Tuesday, July 21, 2009

الثورة المغدورة

الثورة المغدورة

علي زبيدات – سخنين

إذا كانت اتهامات فاروق القدومي الأخيرة لمحمود عباس ومحمد دحلان صحيحة فإنها مأساة وإذا كانت ملفقة فإن المأساة أكبر. ولن يتغير في جوهر الأمور شيء إذا جاءت هذه الاتهامات في سياق نزاع شخصي بين شخصين قياديين أو بين تيارين داخل حركة فتح. النتيجة الحتمية لهذه الاتهامات وتفاعلاتها تبقى واحدة وهي إسدال الستار على دور حركة فتح التاريخي في الحركة الوطنية الفلسطينية المعاصرة، وإن دل على شيء فإنه يدل على إفلاس كامل للخط السياسي والإيديولوجي والتنظيمي لحركة فتح. أقول ذلك من غير شماتة. فقد قدمت فتح مئات بل آلاف الشهداء منذ بداية المقاومة وحتى اليوم. وكم مؤلم أن تذهب تضحيات وأرواح هؤلاء الشهداء سدى. وما زالت سجون الاحتلال تأوي الآلاف من المناضلين الذين ينتمون إلى هذه الحركة العريقة. ولكن بالرغم من الحسرة والشعور بالإحباط والغضب، أصبح كل ذلك في ذمة التاريخ.
لكل ثورة يوجد عدوان. الأول عدو خارجي يتجسد عادة بالاستعمار والقوى الرجعية العميلة، وعدو داخلي يتمثل بتلك الطبقات والحركات التي تكون في مرحلة تاريخية معينة في معسكر الثورة وتقوم في بعض الأحيان بدور أساسي في النضال ولكنها مع تغير المرحلة التاريخية تتساقط رويدا رويدا حتى تغادر صفوف الثورة وينتهي بها المطاف في معسكر الأعداء، ويطلق عليها الثورة المضادة. تفيد تجارب الشعوب أن العدو الداخلي أخطر بما لا يقاس من العدو الخارجي. فالعدو الخارجي معروف والصراع معه مباشر ومكشوف. وقد تتلقى القوى الثورية الضربات الأليمة والانتكاسات والهزائم. وقد يطول النضال وترتفع التضحيات. ولكن ما دامت القضية عادلة والجماهير تحتضنها وتحميها، فالنصر على هذا العدو في النهاية سيكون حتميا. أما العدو الداخلي، الذي ينمو ويترعرع داخل الحركات الثورية في غفلة من الزمن فقد يقضي على الثورة ويحولها إلى ضدها بدون مقاومة تذكر.
الثورة الفلسطينية، أو على الأصح ما كنا نسميه مجازا بالثورة الفلسطينية لا تشذ عن هذه القاعدة. فهذه "الثورة" لم ترتق ابدآ إلى مصاف الثورة لا من حيث وضوح رؤيتها وتحديد أهدافها ولا من حيث إيديولوجيتها ولا من حيث ممارساتها النضالية والسياسية. ولكنها، عندما انفجرت في ظل الهزائم العربية، شكلت بصيصا من نور في سماء الأمة المظلم وشكلت شعاعا من الأمل على طريق التحرير. غير أن رياح القيادة جرت بما لا تشتهيه سفن الجماهير. فسرعان