Thursday, June 28, 2018

طائرة الدولة الواحدة لم تحلق


طائرة الدولة الواحدة لم تحلق
علي زبيدات - سخنين

 عندما كنا صغارا، والحديث يعود إلى أكثر من نصف قرن، نحن أيضا كنا نلعب بالطائرات الورقية. ولكن على عكس طائرات غزة الورقية اليوم التي تقض مضاجع المستوطنين القريبين من القطاع بل تقض مضاجع الحكومة الاسرائيلية برمتها، كانت طائراتنا فاشلة ترفض التحليق. لم نعرف سبب ذلك حتى عندما كبرنا وتركنا هذه اللعبة وانتقلنا إلى ألعاب أخرى أكثر خطورة. أذكر أننا كنا نركض مسافات طويلة والطائرة الورقية المربوطة بخيط متين تجرجر ذيلها ورائنا، وكنا بين الخطوة والاخرى نشد الخيط بقوة لعلها ترتفع ولو قليلا ولكن من غير فائدة. وكم صعدنا إلى أحد السطوح العالية وأحيانا الى مأذنة الجامع أو إلى أي مكان مرتفع بحثا عن الهواء ولكن كانت الطائرة الورقية دائما توجه خرطومها نحو الأسفل وتهوي إلى الحضيض تماما كالطائرات الحقيقية التي كنا نشاهدها في الأفلام الحربية في ذلك الوقت.
يبدو أننا لم نكن الوحيدين الذين عجزوا عن تطيير طائرة ورقية. وأظن أن أخوتنا في الوطن العربي الكبير لم يكن حالهم افضل من حالنا. وربما من هنا جاء المثل الشعبي الذي يصف أي شيء يأبى التقدم والتغيير بأنه "لم يحلق". مع مرور الوقت  نسينا الطائرات الورقية ولكن الامور التي تأبى التحليق قد ازدادت ولم يعد هناك امكانية لنسيانها بعد أن حفرت في ذاكرتنا الجمعية. فكم من تنظيمات وأحزاب وحركات سياسية جائتنا بشعارات لامعة، بافكار في غاية الروعة بذل القيمون عليها الغالي والرخيص من جهود وأموال ومؤتمرات واجتماعات ولجان ومناشير وبرامج ولكنها في النهاية لم تحلق. وهذا الامر ينطبق على الاشخاص أيضا الذين يبدون للوهلة الاولى مثاليين، ذوي ثقة عالية بأنفسهم، مثقفين ومحبوبين، ولكنهم عندما طرحوا انفسهم لقيادة تنظيم أو حزب أو حتى جمعية متواضعة لم يحلقوا.
كانت هذه المقدمة الطويلة والمملة بكل ما تحتويه من لمز وغمز ضرورية لولوج شعار "الدولة الواحدة" الذي يحاول التحليق بنسخته الجديدة في سمائنا الكئيبة. على فكرة، الاشد كسلا من المبادرين الجدد يستعملون في خطابهم "الدولة الواحدة"، الاقل كسلا يستعملون "الدولة الديمقراطية الواحدة" أما الاكثر نشاطا منهم فإنهم يستعملون "الدولة الديمقراطية العلمانية الواحدة". وهناك بالطبع مفردات آخرى قد تستعمل للدلالة على المفهوم نفسه مع بعض التعديلات مثل: "دولة جميع مواطنيها" "دولة المواطنين" "دولة ثنائية القومية". ولكن لكي نبسط الامور دعونا نختزل كل هذه التسميات ب"الدولة الواحدة" فهي في نهاية المطاف جاءت ردا على حل الدولتين، أو كما يبرر البعض: جاءت ردا على فشل حل الدولتين وقد تسمع بعض الاصوات "الجذرية" تقول: جاءت ردا على إفشال اسرائيل لحل الدولتين.
عقد المبادرون الجدد اجتماعهم التحضيري الموسع الثاني قبل أيام في شفاعمرو وحضره نخبة من الناشطين والمثقفين، اليهود والعرب معظمهم من المخضرمين مع قلة ضئيلة من الوجوه الشابة. وأطلقوا على مبادرتهم هذه: حملة الدولة الديمقراطية الواحدة. واختيار كلمة حملة لم يكن عبثا أو من باب الصدفة بل كان مقصودا لتفادي استعمال كلمة حركة التي تتطلب بناء تنظيميا ثابتا. فالحملة هي وصف لحالة الطائرة الورقية في مرحلة التحضير والانطلاق وتتحول إلى حركة عندما تحلق. وهذا ليس ما يطمح إليه المبادرون فحسب بل ما يؤكدون حدوثه أيضا. ومن ثم تم توزيع بيان باللغة العربية والعبرية بعنوان: "إعلان الدولة الديمقراطية الواحدة في فلسطين". قلت في نفسي: إعلان الدولة الواحدة مرة واحدة؟ بينما ما زالوا يناقشون استعمال كلمة حملة أم حركة؟ وأجبت: أكيد هذا بسبب الحماس الزائد لكاتب البيان فالمقصود: اعلان حول أو من أجل الدولة الديمقراطية الواحدة. فليس من العدل أن تقف لهم بالمرصاد على كل نقطة وفاصلة.
