ فبعد أن اقتلعت جاليات يهودية بكاملها وجلبتها إلى فلسطين. قامت بابتزاز العالم على خلفية الجرائم التي ارتكبتها النازية في حق يهود أوروبا وأصبحت الوريث الشرعي لضحايا النازية وحصلت على ثروات لا تقدر من جراء ذلك بينما لم يحصل الضحايا الحقيقيون إلا على فتات بالكاد أبقاهم على قيد الحياة. بينما من المعروف أن الحركة الصهيونية كانت لا مبالية بمصير يهود أوروبا، هذا حسب ألطف تعبير كما اعترف به بعض الصهاينة أنفسهم. ناهيك عن التعاون المباشر وغير المباشر بين الصهيونية والنازية.
نستطيع أن نعد إنجازات أخرى عديدة من هذا القبيل. وهي بالفعل إنجازات مهمة لا يجوز التغاضي عنها أو المس بأهميتها بأي حال من الأحوال. ولكنها تبقى حسب رأيي ليست هي الانجاز الأعظم.
إذن ما هو أعظم إنجاز حققته دولة إسرائيل؟
أعظم إنجاز على الإطلاق حققته دولة إسرائيل هو اختراق الساحة العربية والفلسطينية. هو أنها استطاعت أن تجبر الضحية أن يتخلى عن حقه بل أكثر من ذلك استطاعت أن تدخل الشك في قلوب الضحايا حول عدالة قضيتهم. لا يهم إسرائيل كثيرا أن يصرح زعماء العالم أجمع صباح مساء عن حقها بالعيش في أمن وسلام، ولكن يهمها أن تسمع مثل هذا التصريح من أحد القادة العرب أو الفلسطينيين مهما كانت تفاهته.
منذ بداية الغزو الصهيوني لفلسطين كانت مقاومة هذا الغزو هو القاعدة وكان التعاون مع الغزاة يعد استثناء، بل يعد جريمة يعاقب مقترفها شعبيا وعلى كافة المستويات. أما اليوم فقد انقلبت الأمور رأسا على عقب. لقد أصبح التعاون هو القاعدة أما المقاومة هي الاستثناء يعاقب عليها ليس إسرائيليا فحسب بل فلسطينيا أيضا.
إننا أمام عملية اختراق مخيفة وعلى كافة المستويات، وعندما تنتهي هذه العملية تستطيع إسرائيل أن تقف أمام العالم وتعلن: الآن انتصرنا.
الجبهة الفلسطينية أصبحت اليوم هي الحلقة الأضعف في مقاومة الاحتلال. أوساط دولية شعبية ومنها يهودية تقاوم الاحتلال اليوم بإخلاص وحماس لا يقاسان بالمقارنة مع الأوساط الفلسطينية المهيمنة على القرار الفلسطيني.
الجبهة الفلسطينية هي اليوم الحلقة الأضعف مع إنها من المفروض أن تكون الحلقة الأقوى. هل يمكن بعد اليوم أن نلوم دول العالم بسبب دعمها اللامحدود لإسرائيل؟ هل يمكن أن نلوم الأنظمة العربية التي تلهث وراء التطبيع معها والتي طالما نعتناها بالرجعية والتبعية؟
قوة الجبهة الفلسطينية لم تكن في يوم من الأيام صادرة عن قوة عسكرية حتى عندما كنا نتكلم ونمارس الكفاح المسلح. ولم تكن نابعة في يوم من الأيام عن قوة اقتصادية أو سياسية. بل كانت نابعة من حيث الأساس من أيماننا الذي لا يتزعزع بعدالة قضيتنا ومن إيماننا الإنساني، البديهي والعفوي بأن الحق سوف ينتصر في نهاية المطاف. لقد آمنا وبكل بساطة بالمثل الشعبي الذي يقول: لا يضيع حق وراءه مطالب. لذلك ولفترة طويلة كانت إسرائيل في موقف حرج بالرغم من انتصاراتها العسكرية والسياسية على الصعيدين المحلي والعالمي، وبالرغم من قوتها العسكرية المفرطة.
اليوم يوجد وراء الحق الفلسطيني تجار يعرضونه للبيع بالمزاد العلني. باسم الوطن يبيعون الوطن.
في هذا العصر حيث يتعرض العالم إلى هجمات فيروسية مختلفة تهاجم جهاز المناعة عنده، ما أحوجنا إلى تقوية جهاز المناعة الفلسطيني لكي يتحول من الحلقة الأضعف ليكون الحلقة الأقوى مرة أخرى. الحفاظ على شعلة المقاومة ملتهبة هي المصل الأنجع لتحقيق هذا الهدف.