ما عادت هذه القيادة إلى الثلم العربي الرسمي، وتبوأت حركات المقاومة بعد سيطرتها على منظمة التحرر الفلسطينية مكانها في جامعة الدول العربية بعد أن نالت الاعتراف من دول هذه الجامعة بشرط أن تحافظ على مستوى متدن من المقاومة وعدم الارتقاء به إلى مصاف الثورة السياسية الاجتماعية. وهكذا سرعان ما بدأت هذه القيادة بمغازلة العدو الخارجي ( الامبريالية والصهيونية) من خلال البرامج المرحلية والمفاوضات كمرحلة تمهيدية حتى الاتفاقيات التفريطية اللاحقة. وفي هذه المسيرة المشؤومة نمت طبقة عميلة لبست قناع الوطنية لفترة معينة. واليوم يسقط هذا القناع أمام الجميع لكي يتبين أن ما اعتبرناه ثورة وهو في الحقيقة لم يكن أكثر من مقاومة أصبح ثورة مضادة. فبعد أن كنا نعتبر الحركة الوطنية الفلسطينية طليعة حركات التحرر العربية أصبحت هذه الحركة الحليف الاستراتيجي للرجعية العربية من المحيط إلى الخليج. وبعد أن كنا نعتبرها رأس الحربة في النضال ضد الصهيونية والامبريالية العالمية وعلى رأسها الامبريالية الأمريكية أصبحت هذه الحركة حليفا استراتيجيا لهما.
المصيبة عندنا كانت مضاعفة. فالثورات الحديثة الأخرى التي آلت إلى ثورات مضادة قد حققت بعض أهدافها. فثورة أكتوبر العظمى في روسيا مثلا، كانت قبل انحرافها واندثارها قد دكت النظام القيصري الأكثر رجعية ونقلت بلدا إقطاعيا متخلفا إلى مصاف الدول العظمى في فترة قياسية. والثورة الجزائرية التي قدمت مليون شهيد استطاعت أن تطرد استعمارا استيطانيا جثم على أرضها 130 سنة قبل أن تتحول وتفتك بأبنائها. وثورة يوليو المصرية استطاعت أن تؤمم القناة وتسدد ضربة قاسية للإقطاع والرجعية قبل أن تعود الطغمة الحاكمة حاليا وترتمي في أحضان الامبريالية والصهيونية. والأمثلة كثيرة من لثورات في الصين وفيتنام إلى إيران وجنوب افريقيا وغيرها. ما عدا في فلسطين. حيث تحولت "الثورة" من ثورة إلى ثورة مضادة من غير أن تحقق إنجازا واحدا يذكر، اللهم إلا إذا اعتبرنا السلطة إنجازا وتمزيق ما تبقى من فلسطين بين ضفة غربية وغزة إنجازا والقتال على سلطة وهمية إنجازا.
الواقع أليم ومحزن ومحبط. ومن لا يعترف بذلك يكذب على نفسه. ولكن، ما دامت القضية الفلسطينية تحافظ على عدالتها. وما دامت الجماهير المشردة المسحوقة تتمسك بقضيتها فتغيير الواقع مهما بلغت قسوته فلن يكون ممكنا فحسب بل حتميا أيضا.
الثورة الفلسطينية لم تمت ولكنها لم تولد بعد وهذه أيام مخاضها.