أنا ضد حل الدولتين وقد كتبت حول ذلك مرارا وتكرار. كنت ضده قبل أن تبنته التنظيمات والأحزاب الفلسطينية، أي قبل اتفاقيات أوسلو ومجيء السلطة الفلسطينية وبالتحديد بعد تبني ما يسمى البرنامج المرحلي عام 1974 وانتظار الدعوة التي لم تصل للمشاركة في مفاوضات جنيف. في ذلك الوقت كان معظم الفلسطينيين يرفضون هذا الحل. ولكن أن تكون ضد حل الدولتين هو شيء وأن تكون مع حل "الدولة الواحدة" هو شيء آخر. وقد كتبت مؤخرا، أنه في السنوات العشرة الاخيرة تمت اللغوصة بشعار حل الدولة الواحدة أضعاف ما تمت اللغوصة بشعار حل الدولتين خلال ما يقارب النصف قرن.
لنلق نظرة على البند الأول من البرنامج السياسي للحملة: 1. "دولة ديمقراطية - دستورية واحدة: تقام الدولة الديمقراطية الواحدة بين البحر الأبيض المتوسط ونهر الأردن ، كدولة لكل مواطنيها، بما فيهم اللاجئين الفلسطينيين، بحيث يتمتع جميع المواطنين بحقوق متساوية، إضافة إلى الحرية والأمن. هذه الدولة تكون ديمقراطية دستورية، تنبع سلطة الحكم وسن القوانين فيها من إرادة الشعب، ويتمتع جميع مواطنيها بحقوق متساوية في الانتخاب والترشح لأي منصب والمساهمة في حكم البلاد".
 شكرا لأنكم ذكرتم اللاجئين الفلسطينيين وكأنهم قادمون من كوكب آخر. ولكن ماذا عن المستوطنين؟ اه صحيح، مفهوم ضمنا، فالدولة لكل مواطنيها، وفي بند آخر تقولون يحق لكل مواطن أن يسكن اينما يشاء، يعني يستطيع أهل الخليل دعوة مستوطنيهم لاحتساء قهوة الصباح مع بعض. ويمكن بناء المستوطنات من غير عائق في كل مكان. وباقي الكلام: أليس هذا ما تقوله إسرائيل عن نفسها؟ الا يوجد هناك حقوق متساوية في الانتخاب والترشح لأي منصب؟ ألم يرشح أحد مفكرينا الكبار نفسه لرئاسة الحكومة وقلتم حينذاك: ضربة معلم؟ أما بالنسبة للدستور فهذه مسالة بسيطة إذ يوجد هناك حاليا قوانين اساسية أو دستورية ويوجد لجنة دستور في الكنيست وسوف تساعدها جمعية عدالة لوضع "دستور ديمقراطي" حيث كانت هناك محاولة من هذا النوع وسوف تأتي غيرها.
باقي البنود (وهي عشرة بنود) تعج بالتناقضات والتخبطات والشعارات التي ابتذلت على مر الأيام حول العدل، السلام، الحقوق الفردية والجماعية، حقوق الإنسان، القانون الدولي ومواثيق الأمم المتحدة. يحاول بعض المبادرين الذين يعتبرون أنفسهم خبراء في نظام الابرتهايد بعد عدة زيارات قاموا بها لجنوب افريقيا استيراد كلمة "تفكيك" نظام الابرتهايد واستعمالها بدون الاخذ بعين الاعتبار الفوارق الجوهرية بين النظامين العنصريين، ويتجاهلون أن ما تم تفكيكه في جنوب افريقيا هو الجانب السياسي فقط لنظام الأبارتهايد وتم الإبقاء على الجانب الاقتصادي والاجتماعي. لذلك ليس غريبا ألا تحلق طائرة الدولة الواحدة الورقية هذه المرة أيضا.
أيها الرفاق، للتوضيح والتفكير، أقول: الخيار الذي نقف أمامه في هذه المرحلة هو ليس بين حل الدولة الواحدة وبين حل الدولتين، الخيار الحقيقي ما زال بين الدولة والثورة. انا اختار الثورة. 