Wednesday, August 26, 2009

ما افسده الدهر لا يصلحه العطارون


أنا لا افهم بالضبط ما هو المقصود من شعار "إعادة البناء" الذي نستعمله بكثرة في الآونة الأخيرة كحل سحري للخروج من أزمتنا على المستوى الوطني والمحلي. فالفصائل الفلسطينية على شتى مشاربها الفكرية والسياسية تدعو إلى "إعادة بناء" منظمة التحرير الفلسطينية كحل وحيد لإنهاء حالة الانقسام والعودة إلى أيام "الوحدة الوطنية" السعيدة. وعلى الساحة المحلية تدعو كافة الأحزاب والحركات العربية الإسرائيلية (ومن عنده اعتراض على هذه التسمية فليقف) إلى إعادة بناء لجنة المتابعة العليا للجماهير العربية في إسرائيل (لاحظوا الاسم).
قبل سنوات اشتريت سيارة قديمة(موديل 1977) أصبحت مثلا عندنا في الحارة. نظرا لضيق الحالة المادية وثمنها الزهيد قررت شراءها ضاربا بعرض الحائط نصائح المحذرين من الأهل والأصدقاء. اشتريتها من هنا وبدأ الخراب بها من هنا. أصلح رأس المحرك فيخرب الكلاتش، أصلح الكلاتش فينتقل الخراب إلى شبكة الكهربائية وهكذا دواليك. حتى دفعت على التصليحات إضعاف ما كلفني ثمنها. وفي النهاية، وبعد أن كادت أن تقضي علي ماديا حاولت بيعها كقطع غيار لعلي أستطيع أن أعوض بعض الشيء. فلم أجد أي كراج يقبلها. وأخيرا توقفت نهائيا والقي بها في مجمع للنفايات غير مأسوف عليها.
ماذا بقي من منظمة التحرير الفلسطينية لإعادة بنائه؟ معروف أن المنظمة تتكون من ثلاث مؤسسات رئيسية: المجلس الوطني الفلسطيني، المجلس المركزي واللجنة التنفيذية؟
إذا كان مؤتمر فتح السادس عقد بعد عشرين سنة من المؤتمر الخامس، فهل أحد يعرف متى عقد المجلس الوطني للمرة الأخيرة؟ هل أحد يعرف من هم أعضاء المجلس وما هو عددهم. نحن نهاجم الكنيست الإسرائيلي بمناسبة ومن غير مناسبة، ولكن على الأقل أعضاء الكنيست معروفون بأسمائهم وبعددهم. عدت إلى الأرشيفات فوجدت أن المؤتمر الفلسطيني الأول المؤسس للمنظمة في عام 1964 ضم 397 عضوا أصبحوا أعضاء المجلس الوطني الفلسطيني الأول. وبعد استيلاء فصائل المقاومة على المنظمة في أعقاب هزيمة حزيران وحسب طريقة المخاصصة تقلص العدد إلى 143 عضوا. ولكن هذا العدد كان يزيد وينقص حسب رغبة القيادة المتنفذة في اللجنة المركزية وعند الحاجة كان يصل إلى عدة مئات. بعد اتفاقيات أوسلو تخلى المجلس الوطني الفلسطيني نهائيا عن كونه الهيئة التمثيلية التشريعية العليا للشعب الفلسطيني وأصبح أداة للترويج وتمرير هذه الاتفاقيات. وبصفته هذه عقد في عام 1998 في غزة تحت رعاية أمريكية- إسرائيلية (على غرار مؤتمر فتح السادس) من أجل تعديل الميثاق الوطني الفلسطيني لكي يتلاءم مع المرحلة الجديدة، مرحلة الاعتراف بإسرائيل والتفاوض معها. وهكذا تم شطب 12 بندا تدعوا إلى التحرير ومقاومة الاحتلال وتعديل 16 بندا آخرا.
أليس من السخرية أن يقوم اليوم سليم الزعنون، رئيس المجلس الوطني الفلسطيني(وهو بالمناسبة مثل رئيس السلطة محمود عباس منتهية صلاحيته) بدعوة هذا المجلس للانعقاد من أجل اختيار أعضاء جدد للجنة التنفيذية بدلا من الذين توفوا؟ أنا أتحدى الزعنون أن يكشف لنا عن أسماء الذين وجه لهم الدعوات لحضور هذه الجلسة. إلى هذا الحد وصل الاستهتار بأعلى هيئة تشريعية فلسطينية، المجلس الوطني الفلسطيني.
هل المجلس المركزي أحسن حالا؟ أراهن أن معظم الفلسطينيين لا يعرفون أصلا بوجوده. هذا المجلس الذي من المفروض أن يكون هيئة دائمة ويشكل حلقة وصل بين المجلس الوطني واللجنة التنفيذية ويجتمع مرة كل شهرين على الأقل. أعضاء هذا المجلس بالأساس مندوبون عن الفصائل الفلسطينية المسلحة التي اختفت معظمها عن الساحة. وعدده هو أيضا كان يتغير حسب رغبة القيادة المتنفذة فبدأ ب32 عضوا عام 1973 وأخذ يزداد حتى وصل حسب آخر معلوماتي إلى 59 عضوا بالإضافة إلى ستة مراقبين. ولكن طبعا هذا الرقم غير ذي أهمية لأن المجلس ككل مشلول شللا كاملا.
وأخيرا اللجنة التنفيذية، وهي حسب تعريفها:"أعلى سلطة تنفيذية للمنظمة، وتكون دائمة الانعقاد، وأعضاؤها متفرغون للعمل، وتتولى تنفيذ السياسة والبرامج والمخططات التي يقررها المجلس الوطني وتكون مسؤولة أمامه مسؤولية تضامنية وفردية". فهي إذن توازي الحكومات في الدول الأخرى.
أكثر من ثلث اللجنة التنفيذية (6 أعضاء) توفوا (بعضهم قبل 13 سنة) وما زالت أماكنهم شاغرة. تصورا أن ستة وزراء في الحكومة الإسرائيلية ماتوا وما زالت الحكومة تمارس نشاطها وكأن شيئا لم يحدث. بعد أوسلو هذه اللجنة أسوة بالمجلس الوطني الفلسطيني الذي من المفروض أن ينتخبها تنازلت عن دورها طوعا لصالح حكومة السلطة الفلسطينية التي يرأسها حاليا سلام فياض الذي لا تربطه لا ناقة ولا جمل بأي شكل من أشكال النضال الفلسطيني. ماذا تعمل اللجنة التنفيذية لمنظمة التحرير الفلسطينية اليوم؟ هل سمعتم لها أي صوت ضد الحرب الأخيرة على غزة؟ ضد الحصار الذي تجاوز عامه الثالث؟ ضد تهويد القدس؟ ضد الاستيطان؟ حتى الدول الغربية الصديقة لإسرائيل انتقدت السياسة الإسرائيلية أكثر من هذه اللجنة.
النتيجة، هل جسم كهذا يمكن أن يعاد بناؤه؟ إذا كانت هذه الجثة الميتة هي الممثل الشرعي الوحيد للشعب الفلسطيني فعلى هذا الشعب السلام. على الشعب الفلسطيني أن يدفن موتاه ويكف عن البكاء وينهض.
الدعوة إلى إعادة بناء "لجنة المتابعة العليا للجماهير العربية في إسرائيل" هي نصيبنا من هذه المأساة. أصلا وجود مثل هذه اللجنة يعني تخليد انسلاخنا عن شعبنا الفلسطيني بما يرضي الكيان الصهيوني. المصيبة أننا ننظر إلى هذه اللجنة كحامية لهويتنا الوطنية وليست كوسيلة لأسرلتنا. لقد باءت جميع المحاولات للتوفيق بين هذين النقيضين بالفشل. إننا بحاجة إلى بناء، وليس إلى إعادة بناء، لجنة متابعة للجماهير الفلسطينية في فلسطين المحتلة. ولكن أحيانا قبل البناء لا مفر من الهدم.
لماذا المصداقية ضرورية؟
علي زبيدات – سخنين

