Thursday, September 28, 2017

من فلسطين إلى كردستان مع الحب وخيبة الامل

من فلسطين إلى كردستان مع الحب وخيبة الأمل
علي زبيدات - سخنين

طالما آمنت بوجود قضيتين عادلتين في منطقتنا: القضية الفلسطينية والقضية الكردية. هناك أوجه شبه عديدة وجوهرية بين القضيتين ولكن في الوقت نفسه هناك أيضا أوجه اختلاف عديدة وجوهرية. ولعل وجه الشبه الأساسي هو نضال الشعبين الفلسطيني والكردي من أجل حريتهما في ظروف صعبة تكاد أن تكون مستحيلة في ظل اختلال في موازين القوى. ولعل الاختلاف الأساسي هو أن نصف الشعب الفلسطيني مشرد عن أرضه والنصف الآخر يرزح تحت الاحتلال بينما يسكن الشعب الكردي على أرضه وإن كانت موزعة على أربعة بلدان. على الصعيد الشخصي أصبت بخيبة أمل عميقة من كلتا القضيتين بسبب فقدان البوصلة وما آلت إليه من تناقض مستعصي بين عدالتها وبين انتهازية ورجعية قيادتها. وكما يقول المثل: خيبة الأمل تأتي على قدر المحبة.
لقد كتب الكثير عن القضية الفلسطينية وعن القضية الكردية ولا أظن أن مقالة صحفية متواضعة تستطيع أن تأتي بشيء جديد في هذا المجال. لذا سوف أكتفي بمحاولة شرح موقفي الشخصي من مسألة الاستفتاء على استقلال (انفصال)اقليم كردستان العراق لعله يحمل بين سطوره بعض الفائدة في هذا الموضوع من خلال تقبل أو رفض هذا الموقف.
الأحداث الأخيرة فيما يتعلق بالقضية الكردية وخصوصا في العراق أعادتني إلى أكثر من أربعين سنة للوراء. في منتصف سنوات السبعين دخلت سجن الرملة المركزي حيث أمضيت ست سنوات متتالية. لا ادري اذا كان يسمى سجن الرملة المركزي لكونه السجن الأكبر في البلاد في ذلك الوقت، بالنسبة لي لا اعتراض على هذه التسمية ولكن لسبب آخر: لأنه كان يضم نخبة من قيادة أسرى الفصائل الفلسطينية ومن الأجانب الذين ناضلوا في صفوفها. كان من بين الأسرى الأجانب أسير كردي - تركي تم اختطافه من أحد المخيمات الفلسطينية في لبنان حيث كان يتلقى تدريبات عسكرية وكان ينتمي الى احد الاحزاب التركية الماوية الملاحقة من قبل الجيش التركي خلال فترة الانقلاب العسكري في تركيا. في الوقت نفسه كان هناك أسيران ينتميان للحزب الشيوعي العراقي تم اختطافهما من إحدى الدول الإفريقية لمشاركتهما مجموعة ألمانية -  فلسطينية تابعة للجبهة الشعبية لاختطاف طائرة إسرائيلية، هذا إلى جانب نخبة من كوادر الجبهة الشعبية لتحرير فلسطين والجبهة الديمقراطية. وفي تلك الفترة بالذات تصدر تجدد المعارك بين الحكومة العراقية والاحزاب الكردية الأحداث وذلك في أعقاب اتفاق الجزائر بين صدام حسين نائب رئيس مجلس الثورة آنذاك وشاه إيران حيث اوقفت ايران دعمها للأكراد مقابل تنازل العراق عن مساحات واسعة في شط العرب.
في ظل هذه الظروف كان الأسرى "اليساريون" وكنت على ما أظن من اصغرهم، يجلسون ويناقشون من وجهة نظر الماركسية - اللينينية حق الأمم في تقرير مصيرها بشكل عام وحق الشعب الكردي بشكل خاص. بالرغم من خلافاتهم التنظيمية والأيديولوجية والسياسية إلا أنهم جميعا اتفقوا على حق الشعب الكردي في تقرير مصيره. فقد كان الأسير الكردي - التركي الماوي شبه مقاطع من قبل باقي اليساريين لانه كان يطلق على الاتحاد السوفياتي بالامبريالية الصاعدة (بعد إطلاق سراحه تخلى عن الماوية و أصبح محللا سياسيا معروفا في اسطنبول) وكانت الخلافات المعهودة بين كوادر الجبهة الشعبية والجبهة الديمقراطية على أشدها. ولكنهم اجتمعوا كلهم حول كتيب صغير كتبه ستالين كان يعتبر القول الفصل في المسألة القومية بعنوان:" الماركسية والمسألة القومية" وكانت قيمة وأهمية هذا الكتيب تفوق كل ما كتبه لينين وماركس حول المسالة القومية والتي كانت شحيحة في السجن. على كل حال اعتقد الأسرى اليساريون أن ستالين ينقل ما قاله لينين وماركس بكل أمانة في هذا المجال. يعرف ستالين الأمة كالتالي:" جماعة ثابتة من الناس تألفت تاريخيا على أساس جامعة اللغة والأرض والحياة الاقتصادية والتكوين النفسي المشترك الذي يجد تعبيرا عنه في الثقافة المشتركة".  