Thursday, June 07, 2018

الانظمة المستبدة بحاجة لشعوب ثائرة

الأنظمة المستبدة بحاجة لشعوب ثائرة
علي زبيدات - سخنين

 كتبت كثيرا عن العلاقة الجدلية بين الشعوب وبين الانظمة التي تحكمها. وربما من الاصح أن اقول، عن التناقض الذي قد يصل إلى درجة التناحر بين الشعوب وهذه الانظمة. من الطبيعي أن يكون التركيز بحكم الواقع وبحكم الصلة الخاصة على الشعوب والانظمة في منطقتنا العربية وخصوصا في الاماكن الملتهبة كبلاد الشام، مصر وشبه الجزيرة العربية. ولم أخف في يوم من الايام انحيازي المطلق لقضايا الشعوب وموقفي الثابت ضد الأنظمة. فقد توصلت إلى قناعة لا تتزحزح بأنه قد آن الأوان للأنظمة العربية بدون إستثناء أن ترحل.  يرفض البعض هذا المنطق المبسط والصريح بحجة أنه لا يمكن وضع كافة الانظمة بسلة واحدة فهناك الانظمة الملكية والجمهورية، التقدمية والرجعية، عميلة للامبريالية وممانعة أو مقاومة لها. و يستنتجون من ذلك أن هناك أنظمة يجب أن ترحل ولكن هناك أنظمة يجب أن تبقى حتى ولو فني الشعب وخرب البلد. طبعا لا يستطيع أحد أن ينفي أوجه الاختلاف بين الانظمة والتباينات في سياساتها الداخلية والخارجية، قناعاتي تقول أن مثل هذه الاختلافات تجميلية يعني مساحيق ومكياج تسهل إزالتها وأن التباينات في سياستها نسبية جدا، شكلية، مؤقتة ومشروطة وبالتالي تستحق أن توضع في سلة واحدة ويلقى بها إلى مزبلة التاريخ.
نظريا، يبدو هذا الانحياز المطلق للشعوب طبيعيا وسهلا. ولكن ترجمته إلى عمل، إلى مواقف سياسية ترافقه صعوبات ومخاطر جمة قد تصل إلى حد فقدان البوصلة وضياع الطريق. فالشعوب ذاتها تتكون من طبقات وشرائح مختلفة تعيش تناقضاتها وصراعاتها الداخلية. وهي بطبيعتها محافظة تصبو إلى الاستقرار والحياة الكريمة، ولكنها ثورية بالقوة وقد تصبح ثورية بالفعل إذا وعت واقعها التعيس وذوتت قدرتها على تغييره. ولا ننسى أن بعض هذه الشرائح مخترقة من قبل الانظمة ويمكن أن تنسلخ عن جسد الشعب مع تطور النضال. هنا يجب ألا ننسى ديماغوجية الأنظمة التي عادة ما تتكلم بإسم الشعوب وتستطيع أن تؤثر سلبا على شرائح واسعة منه.
في ظل نظام العولمة الامبريالي السائد على كوكبنا يمكن تقسيم الانظمة العربية إلى معسكرين: أنظمة يتم حمايتها من قبل دولة (أو دول) امبريالية مركزية. وأنظمة يتم إسقاطها أو محاولة إسقاطها من دول امبريالية مركزية أخرى. وقد تتواجد بعض الانظمة في المعسكرين في آن واحد، حسب زاوية النظر إليها. قد تستفيد بعض الأنظمة من حالة التوازن بين القوى الامبريالية العظمى لتأمين استمراريتها. في كل الأحوال ما أريد أن أقوله هنا أن نظام العولمة الامبريالي لا يسعى إلى مصادرة حق الشعوب في اسقاط انظمتها فحسب بل يسعى أيضا إلى ابقاء هذه الشعوب ترزح تحت هيمنته واستغلاله.