قرأت خبرا ظننته للوهلة الأولى ملفقا إلى درجة الافتراء. يقول الخبر: أن الجبهة الديمقراطية للسلام والمساواة سوف تطرح على لجنة المتابعة العليا للشؤون العربية أن تتبنى موقف الإضراب العام في ذكرى هبة أكتوبر. هل يمكن تصديق مثل هذا الخبر؟ قد يكون صادر من أحد المزايدين الذين يتهمون الجبهة بمناسبة وبغير مناسبة بالتقاعس وعدم تصعيد النضال لكي يرتقي إلى مستوى الأحداث وغيرها من الشعارات. فالجبهة تقريبا منذ يوم الأرض الأول وهي تعارض مبدئيا اللجوء إلى الإضرابات العامة بحجة أن الجماهير غير مستعدة لذلك أو أن أضرارها تفوق فوائدها. وفي الحالات القليلة التي اتخذت بها لجنة المتابعة قرارا بالإضراب واضطرت الجبهة قبول هذا القرار على مضض لم تتجند بما فيه الكفاية لإنجاحه وكان لسان حالها يقول: ألم اقل لكم أن الجماهير غير جاهزة للإضراب؟
ولكن سرعان ما تبين لي أن هذا الخبر ليس ملفقا. حيث وجدت مقالا مطولا في موقع الجبهة الالكتروني بقلم سكرتير الجبهة القطرية المحامي أيمن عودة بعنوان:" لماذا الإضراب". يقول أيمن في بداية المقال:" الإضراب ليس رد فعل مباشر وغريزي. وإنما رد فعل سياسي مدروس ومخطط له لمواجهة مجمل سياسة التحريض والإقصاء ونزع الشرعية من المواطنين العرب". كلام جميل، أليس كذلك؟
ولكن وراء هذه الكلمات الجميلة تكمن حسب رأيي نوايا قبيحة. هل هذا يعني أن الذين اقترحوا الإضراب العام في ذكرى أيام الأرض وهبة أكتوبر والحروب التي شنتها الدولة على شعبنا الفلسطيني في الضفة وغزة ولبنان كانت رد فعل مباشر وغريزي؟ وإذا كان الأمر كذلك فلماذا لم تجلس حضرتك وحزبك وتحضر رد فعل "سياسي" و"مدروس" و"مخطط له"؟ ما الذي يجعل مجمل سياسة التحريض والإقصاء ونزع الشرعية التي تتحدث عنها تختلف عن السياسة التي مارستها الدولة طوال الأربعين سنة الأخيرة على الأقل؟
تعميم هذا الخبر قبل ذكرى أكتوبر بفترة تقارب الشهرين جاء ليضفي صبغة من الجدية والمصداقية عليه. فهو ليس رد فعل غريزي بل هو مدروس ومخطط له. وهذه الفترة ضرورية لتجنيد الرفاق من أجل إنجاح الإضراب العام. والإضراب العام لا يعني إغلاق بعض الحوانيت في الناصرة وأم الفحم وسخنين. بل عام بكل ما تعنيه هذه الكلمة من معنى. أي شل جميع مرافق الحياة من مدارس وجامعات ومؤسسات حكومية وخاصة. وهذه الفترة ضرورية أيضا لإقناع المترددين أو غير المقتنعين، وللكاتب يوجد تصور كيف يمكن إقناع هؤلاء. ولكن حسب رأيي كل هذا الكلام لا يجدي فتيلا. المصداقية تبدأ بنقد الذات ومحاولة تصحيح الأخطاء السابقة. فقبل أن تسأل "لماذا الإضراب" يجب أن تعطي جوابا مقنعا على السؤال الذي يقول: لماذا كنا كل هذه الفترة ضد الإضراب العام؟
مع كل الاحترام لذكرى هبة أكتوبر وكل الاحترام للشهداء الذين سقطوا برصاص الشرطة، إلا أن هذه الحادثة لا تشكل المفصل الأساسي في تاريخنا كشعب فلسطيني يناضل لتحرير أرضه وعودته إلى دياره. حرب الإبادة التي شنتها إسرائيل على غزة وأسفرت عن استشهاد حوالي 1500 شهيد أكثر من 80% منهم من المدنيين وأكثر من 300 طفل، أليست مفصلا أهم؟ فلماذا لم يفكر أحد برد فعل سياسي ومدروس ومخطط له؟ واكتفت الأحزاب من باب رفع العتب بأعمال احتجاجية هزيلة، حتى المظاهرة الجبارة التي جرت في سخنين في نهاية الحرب كانت قد أفرغت من مضمونها النضالي.
وما زالت الدماء التي سفكت في حرب الإبادة التي شنتها الدولة على لبنان في عام 2006 والتي استمرت 33 يوم لم تجف بعد. إلا إنها لم تكن كافية للجنة المتابعة بجميع مركباتها أن تدعو لإضراب عام.
بدل أن تكون ذكرى هبة أكتوبر ويوم الأرض مناسبات للتأكيد على لحمة الشعب الفلسطيني في كافة أماكن تواجده تستغله الأحزاب العربية الإسرائيلية المنضوية تحت كنف لجنة المتابعة للتشديد على ما يميزنا ويفصلنا عن الشعب. كيف تستطيع الدولة أن تطلق النار وتقتل ستة من مواطنيها في يوم الأرض؟ وكيف تستطيع أن تقتل بدم بارد 13 شابا من مواطني الدولة في هبة أكتوبر. بالنسبة لهذه الأحزاب هذه الناحية بالذات هي التي ميزت يوم الأرض وهبة أكتوبر. أما آلاف الشهداء الذين يسقطون يوميا في غزة والضفة فهم في المرتبة الثانية.
لقد عبر سكرتير الجبهة القطرية عن خوفه، وهو خوف مشترك لكافة الأحزاب العربية الإسرائيلية، من السياسة الإسرائيلية التي:"كشفت عن عوراتها في السنوات الأخيرة، والتي تقول جهارا، الدولة ليست لكم. وانتم غير مرغوب ببقائكم هنا".
هذا الشيء الوحيد الصحيح الذي تقوله السياسة الإسرائيلية: هذه الدولة ليست لنا. ولكن بقاءنا هنا غير مرهون برغبة أحد.
وأخيرا، ولكي لا افهم غلط ويقول أحدهم تحيرنا معكم فعندما نرفض الإضراب تنتقدوننا وعندما ندعو للإضراب تنتقدوننا، الإضراب العام يبقى وسيلة نضالية لتعبئة الجماهير ورفع وعيها لمواصلة نضالها بغض النظر عن نوايا البعض. ويجب بذل كل الجهود لإنجاح الإضراب.

Monday, August 17, 2009

الارتقاء نحو الحضيض
علي زبيدات

لم يعد ذو أهمية إن كان محمود عباس اختير بالتزكية رئيسا لحركة فتح كما أفادت بعض المصادر أو أنه انتخب بالإجماع كما أكدت مصادر أخرى. وليس ثمة من فرق بين من نجح من المرشحين للجنة المركزية وبين من لم ينجح. الآمر سيان بين الحرس القديم الذي تقهقر وبين الدماء "الشابة" التي ضخت. الأمر الوحيد ذات الأهمية هو أن فتح خرجت من مؤتمرها السادس بريئة من تهمة الثورة والمقاومة كبراءة الذئب من دم يوسف. لم تعد تربطها أية علاقة بشيء اسمه حركة تحرير وطني سوى اسمها المعكوس الذي عاد إلى طبيعته. لقد أصبحت فتح حزبا سياسيا آخرا مثلها مثل باقي الأحزاب التي تعج بها ساحتنا العربية. مع فارق بسيط هو أنها حزب لسلطة مشوهة فمن الطبيعي أن تكون هي الأخرى حزبا سياسيا مشوها. لذلك لم استغرب أن ينشر عضو الحزب الشيوعي الإسرائيلي أحمد سعد في موقع الجبهة مقالا طويلا يكيل المديح على المؤتمر والرئيس محمود عباس وقيادته الحكيمة التي " تقود المقاومة الوطنية بواسطة المفاوضات من غير التفريط بالثوابت ..."
قد تكون فتح هي التي أطلقت الرصاصة الأولى ضد العدو فيما يسمى مجازا بالثورة الفلسطينية في الفاتح من يناير عام 1965 – وهي حقيقة قابلة للنقاش- ولكنها في أعقاب هذا المؤتمر، قد أطلقت الرصاصة الأخيرة ولكن هذه المرة على نفسها وعلى جماهيرها.
لا أكتب اليوم كمراقب أو كناقد يتابع الإحداث، بل كعضو سابق في هذه الحركة قضى ستة أعوام في السجون الإسرائيلية بتهمة الانتماء لحركة فتح. وغيري قد قضى فترة أطول أو اقصر. أعود بالذاكرة إلى بداية سنوات السبعين حيث كانت السجون الإسرائيلية مليئة بالمناضلين من فلسطينيي الداخل الذين التحقوا بصفوف فتح لكي يشاركوا في تحرير الوطن المحتل. أذكر على سبيل المثال لا الحصر عشرات الأسرى من عكا ومجد الكروم والناصرة والطيرة وغيرها. في تلك الأيام كانت فتح تشكل حلم مشترك للجماهير الفلسطينية في كافة أماكن تواجدها. وأنظر اليوم إلى المؤتمرين في بيت لحم والمرشحين للجنة المركزية والمجلس الثوري فلا أرى اسما واحدا من فلسطينيي الداخل. الاسم الوحيد الذي لفت نظري ونظر العديدين ولا أدري كيف أصنفه هو اسم أوري ديفيس، ولكن هذه قصة أخرى.
أنا شخصيا أفقت من هذا الحلم الزائف مبكرا. أصلا، لم يكن انتمائي لحركة فتح منذ البداية نابعا عن قناعاتي بأفكارها ومبادئها. الأفكار والمبادئ كانت آخر شيء يهم الحركة منذ اليوم الأول لتأسيسها وحتى ما آلت إليه اليوم. لذلك كنت ترى في صفوفها اليساري واليميني والقومي والمتدين والاشتراكي والماركسي. وكنت أظن في ذلك الوقت أن ذلك ليس بمصيبة ما دام الجميع متفقين على مقاومة الدولة الصهيونية ومعادين للإمبريالية.
قد يقول البعض، كما قال أحمد سعد في مقاله المذكور:" صحيح أن المؤتمر قد تمسك بالخيار السلمي ولكنه لم يتنازل عن حقه باستعمال كافة أشكال النضال". ويشددون على كلمة "كافة" لكي نفهم أن الكفاح المسلح الذي شرعته القوانين الدولية هو من ضمن هذه الأشكال. ولكن هذا الشكل بالذات له اسمه، وكان يذكر في قرارات كافة المجالس الوطنية الفلسطينية خوفا من الالتباس حتى تم وأده مع بداية مرحلة المفاوضات. إن هذا الكلام ليس فقط استهتارا بعقولنا بل تلاعب بعواطفنا وأحلامنا أيضا. من لا يتنازل عن كافة أشكال النضال لا يلاحق المقاومين ويطلق النار عليهم أو يزج بهم في السجون أو يسلمهم للمحتلين أو يسومهم أبشع أنواع التعذيب.
بعد عشرين سنة عقدت حركة فتح مؤتمرها السادس. اللعنة، ألا يوجد تقرير واحد من اللجنة المركزية يقيم هذه الفترة؟ يشير إلى "الانجازات" التي حققتها على الأقل؟ ومن جهتي يستطيع أن يتغاضى عن الإخفاقات. تعقد المؤتمرات عادة لتصحيح مسارات، لمكافأة من قدم وضحى، ومحاسبة من قصر وتقاعس. في مؤتمر فتح لم يكن أي شيء من هذا القبيل. لذلك أقول انه كان مؤتمرا لحزب سياسي مفلس ويعرف انه مفلس، ولكن باقي الأطراف المشاركة تريده أن يبقى. السعودية والأردن ومصر قامت بتمويل هذا المؤتمر، إسرائيل وفرت له الحماية والرعاية وأمريكا باركته.
لم تعد الشعارات تخدعنا. الكلام حول التمسك بالثوابت وبكافة أشكال المقاومة لا يساوي قشرة ثوم. خرتشوف أجهض ثورة بكاملها ولم يكف عن الكلام حول انتصارات الاشتراكية والدخول إلى مرحلة الشيوعية. أنور السادات، قاد الثورة المضادة في مصر في كافة المجالات بينما كان يحتفل سنويا بثورة يوليو المجيدة. فما الذي يمنع محمود عباس من السير على نفس الطريق؟
يقولون لنا، بعد المؤتمر، مع انه لم يكن هناك أي تصريح رسمي بذلك، لن تكون هناك عودة إلى المفاوضات من غير وقف كامل للاستيطان في الضفة والقدس. هل يوجد من يصدق هذا الكلام؟ 16 سنة من المفاوضات الأخيرة كانت تجري مع تزايد الاستيطان، فما الذي تغير خصوصا بعد إعادة انتخاب كبير المفاوضين؟ على كل حال إن غدا لناظره قريب.
تشير تجارب الشعوب التي خاضت تجارب مريرة من أجل حريتها واستقلالها أن أفراد من القيادة أو حركات كاملة قد تتساقط في خضم النضال. وبعض هؤلاء الأفراد وهذه الحركات ترتقي بهذا السقوط مكتفية بخدمة المحتلين مقابل الشزر القليل من الامتيازات. ولكن يبدو أن مثل هؤلاء لا يعرف أن السمك الميت وحده الذي يطفو على سطح الماء.
لقد آن الأوان أن ندفن موتانا ونتابع المسيرة.
دولة واحدة؟ دولتان؟ ثلاث دول؟ لا، شكرا لا دولة
علي زبيدات – سخنين