العقل العربي بين إرهاصات التخلف وضرورة النهضة



تعريف المصطلحات الفكرية مهما كان مجالها، سياسيا، اجتماعيا، اقتصاديا، أدبيا أو أي مجال آخر ليس بالأمر السهل. مهما كان التعريف شاملا ومحكما ومبنيا على أسس منطقية متينة فلا بد إلا أن يحتوي على بعض الثغرات والإدعاءات غير المبرهنة وبالتالي يكون نسبيا ومشروطا وأحادي الجانب. في الآونة الأخيرة يكثر استعمال مصطلح "العقل العربي" ومقدرته على نفض غبار التخلف والنهوض بالعالم العربي واللحاق بركب الحضارة.
السؤال الأول الذي يتبادر إلى الذهن هنا هو: هل يوجد هناك شيء اسمه العقل العربي؟ أو العقل الصيني أو العقل اليهودي، الخ.؟؟ طبعا كل تعميم هو خاطئ أو في أحسن الحالات صحته نسبية. فالعقول عادة ما تتخطى الحدود الجغرافية والزمنية وتتفاعل فيما بينها بشكل معقد وغامض في معظم الأحيان وتؤثر وتتأثر ببعضها البعض. ولكن بالرغم من كل هذه التحفظات لا بد من مثل هذه التعريفات وإلا تعطلت لغة الحوار والنقد والبحث والدراسات. كذلك اختلف الفلاسفة وعلماء النفس حول تعريف مفهوم العقل واستعملوا كلمات مترادفة أو متشابهة مما زاد من عدم الوضوح فمنهم من استعمل كلمة الإدراك أو التفكير أو المعرفة أو الوعي وجميعها مصطلحات متقاربة جدا تعكس الرؤية الخاصة لهذا المفكر أو ذاك.
لنعود إلى العقل العربي. طبعا، مقالة صحفية لا تطمح أبدا تقديم تحليل واف أو دراسة شاملة تتناول العقل العربي. من أجل ذلك يمكن الرجوع إلى موسوعة محمد عابد الجابري ورد جورج طرابيشي عليها بالإضافة إلى العديد من الدراسات الأخرى. كل ما اطمح إليه هو الإشارة إلى بعض النقاط ذات الأهمية العملية التي تواجهنا في حياتنا اليومية وفي نضالنا غير المتكافئ ضد الدولة الصهيونية جميع إفرازاتها. لذلك أفضل استعمال مصطلح "الوعي العربي" بدلا من "العقل العربي" وذلك لأن الوعي هو مقياس لنجاعة أو عدم نجاعة العقل. الوعي يشمل الإدراك والمعرفة ولكنه يشمل أيضا المقدرة على التحليل والاستنتاج ومن ثم اتخاذ موقف وتغيير الواقع.
إذا كان العقل هو الذي يفرز التفكير فأن الوعي هو الذي يدركه ويقيمه ويصحح مساره. من المؤكد أن وعينا الجماعي ليس سوى انعكاس لعقلنا الجماعي. فإذا قبلنا تعريف جون لوك للوعي بأنه إدراك ما يدور داخل العقل، فماذا الذي يمكن أن ندركه إذا كان عقلنا الجماعي يفرز تفكيرا جامدا، يعجز عن مواجهة ابسط التحديات، متقوقع على نفسه يخاف من النور، لا يعرف ما يريده ولا يستطيع أن يحدد أهدافه؟.
إننا نعاني من قلة الوعي في جميع المجالات، ومن الأفضل أن نعترف بهذه الحقيقة المرة. هل نتحلى بوعي اجتماعي؟ إذا كنا كذلك فكيف نفسر القتل على خلفية ما يسمى "شرف العائلة" وكيف نفسر النزاعات الطائفية والعائلية التي تتحكم في تصرفاتنا؟ إننا نطالب العالم أن يعترف بنا كشعب له حقوق طبيعية مغتصبة يناضل من أجل تحقيقها في الوقت الذي لا نستطيع أن نفكر حتى على مستوى مدينة أو قرية، بل تفكيرنا يبقى محصورا في الحارة وداخل الحمولة.
هل يوجد لدينا وعي سياسي؟ إذا كنا كذلك فكيف نفسر انبطاحنا بهذا الشكل المخزي أمام صانعي نكبة شعبنا؟ كيف نفرط بنضال طويل مليء بالشهداء والتضحيات مقابل وعود وهمية.
هل نتحلى بوعي بيئي؟ إذا كنا كذلك فكيف نفسر القاذورات المتراكمة على أرصفة شوارعنا وعدم تقيدنا بأبسط التصرفات للحفاظ على بيئة صحية مثل عدم إلقاء النفايات من نوافذ سياراتنا.
هل تستطيع يدان مشلولتان أن ترفع ثقلا عن الأرض؟ لا طبعا.
هل يستطيع عقل عاجز أن يقوم بمهمة النهوض بالأمة؟ لا طبعا.
من أجل النهوض بالأمة من كبوتها التي طال عليها الزمن نحن بحاجة إلى عقل متمرد، ثوري جامح يشن حربا لا هوان فيها أولا وقبل كل شيء على نفسه، على العادات والتقاليد البالية، على الأفكار المسبقة التي تمنعنا من معرفة حقيقية للعالم من حولنا، على خوفنا من الخروج إلى النور ومواجهة العالم.
وأنا أكتب هذه السطور أتذكر قول أحد الملوك العرب مخاطبا أحد القادة الصهاينة: "بالعقل اليهودي والمال العربي نستطيع أن نحول منطقة الشرق الأوسط إلى جنة". يا للعار.