وبالتالي كل جماعة ينطبق عليها هذا التعريف تصبح أمة لها الحق في تقرير مصيرها. السؤال الذي يبقى مفتوحا ما هو الشكل السياسي الذي يتخذه هذا الحق؟ لقد أكد لينين في كتابه "حق الأمم في تقرير مصيرها" أن المقصود هو حرية تقرير المصير السياسي، أي الاستقلال كدولة، أي إنشاء دولة قومية إلى حد الانفصال التام. نظريا تبنى الحزب الشيوعي العراقي، والأحزاب الشيوعية العربية والتنظيمات اليسارية الفلسطينية، هذا التعريف بحذافيره ولكن عمليا وافق على صيغة الحكم الذاتي أو الفيدرالية كشكل من أشكال حق تقرير المصير. ففي بداية سنوات السبعين عندما اتفقت الحكومة العراقية والاحزاب الكردية على الحكم الذاتي وافق عليها الحزب الشيوعي العراقي. إلا أن هذه الاتفاقية لم تدم طويلا وبعد مواجهات عنيفة فرضت الحكومة العراقية على الأكراد حكما ذاتيا من طرف واحد رفضه الأكراد فما كان أمام الحزب الشيوعي إلا أن يرفضه أيضا. واليوم يطالب الاكراد بالانفصال التام وإقامة دولة قومية كردية ولا يسع الحزب الشيوعي العراقي، أو ما تبقى منه، إلا أن يوافق إذا ما أراد أن يبقى مخلصا لمبدأ حق "الأمم في تقرير مصيرها" الماركسي (الستاليني).
كنت، في تلك الفترة، واحدا من الذين تقبلوا هذه النظرية كأمر مسلم به. بعد خروجي من السجن وبعد تعمقي في المصادر الماركسية تبين لي أن ستالين لم ينقل أفكار لينين حول المسألة القومية بإخلاص، وأن لينين بدوره لم ينقل أفكار ماركس في ذات الموضوع بإخلاص وأن ماركس نفسه كان مشغولا بمسائل أخرى ولم يعر مسألة القوميات وخصوصا في البلدان النامية كامل الاهتمام. أعدت قراءة كراس لينين:"حق الأمم في تقرير مصيرها" ومجموعة من المقالات والخطب نشرت تحت اسم:"حركة شعوب الشرق التحررية الوطنية" فوجدت أن لينين يدافع عن أفكار كارل كاوتسكي الذي يدافع بدوره عن ضرورة قيام الدولة القومية البرجوازية كمرحلة لا بد منها تسبق الثورة البروليتارية، كارل كاوتسكي نفسه الذي وصفه لينين فيما بعد بالمرتد وخيانة الثورة، وفي الوقت نفسه يهاجم روزا لوكسمبورغ التي شككت بمقدرة البرجوازية في البلدان النامية إنجاز ثورة وطنية ديمقراطية والتخلص من التبعية للامبريالية.
من هنا توصلت إلى قناعة تامة وتبلور لدي موقف واضح يرفض اعتبار شعار "حق الأمم في تقرير مصيرها" حقا مطلقا أو حقا مقدسا على العكس من ذلك هو حق نسبي ومشروط.  يقول لينين: " من منطلق ماركسي عند تحليل قضية اجتماعية يجب وضع القضية في نطاق تاريخي معين وتبيين الخصائص الملموسة التي تميز هذا البلد عن سواه في حدود حقبة تاريخية واحدة". وهذا بالضبط ما تجاهلته الأحزاب والحركات اليسارية. في ذلك الوقت، نهاية القرن التاسع عشر وبداية القرن العشرين، كان هناك وهم وجود حركات قومية برجوازية ديمقراطية دعا لينين إلى تأييدها. اليوم هذا الوهم قد تبخر نهائيا. ماركس نفسه كان متعاطفا مع الحركة القومية الأيرلندية لأنها في نهاية المطاف تساعد البروليتاريا الانجليزية للتخلص من شوفينيتها ولكنه في الوقت نفسه كان ضد بعض الحركات القومية السلافية لانها كانت تخدم القيصرية الروسية الرجعية ولا تقدم أي شيء تقدمي للبروليتاريا.
هل قيام دولة كردية مستقلة في شمال العراق كترجمة لحق تقرير المصير يحتوي على شيء تقدمي للثورة؟ أم العكس هو الصحيح؟ أم أنه يعزز النظام الإقطاعي العشائري السياسي للبرزاني؟ ويزيد التبعية للامبريالية الامريكية واسرائيل؟ هل هذا الاستقلال أو الانفصال، سمه كما شئت، يمنح حقا الحرية للشعب الكردي؟ هذا لا يعني أن النظام العراقي افضل وليس دفاعا عنه من أي منطلق كان. الحالة نفسها في فلسطين حيث يتكلم الجميع عن الدولة الفلسطينية المستقلة، هل يجب أن نقبل بدولة هزيلة تحكمها طغمة طفيلية تبقى تابعة لامريكا واسرائيل بحجة التخلص من الاحتلال أو كتطبيق لحق تقرير المصير؟