من حين لآخر تخرج إلينا مجموعة من " المثقفين" الذين تسبق أسماؤهم ألقابا رفيعة بمؤتمر يهدف إلى إنقاذنا من هذا الصراع المزمن والمستعصي الذي أنهك جميع المتصارعين من خلال إيجاد حل عادل وشامل. آخر هذه المؤتمرات كان المؤتمر الذي نظمه مركز مدى الكرمل وجمعية ابن خلدون في حيفا تحت شعار:" فقط حل الدولة الواحدة وثنائية القومية يضمن العدل والمساواة المدنية والقومية للطرفين".
لا أدري ما هو الجديد الذي طرحه هؤلاء"المثقفون" في هذا الموضوع ولم يطرح سابقا في مؤتمر لندن مثلا وفي المؤتمر الذي نظمته حركة أبناء البلد في حيفا أيضا قبل أكثر من عام وفي العديد من اللقاءات والمحاضرات وما تضمنته وثيقة حيفا التي أصدرها مركز مدى نفسه قبل سنوات. أنا شخصيا لم المس أي شيء جديد. ربما الشيء الوحيد الجديد هو التوقيت، يعني الموضة. فكلما تجدد الكلام عن حل الدولتين نلاحظ مثل هذه التحركات التي سرعان ما تتلاشى وتخمد. وحسب رأيي، جاء هذا المؤتمر كرد فعل لخطف الأضواء بعد خطاب اوباما الذي جدد تعهد الإدارة الأمريكية وتمسكها بحل الدولتين وكذلك رد على خطاب نتنياهو الذي تضمن تصوره للدولة الفلسطينية.
إذن، وباختصار، يوجد هناك حل الدولتين الذي يتراوح بين دولة فلسطينية مستقلة في الضفة الغربية وقطاع غزة أي في أحسن الحالات على حوالي 20% من فلسطين التاريخية وبين تصور نتنياهو لدولة منزوعة السلاح لا سلطة فعلية لها على الأرض أو الجو أو البحر مع تنازل كامل عن حق العودة وعن القدس. حل الدولتين هذا الذي يتأرجح بين هذين الطرفين يحظى بما يسمى الشرعية الدولية والمجتمع الدولي أي الأمم المتحدة والولايات المتحدة الأمريكية والاتحاد الأوروبي وإسرائيل والدول العربية والسلطة الفلسطينية.
تعثر هذا الحل لفترة طويلة أثار بالمقابل النقاش حول ما يسمى: "حل الدولة الواحدة" وهو أيضا يتأرجح بين طرفين متباعدين. فهناك العديد من أنصار "ارض إسرائيل الكاملة" ممن كان شعارهم في سنوات الثمانين والتسعين: "أف شاعل" أي "ولا خطوة" يرقصون طربا لدى سماعهم "الدولة الواحدة" وفي الطرف الآخر يوجد من يفهم الدولة الواحدة على أنها دولة "جميع مواطنيها". طبعا في الوسط يوجد قوس واسع من الاجتهادات والتسميات مثل دولة ثنائية القومية، دولة كونفدرالية، دولة المواطنين، دولة ديمقراطية علمانية، الخ.
في ظل هذا الصراع السياسي حدث ما لم يكن بالحسبان. فبينما كان من المفروض أن تتطور السلطة الفلسطينية حتى تصبح الدولة الفلسطينية المستقلة كتجسيد لحل الدولتين، قامت حركة حماس بالسيطرة على قطاع غزة. ووجد من يقول: إننا في الحقيقة أمام ثلاث دول وليس دولتين. إذ أن سيطرة حماس لن تكون أمرا عابرا وهي تتصرف كدولة أكثر بكثير من السلطة في رام الله.
للوهلة الأولى،قد يظن البعض، أن ثمة تناقض صارخ ومباشر بين هذين الطرحين: حل الدولتين مقابل حل الدولة الواحدة. ولكن نظرة أخرى إلى جوهر القضية تبين أن التناقض بينهما نسبي جدا وعلى جانب كبير من الوهم والخداع. الجميع يدعو إلى الدولة من غير أن نسمع شيئا عن طبيعة هذه الدولة وجوهرها اللهم سوى بعض الشعارات الرنانة مثل الديمقراطية والمساواة. هل رأيتم في التاريخ الحديث دولة لا تدعي الديمقراطية ولا تنصب نفسها حارسا على حقوق المواطنين ومنحهم المساواة؟ جميع هذه الحلول تدور في محور واحد: الدولة وقدسية الدولة.
في المؤتمر المذكور يقول الدكتور أسعد غانم: " حل الدولتين في حالة تلاش وآن الأوان لمناقشة حلول أخرى بما فيها حل الدولة الواحدة". وأنا أقول: نعم لقد آن الأوان لمناقشة حلول أخرى بما فيها حل أللا دولة.
هل الدولة هي قيمة عليا تستحق أن نقدم الشهداء من أجلها؟ هل هي ضرورية للمواطن العادي من أجل أن يعيش حياة حرة كريمة؟ الجواب القاطع هو لا. لا يوجد للدولة أية قيمة أخلاقية. الفاشيون وحدهم من يمنحون الدولة مثل هذه القيمة. بينما هي أداة وظيفتها تعكير صفو حياة المواطن العادي.
لا ينبغي أن يكون المرء ماركسيا أو فوضويا لكي يشعر بأن الدولة في حقيقة الأمر ليست سوى آلة قمع في أيدي الطبقات الحاكمة مكونة من جيش وشرطة وسجون ومؤسسات سلطوية مختلفة. وأن الكلام حول الديمقراطية والمساواة وسيادة القانون لا تهدف إلا إلى تشديد الرقابة والسيطرة وفي بعض الأحيان تلطيف الأجواء لكي لا تتمرد الطبقات المسحوقة.
نعم، لقد آن الأوان لكي نناقش حلول أخرى. فلماذا لا نحيي النقاش الذي كان رائجا في القرن التاسع عشر والقرن العشرين بين جميع الحركات الثورية والتقدمية حول ضرورة إلغاء الدولة كدولة. حول هذا الموضوع بالذات كان هناك توافق مبدئي بين الشيوعيين والفوضويين ليس فقط حول ضرورة نفي الدولة الرأسمالية بل الدولة بحد ذاتها. الخلاف كان بالأساس حول الوسائل الكفيلة بتحقيق هذا الهدف. بينما أصر الشيوعيون على ضرورة تنظيم الطبقة العاملة وعلى دورها التاريخي في صنع الثورة ركز الفوضويون على العمل الفردي.
الفكرة الأساسية في البيان الشيوعي تقول أنه بعد القضاء على المجتمع الطبقي لن تبقى هناك حاجة لجهاز خاص يسمى الدولة. للأسف الشديد بدأ التراجع عن هذه الفكرة بعد سحق كومونة باريس في نهاية القرن التاسع عشر عندما بدأ ماركس وانجلز يتكلمان عن ضرورة مرحلة انتقالية أسمياها: "ديكتاتورية البروليتاريا الثورية" وفيما بعد، في أعقاب انتصار ثورة أكتوبر في روسيا كتب لينين : أن الماركسية تناضل من أجل إلغاء الدولة الرأسمالية، أما الدولة العمالية فإنها تضمحل تدريجيا حتى تختفي بعد الانتقال من الاشتراكية إلى الشيوعية. ما حدث في الواقع كان على العكس تماما هو أن الدولة العمالية عادت إلى الرأسمالية ولم تتطور أبدا نحو الشيوعية.
اليوم، مع تطور العلم والتكنولوجيا وأساليب الإدارة جعلت من الدولة جهازا قمعيا بحتا ينبغي التخلص منه. وعلينا ألا ننسى أن هذا الجهاز هو المسئول الأول عن الحروب والمجاعات والأهوال على المستوى العالمي.
لا يناضل المواطن المضطهد واللاجئ المشرد من أجل الدولة مهما كان القناع التي تضعه على وجهها. إنه لا يقدم التضحيات الجسام حتى الشهادة من أجل من الذي سيحكمه، هذا التنظيم أم ذاك، هذه الحكومة أو تلك. بل يناضل من أجل مثل أعلى سام، من أجل تحرير وطن مسلوب مثلا، من أجل الحرية. الدولة لم ولن تكون هذا المثل السامي.