السؤال الذي يطرح نفسه في هذا السياق وعلى الدوام: هل ما زال اسقاط نظام عربي أو تغييره  جذريا ممكنا من غير تدخل أجنبي؟ وبعبارة أخرى: هل ما زالت الثورات الوطنية ممكنة؟ لا أملك إجابات نهائية وقاطعة على هذه الأسئلة وأظن لا أحد يملك مثل هذه الإجابات. فقط الممارسة العملية طويلة الامد تستطيع أن تزودنا تدريجيا بالاجوبة، تستطيع أن تثبت أو أن تدحض هذه الفرضية. قد لا يكون مستحيلا ولكنه بالتأكيد سيكون في غاية الصعوبة. ثورات الربيع العربي في السنوات السبع الأخيرة هي خير دليل على هذه الظاهرة. فجميعها قد تم إجهاضها بعد اختراقها وحرفها عن مسارها الصحيح، كل ثورة حسب تجربتها وظروفها الخاصة. في تونس مثلا، أولى الثورات العربية الحديثة، خرج النظام البائد من الباب لكي يعود بعد سنوات قليلة من الشباك بمساعدة نظام العولمة. الشيء نفسه حدث في مصر بعد أخذ طبيعتها الخاصة بالحسبان. في ليبيا كان تدخل حلف الناتو المباشر سيد الموقف بمساعدة دول عربية وخصوصا الإمارات وقطر. في البحرين التدخل السعودي - الخليجي حسم الموقف مؤقتا لصالح النظام القائم. اليمن ما زال يتعرض لحرب أهلية واقليمية تحت مظلة العولمة إلى يومنا هذا. أما في سوريا فحدث بلا حرج، حيث اصبحت صورة مصغرة لحرب عالمية ثالثة سحبت البساط من تحت أقدام النظام السوري ومن تحت أقدام الحركات والتنظيمات المعارضة له. ربما أثبتت التجربة السورية أكثر من غيرها أن زمن الثورة الوطنية بمفهومها القديم والمعروف قد ولى إلى الأبد ومن غير رجعة، وأن الثورة الوطنية في هذا العصر وخصوصا في المناطق الحساسة يجب أن تكون جزءا من ثورة عالمية.
عندنا في فلسطين من الصعب الكلام عن نظام أصلا هذا من جهة، ومن جهة أخرى وبعد ربع قرن من اتفاقيات أوسلو، أصبح الكلام عن ثورة أصعب.  نستطيع أن نقول إن جاز التعبير: يوجد لدينا نظام مشوه وحنين لثورة تم إجهاضها وهي جنين. بالرغم من ذلك، فهذا النظام المشوه ليس استثناء على الساحة العربية حيث جميع  الانظمة مشوهة بشكل أو آخر. حسب رأيي مصير الشعب الفلسطيني مربوط بعلاقة لا تنفصم بمصير الشعوب العربية وباقي الشعوب التي تصبو للانعتاق من هيمنة العولمة الامبريالية، وأن نضاله مرتبط عضويا بنضالات هذه الشعوب. 
تحديات المرحلة القادمة ستكون كيف نجعل من النضال الوطني الفلسطيني نضالا أمميا؟ وكيف نجعل النضال الأممي حاضنة للنضال الفلسطيني؟ الشعب الثائر وحده قادر على إسقاط نظام مستبد.