Tuesday, July 21, 2009

الثورة المغدورة

الثورة المغدورة

علي زبيدات – سخنين

إذا كانت اتهامات فاروق القدومي الأخيرة لمحمود عباس ومحمد دحلان صحيحة فإنها مأساة وإذا كانت ملفقة فإن المأساة أكبر. ولن يتغير في جوهر الأمور شيء إذا جاءت هذه الاتهامات في سياق نزاع شخصي بين شخصين قياديين أو بين تيارين داخل حركة فتح. النتيجة الحتمية لهذه الاتهامات وتفاعلاتها تبقى واحدة وهي إسدال الستار على دور حركة فتح التاريخي في الحركة الوطنية الفلسطينية المعاصرة، وإن دل على شيء فإنه يدل على إفلاس كامل للخط السياسي والإيديولوجي والتنظيمي لحركة فتح. أقول ذلك من غير شماتة. فقد قدمت فتح مئات بل آلاف الشهداء منذ بداية المقاومة وحتى اليوم. وكم مؤلم أن تذهب تضحيات وأرواح هؤلاء الشهداء سدى. وما زالت سجون الاحتلال تأوي الآلاف من المناضلين الذين ينتمون إلى هذه الحركة العريقة. ولكن بالرغم من الحسرة والشعور بالإحباط والغضب، أصبح كل ذلك في ذمة التاريخ.
لكل ثورة يوجد عدوان. الأول عدو خارجي يتجسد عادة بالاستعمار والقوى الرجعية العميلة، وعدو داخلي يتمثل بتلك الطبقات والحركات التي تكون في مرحلة تاريخية معينة في معسكر الثورة وتقوم في بعض الأحيان بدور أساسي في النضال ولكنها مع تغير المرحلة التاريخية تتساقط رويدا رويدا حتى تغادر صفوف الثورة وينتهي بها المطاف في معسكر الأعداء، ويطلق عليها الثورة المضادة. تفيد تجارب الشعوب أن العدو الداخلي أخطر بما لا يقاس من العدو الخارجي. فالعدو الخارجي معروف والصراع معه مباشر ومكشوف. وقد تتلقى القوى الثورية الضربات الأليمة والانتكاسات والهزائم. وقد يطول النضال وترتفع التضحيات. ولكن ما دامت القضية عادلة والجماهير تحتضنها وتحميها، فالنصر على هذا العدو في النهاية سيكون حتميا. أما العدو الداخلي، الذي ينمو ويترعرع داخل الحركات الثورية في غفلة من الزمن فقد يقضي على الثورة ويحولها إلى ضدها بدون مقاومة تذكر.
الثورة الفلسطينية، أو على الأصح ما كنا نسميه مجازا بالثورة الفلسطينية لا تشذ عن هذه القاعدة. فهذه "الثورة" لم ترتق ابدآ إلى مصاف الثورة لا من حيث وضوح رؤيتها وتحديد أهدافها ولا من حيث إيديولوجيتها ولا من حيث ممارساتها النضالية والسياسية. ولكنها، عندما انفجرت في ظل الهزائم العربية، شكلت بصيصا من نور في سماء الأمة المظلم وشكلت شعاعا من الأمل على طريق التحرير. غير أن رياح القيادة جرت بما لا تشتهيه سفن الجماهير. فسرعان ما عادت هذه القيادة إلى الثلم العربي الرسمي، وتبوأت حركات المقاومة بعد سيطرتها على منظمة التحرر الفلسطينية مكانها في جامعة الدول العربية بعد أن نالت الاعتراف من دول هذه الجامعة بشرط أن تحافظ على مستوى متدن من المقاومة وعدم الارتقاء به إلى مصاف الثورة السياسية الاجتماعية. وهكذا سرعان ما بدأت هذه القيادة بمغازلة العدو الخارجي ( الامبريالية والصهيونية) من خلال البرامج المرحلية والمفاوضات كمرحلة تمهيدية حتى الاتفاقيات التفريطية اللاحقة. وفي هذه المسيرة المشؤومة نمت طبقة عميلة لبست قناع الوطنية لفترة معينة. واليوم يسقط هذا القناع أمام الجميع لكي يتبين أن ما اعتبرناه ثورة وهو في الحقيقة لم يكن أكثر من مقاومة أصبح ثورة مضادة. فبعد أن كنا نعتبر الحركة الوطنية الفلسطينية طليعة حركات التحرر العربية أصبحت هذه الحركة الحليف الاستراتيجي للرجعية العربية من المحيط إلى الخليج. وبعد أن كنا نعتبرها رأس الحربة في النضال ضد الصهيونية والامبريالية العالمية وعلى رأسها الامبريالية الأمريكية أصبحت هذه الحركة حليفا استراتيجيا لهما.
المصيبة عندنا كانت مضاعفة. فالثورات الحديثة الأخرى التي آلت إلى ثورات مضادة قد حققت بعض أهدافها. فثورة أكتوبر العظمى في روسيا مثلا، كانت قبل انحرافها واندثارها قد دكت النظام القيصري الأكثر رجعية ونقلت بلدا إقطاعيا متخلفا إلى مصاف الدول العظمى في فترة قياسية. والثورة الجزائرية التي قدمت مليون شهيد استطاعت أن تطرد استعمارا استيطانيا جثم على أرضها 130 سنة قبل أن تتحول وتفتك بأبنائها. وثورة يوليو المصرية استطاعت أن تؤمم القناة وتسدد ضربة قاسية للإقطاع والرجعية قبل أن تعود الطغمة الحاكمة حاليا وترتمي في أحضان الامبريالية والصهيونية. والأمثلة كثيرة من لثورات في الصين وفيتنام إلى إيران وجنوب افريقيا وغيرها. ما عدا في فلسطين. حيث تحولت "الثورة" من ثورة إلى ثورة مضادة من غير أن تحقق إنجازا واحدا يذكر، اللهم إلا إذا اعتبرنا السلطة إنجازا وتمزيق ما تبقى من فلسطين بين ضفة غربية وغزة إنجازا والقتال على سلطة وهمية إنجازا.
الواقع أليم ومحزن ومحبط. ومن لا يعترف بذلك يكذب على نفسه. ولكن، ما دامت القضية الفلسطينية تحافظ على عدالتها. وما دامت الجماهير المشردة المسحوقة تتمسك بقضيتها فتغيير الواقع مهما بلغت قسوته فلن يكون ممكنا فحسب بل حتميا أيضا.
الثورة الفلسطينية لم تمت ولكنها لم تولد بعد وهذه أيام مخاضها.

العقل العربي بين إرهاصات التخلف وضرورة النهضة



تعريف المصطلحات الفكرية مهما كان مجالها، سياسيا، اجتماعيا، اقتصاديا، أدبيا أو أي مجال آخر ليس بالأمر السهل. مهما كان التعريف شاملا ومحكما ومبنيا على أسس منطقية متينة فلا بد إلا أن يحتوي على بعض الثغرات والإدعاءات غير المبرهنة وبالتالي يكون نسبيا ومشروطا وأحادي الجانب. في الآونة الأخيرة يكثر استعمال مصطلح "العقل العربي" ومقدرته على نفض غبار التخلف والنهوض بالعالم العربي واللحاق بركب الحضارة.
السؤال الأول الذي يتبادر إلى الذهن هنا هو: هل يوجد هناك شيء اسمه العقل العربي؟ أو العقل الصيني أو العقل اليهودي، الخ.؟؟ طبعا كل تعميم هو خاطئ أو في أحسن الحالات صحته نسبية. فالعقول عادة ما تتخطى الحدود الجغرافية والزمنية وتتفاعل فيما بينها بشكل معقد وغامض في معظم الأحيان وتؤثر وتتأثر ببعضها البعض. ولكن بالرغم من كل هذه التحفظات لا بد من مثل هذه التعريفات وإلا تعطلت لغة الحوار والنقد والبحث والدراسات. كذلك اختلف الفلاسفة وعلماء النفس حول تعريف مفهوم العقل واستعملوا كلمات مترادفة أو متشابهة مما زاد من عدم الوضوح فمنهم من استعمل كلمة الإدراك أو التفكير أو المعرفة أو الوعي وجميعها مصطلحات متقاربة جدا تعكس الرؤية الخاصة لهذا المفكر أو ذاك.
لنعود إلى العقل العربي. طبعا، مقالة صحفية لا تطمح أبدا تقديم تحليل واف أو دراسة شاملة تتناول العقل العربي. من أجل ذلك يمكن الرجوع إلى موسوعة محمد عابد الجابري ورد جورج طرابيشي عليها بالإضافة إلى العديد من الدراسات الأخرى. كل ما اطمح إليه هو الإشارة إلى بعض النقاط ذات الأهمية العملية التي تواجهنا في حياتنا اليومية وفي نضالنا غير المتكافئ ضد الدولة الصهيونية جميع إفرازاتها. لذلك أفضل استعمال مصطلح "الوعي العربي" بدلا من "العقل العربي" وذلك لأن الوعي هو مقياس لنجاعة أو عدم نجاعة العقل. الوعي يشمل الإدراك والمعرفة ولكنه يشمل أيضا المقدرة على التحليل والاستنتاج ومن ثم اتخاذ موقف وتغيير الواقع.
إذا كان العقل هو الذي يفرز التفكير فأن الوعي هو الذي يدركه ويقيمه ويصحح مساره. من المؤكد أن وعينا الجماعي ليس سوى انعكاس لعقلنا الجماعي. فإذا قبلنا تعريف جون لوك للوعي بأنه إدراك ما يدور داخل العقل، فماذا الذي يمكن أن ندركه إذا كان عقلنا الجماعي يفرز تفكيرا جامدا، يعجز عن مواجهة ابسط التحديات، متقوقع على نفسه يخاف من النور، لا يعرف ما يريده ولا يستطيع أن يحدد أهدافه؟.
إننا نعاني من قلة الوعي في جميع المجالات، ومن الأفضل أن نعترف بهذه الحقيقة المرة. هل نتحلى بوعي اجتماعي؟ إذا كنا كذلك فكيف نفسر القتل على خلفية ما يسمى "شرف العائلة" وكيف نفسر النزاعات الطائفية والعائلية التي تتحكم في تصرفاتنا؟ إننا نطالب العالم أن يعترف بنا كشعب له حقوق طبيعية مغتصبة يناضل من أجل تحقيقها في الوقت الذي لا نستطيع أن نفكر حتى على مستوى مدينة أو قرية، بل تفكيرنا يبقى محصورا في الحارة وداخل الحمولة.
هل يوجد لدينا وعي سياسي؟ إذا كنا كذلك فكيف نفسر انبطاحنا بهذا الشكل المخزي أمام صانعي نكبة شعبنا؟ كيف نفرط بنضال طويل مليء بالشهداء والتضحيات مقابل وعود وهمية.
هل نتحلى بوعي بيئي؟ إذا كنا كذلك فكيف نفسر القاذورات المتراكمة على أرصفة شوارعنا وعدم تقيدنا بأبسط التصرفات للحفاظ على بيئة صحية مثل عدم إلقاء النفايات من نوافذ سياراتنا.
هل تستطيع يدان مشلولتان أن ترفع ثقلا عن الأرض؟ لا طبعا.
هل يستطيع عقل عاجز أن يقوم بمهمة النهوض بالأمة؟ لا طبعا.
من أجل النهوض بالأمة من كبوتها التي طال عليها الزمن نحن بحاجة إلى عقل متمرد، ثوري جامح يشن حربا لا هوان فيها أولا وقبل كل شيء على نفسه، على العادات والتقاليد البالية، على الأفكار المسبقة التي تمنعنا من معرفة حقيقية للعالم من حولنا، على خوفنا من الخروج إلى النور ومواجهة العالم.
وأنا أكتب هذه السطور أتذكر قول أحد الملوك العرب مخاطبا أحد القادة الصهاينة: "بالعقل اليهودي والمال العربي نستطيع أن نحول منطقة الشرق الأوسط إلى جنة". يا للعار.


Tuesday, June 23, 2009

عندما يكون الفكر عقيما تكون السياسة عاقرا



نشر د. عمر سعيد مقالا مطولا بعنوان: "عندما يحدث طلاق السياسة من الفكر" تناول فيه علاقة العمل السياسي وخصوصا على ساحتنا المحلية بالفكر النقدي. وتوصل إلى نتيجة مفادها أنه يوجد طلاق بين الاثنين. مما لا شك فيه أن موضوع المقال على درجة عالية من الأهمية وكان من المفروض فتح هذا الملف منذ وقت بعيد على ضوء الأوضاع المزرية للفكر العربي وللسياسة العربية على الساحة المحلية والقومية. المشكلة في مقال د. عمر سعيد، كما سأحاول أن أوضح لاحقا أنه لم يتجرأ على وضع الإصبع على الجرح واكتفى بخدش الموضوع من الخارج ولاعتبارات حزبية ضيقة تقاعس عن المضي قدما بما اقترحه هو ذاته.
يبدأ الخلل بالعنوان. لكي يكون هناك طلاق يجب أن يسبق ذلك زواج. وأنا ازعم أن السياسة والفكر في عالمنا العربي لم تربطهما هذه العلاقة ابدآ. وأكثر من ذلك، حتى علاقة حب غير شرعية عابرة لم تكن بينهما.
يصف الكاتب في بداية المقال بأن الثقافة العربية تعاني من تصلب في العروق وانسداد في الشرايين وذلك بسبب غياب الممارسات الفكرية النقدية الجريئة التي تتصدى للبنى الاجتماعية والثقافية المتهتكة. يبدو الكاتب من خلال هذا الوصف متفائلا بعض الشيء، فالتصلب في العروق وانسداد الشرايين لم يعد ذلك المرض الخطير مع تطور الطب الحديث. ما تعاني منه السياسة العربية والفكر العربي أخطر من ذلك بكثير. إنهما بدون مبالغة يعانيان من فقدان المناعة المكتسبة.
أوافق الكاتب انه يوجد هناك تضخم مشوه لقيمة وفعالية العقل السياسي النفعي على حساب الفكري والمعرفي. ولكن هذا لا ينبع من الفوضى الفكرية العارمة ومن الاضطراب الأخلاقي لمصطلحاتها حيث أن هذه الأمور ذاتها ليست سوى أشكال ونتاج للسياسة النفعية وعلينا أن نبحث عن أسبابها في انعدام الفكر النقدي الخلاق.
يذكر الكاتب ثلاثة أمور تميز ساحتنا الثقافية والسياسية المحلية ويحاول أن يجد تبريرا لبعضها. أولا: مقاومة الطمس والاحتواء الصهيوني. ثانيا: القطيعة الثقافية مع الامتداد العربي. ثالثا: الصراع بين الحداثة والأصالة.
من غير الاستخفاف بأهمية وخطورة هذه الأمور إلا أن استعمالها كمبررات لوضعنا البائس ما زالت الطريق طويلة وإلقاء المسؤولية على طرف معين وإعفاء الآخرين منها هو في حده الأدنى يفتقد للمصداقية وبعيد عن الجرأة الفكرية التي يطالب الكاتب نفسه بها.
هيمنة خطاب حزبي واحد على ساحتنا المحلية على الصعيدين السياسي والثقافي، والمقصود هنا الحزب الشيوعي الإسرائيلي، كان له دور فعال في الاحتواء الصهيوني. فقد ظهر هذا الحزب وكأنه مصاب بنوع من انفصام الشخصية. فمن جهة هو يعرف نفسه بأنه" حزب الوطنية الإسرائيلية" ومن جهة أخرى يعتبر نفسه جزء من الحركة الوطنية الفلسطينية. وهو يقبل بإسرائيل كتجسيد لحق الشعب اليهودي في تقرير مصيره ويحتفل بذكرى استقلال هذا الكيان ومن جهة أخرى يشارك في إحياء النكبة الفلسطينية. هذه السياسة وهذه الممارسات غير مبنية على ايدولوجيا "علمية" وعلى تحليل "تاريخي" كما يسخر الكاتب مشيرا إلى النظرية الماركسية، بل على العكس من ذلك: هذه السياسة والممارسات مبنية على تخلي الحزب عن الايدولوجيا العلمية وعن التحليل التاريخي للواقع. التحريفية سيطرت على هذا الحزب قبل عام النكبة بوقت طويل.
السؤال الذي يطرح نفسه هنا ويضع مصداقية الكاتب على المحك هو: بعد كسر هيمنة الخطاب الحزبي الواحد هل أصبح وضعنا أحسن؟ وهل الحزب الذي ينتمي إليه الكاتب شكل البديل المطلوب؟
لقد كنا نعيش في وهم المعرفة وما زلنا نعيش في وهم المعرفة. كل ما فعلناه هو تغيير وهم بوهم آخر. بماذا يختلف الكلام عن حل الدولتين عن الكلام عن الدولة ثنائية القومية أو دولة جميع مواطنيها إذا كانت الكنيست الصهيوني هي الطريق لجميع هذه الحلول. هل يوجد حقا فرق بين عضو كنيست ينتمي للحزب الشيوعي الإسرائيلي وللأحزاب العربية الأخرى؟ كلهم في الاسرلة سواء ولا يغير هذه الحقيقة كبر العلم الفلسطيني المرفوع في المظاهرات ولا الكلام المنتفخ عن القومية العربية. الكنيست توحدكم جميعا.
وعندما أفلست الايدولوجيا "العلمية" و"التاريخية" ودخلنا إلى عصر حوانيت الجمعيات الممولة بسخاء خارجيا هل أصبح واقعنا الثقافي أفضل؟ هل إيديولوجيا "التصور المستقبلي" و "الدستور الديمقراطي" و"وثيقة حيفا" أفضل؟
مصيبتنا لا تكمن فقط بأننا نعيش وهم المعرفة وليس المعرفة نفسها بل نميل دائما إلى تصديق ما هو جاهز والى تقبل الأشياء مسلمة. ما يقوله الحزب هو الصحيح وغيره خاطئ. وطبعا في مشهدنا المحلي يمكن دائما اختزال الحزب بزعيمه.
إذن، كسر هيمنة الحزب الواحد، وهيمنة الخطاب الواحد لم تقودنا إلى التعددية كما نعلل أنفسنا بل إلى الشرذمة والى المزيد من الشرذمة.
الانقطاع الثقافي عن العالم العربي كعامل في أزمة الثقافة المحلية هو موضوع واسع لا مجال للخوض به هنا. ولكنني أكتفي بالقول أن المأزوم لا يستطيع أن يخلص غيره من أزمته. الفكر النقدي العربي في حالة يرثى لها ومعظم من يطلق عليهم "مفكرون" أو يطلقون على أنفسهم هذا الاسم نراهم ليسوا أكثر من موظفين في القنوات الرسمية العربية أو مفكري بلاط على غرار شعراء البلاط القدامى.
وأخيرا أود أن أتطرق باختصار إلى مسالة الحداثة والأصالة والى غرامنا المفرط بالتراث واعتباره المركب الأهم في هويتنا الوطنية في مواجهة الاحتواء الصهيوني. أولا وقبل كل شيء أقول: إذا أردنا اللحاق بركب التاريخ يجب أن نلقي على الأقل ب90% من "تراثنا" إلى مزبلة التاريخ. يجب أن نقبر هذا التراث ونتابع المسير وإلا بقينا خارج الحضارة. فقط من حاضره تعيس ومستقبله أتعس يهرب للجوء إلى ماضيه ويكرر المقولة الممجوجة: من لا ماض له لا مستقبل له. حضارة الشعوب تقاس بالتقدم الذي تنجزه، أي بمدى التغيير الذي تحققه وليس بمدى ركودها وتحجرها. الشعب الذي يتقدم هو الذي يصنع التاريخ والشعب الذي يراوح مكانه سيجد نفسه عرضة للقمع والعبودية. الهوية، ذلك الشعار السحري يجب أن نفككه إلى مركباته الأولية ونتخلى عن كل مركب فقد تاريخ صلاحيته بدون رحمة. أليس ما حدث في شفاعمرو مؤخرا ومن قبل في المغار والناصرة وغيرها هو جزء من تراثنا؟ هو جزء من هويتنا؟ فلماذا نذرف دموع التماسيح الآن.
من أجل النهوض بالفكر النقدي، من أجل الارتقاء بثقافتنا الوطنية من الحضيض ووضعها في مصاف الحضارة الإنسانية التقدمية يجب أن نهزم أولا ذلك الوهم المعرفي الذي نعيش فيه. يجب علينا تحطيم العديد من الأصنام التي نعبدها.
من أجل ذلك نستطيع أن نبدأ بخطوة بسيطة كل واحد في فينا يستطيع أن يخطوها وهي أن نضع كل شيء موضع سؤال من غير أن ننزلق إلى وهم وكأننا نملك أجوبة نهائية. في خضم هذا الصراع الثقافي الشاق والطويل عينا في الوقت نفسه أن نتعلم العيش رغم اختلاف الآراء الأفكار من الخلال الحرص على حرية الفكر من جهة والتسامح من جهة أخرى.

Wednesday, June 17, 2009

الخطاب المفقود

في بداية الشهر حبس العالم العربي والإسلامي أنفاسه وهو يستمع إلى خطاب الرئيس الأمريكي الجديد براك أوباما من على منصة جامعة القاهرة أمام حوالي 2500 شخص وببث مباشر إلى الملايين عبر كافة الفضائيات الإخبارية العربية. في هذا الخطاب أراد اوباما أن يفتح صفحة جديدة في العلاقات بين الولايات المتحدة الأمريكية والعالمين العربي والإسلامي. نحن هنا لسنا بصدد تحليل هذا الخطاب أو تقييمه ولكن والحق يقال أن أوباما استطاع من خلال بعض عبارات المجاملة حول تاريخ الإسلام المضيء ودوره ومكانته في أمريكا ومن خلال الاستشهاد بآيات من القرآن الكريم في عدة مواقع من خطابه ومن خلال بعض الأفكار العامة غير الملزمة، أن يكتسح العالم العربي والإسلامي. وتحولت أمريكا بين ليلة وضحاها إلى أعز صديق للعرب وللمسلمين.
قلت قبل وبعد خطاب أوباما في القاهرة أنه إذا أراد أوباما أن يحسن صورة أمريكا عند العرب كان عليه قبل قدومه أن يسحب كافة جنوده من العراق والافغانستان وأن يعوض هذين البلدين عن الخسائر (التي لا تعوض) التي سببها الجيش الأمريكي. وعليه أيضا إغلاق كافة القواعد العسكرية الموجودة في المنطقة وعدم التدخل في شؤون الدول الداخلية ويتوقف عن دعم الأنظمة الفاسدة. وإذا أراد أن يحسن صورته وصورة بلاده عند الشعب الفلسطيني عليه قطع العلاقات الدبلوماسية مع إسرائيل وسحب الاعتراف بها ككيان غير شرعي ومساعدة الشعب الفلسطيني لاسترجاع حقوقه وخصوصا تحرير الأرض والعودة. وعدم الاكتفاء باجترار التزامه بإقامة دولة فلسطينية هلامية لا أحد يعرف حدودها أو مكوناتها.
طبعا أتهمت حتى من قبل أقرب المقربين بالمبالغة والمزاودة إذ لم يخلق حتى الآن الزعيم الأمريكي الذي يحلم بمثل ذلك. ونصحوني أن أرى النصف المليء من الكأس وليس النصف الفارغ. إنها مجرد نقطة ماء عالقة في قاع ألكاس ليس إلا ولكن ما العمل ونحن كما يقول مثلنا الشعبي: نغرق في شبر من الماء.
على كل حال، إذا كان هناك شيء ايجابي في خطاب أوباما فأنه يكمن في الخطاب نفسه، أي بوجود رئيس أمريكي يقوم بدوره.
في منتصف الشهر ذاته، أي في بداية هذا الأسبوع وبالتحديد في 14 يونيو وقف رئيس الحكومة الإسرائيلية بنيامين نتنياهو على منصة جامعة أخرى هي جامعة بار أيلان المعروفة بانتمائها لليمين الإسرائيلي المتطرف وألقى خطابا شرح به موقفه وموقف حكومته ليس فقط من خطاب أوباما بل مما يسمى المسيرة السلمية بشكل عام. مرة أخرى حبس العالم العربي أنفاسه ليستمع الى هذا الخطاب.
بعد المقدمة التي سردها في تزييف التاريخ وإلقاء التهم على الضحية وهو الشعب الفلسطيني أراد أن يظهر بمظهر رجل السلام. فهو يشارك الرئيس اوباما رؤيته ورؤية "العالم الحر" بموافقته على قيام دولة فلسطينية. فهو لا يريد السيطرة على الشعب الفلسطيني، إنه يريد فقط دولة منزوعة السلاح توجد بها شرطة لقمع المواطنين الذين يفكرون بالمقاومة، دولة لا تملك السلطة على أجوائها ولا على حدودها ومعابرها. دولة تتقبل الكتل الاستيطانية وتهويد القدس وتعترف بها كعاصمة أبدية لإسرائيل. وتعترف بها كدولة الشعب اليهودي.
"العالم الحر" وعلى رأسه الولايات المتحدة الأمريكية برئاسة براك أوباما رحبت بهذا الخطاب وإعتبرته خطوة إلى الامام في الطريق السلام المنشود. أحد القادة الأوروبيين صرح بطريقة بائسة تدعي إلى السخرية: "لقد ذكر نتنياهو في خطابه كلمة دولة وهذا أمر إيجابي".
العالم العربي والإسلامي صمت مثل أهل القبور، بعض الأصوات الفلسطينية الهزيلة تحتج هنا وهناك.
أين الخطاب العربي؟؟
العرب، المشهورين بالخطابات منذ العصر الجاهلي مرورا بالعصور الإسلامية المتعاقبة وحتى يومنا هذا لماذا عقد لسانهم؟
للتذكير فقط، كان الخطيب في العصر الجاهلي بمثابة وزير إعلام القبيلة يقدم النصح والإرشاد والمفاخرة ويمثل قبيلته في مقابلة الملوك. وما زلنا حتى اليوم نردد خطب قس بن ساعدة وسهل بن عمر ولبيد بن ربيعة. وجاء الإسلام وجعل من الخطابة فنا ومهنة. فلو لم يكن هناك خطباء لما أنتشر الإسلام في أصقاع الأرض وما زلنا نردد خطبة الوداع وخطب علي بن أبي طالب. وبعد نشوء الأحزاب والحركات الإسلامية كان لكل منها خطيب خاص دخل التاريخ الاسلامي من خلال خطبه فهذا الحسين بن علي والحجاج بن يوسف وزياد بن أبي سفيان والكثيرون غيرهم على مر العصور، بزوا الخطيب الاغريقي باركليس وتركوا الخطيب الروماني شيشرون في الخلف. هذا ناهيك عن خطب الجمعة التي أصبحت جزءا من الصلاة في كافة الجوامع. والآن لا يوجد أحد يرد على خطابي أوباما ونتنياهو بخطاب؟
أين شيخ الأزهر محمد سيد طنطاوي الذي بعث الدعوات للاستماع لخطاب اوباما باسمه وباسم رئيس جامعة القاهرة؟ إذا عجز المرء في مرحلة معينة عن استرداد حقه السليب بالقوة فقد يعذر، ولكن أن يعجز حتى عن الكلام؟ فهذا لا عذر له إلا إذا كان ميتا.