بالإضافة إلى كل ذلك، لا يعقل أن تنادي بالقضاء على الدولة كدولة بصفتها جهاز قمعي يخدم الطبقة الحاكمة وفي الوقت نفسه تدعم قيام دولة تعرف مسبقا أنها ستكون رجعية وعميلة. نعم، أنا ضد قيام دولة عميلة بزعامة البرزاني في كردستان العراق كما انني ضد قيام دولة فلسطينية عميلة بزعامة محمود عباس ومن على شاكلته. في الوقت نفسه يجب أن يستمر النضال ضد كافة أشكال الاضطهاد القومي  ومن أجل وحدة وحرية الشعوب.

Thursday, September 21, 2017

التحرر عن طريق التسول والاستجداء

التحرر عن طريق التسول والاستجداء
علي زبيدات - سخنين

في خطابه من على منصة الجمعية العامة للأمم المتحدة في دورتها ال72 وأمام رؤساء ووفود الدول الأعضاء وأمام كاميرات وسائل الإعلام العالمية، توقف محمود عباس رئيس السلطة الفلسطينية عدة مرات موجها سؤاله للحضور الذين يمثلون ما يسمى بالمجتمع الدولي قائلا: إلى أين نذهب؟ إلى أين نذهب؟ لو كنت موجودا في القاعة لقلت له بكل بساطة: أفضل شيء هو أن تذهب إلى البيت. فلم يبق من عمرك إلا القليل فلماذا لا تمتع به بين ابنائك واحفادك؟. طبعا أعلم أنه لما سأل: إلى أين نذهب؟ لم يكن يقصد هو وأفراد عائلته بل كان يقصد الشعب الفلسطيني برمته، فهو قد سافر إلى نيويورك خصيصا ليتكلم باسم الشعب الفلسطيني، أليس كذلك؟ صحيح، أنه لم يتكلم باسمنا نحن الفلسطينيين الذين نعيش في المناطق المحتلة عام 1948 حيث تنازل لنتنياهو عن هذا الحق. ولكن لا تقلق يا سيادة الرئيس فالشعب الفلسطيني يعرف إلى أين يذهب بدونك.
ما يحدث في نيويورك في هذه الأيام، أقصد الدورة ال72 للجمعية العمومية التابعة للأمم المتحدة هي مسرحية بالرغم من كثرة النجوم(رؤساء وملوك ووفود تضم النخب من دول العالم)، هي مسرحية هابطة وتافهة باعتراف نجمها الأول دونالد ترامب الذي وصفها بمكان للثرثرة وعدم النجاعة وطالب بإصلاحها. شخصيا، أشد ما أكره هو الاستماع إلى الخطابات المنمقة وغير المنمقة للزعامات بغض النظر عن ألقابها لذلك نادرا ما أجلس أمام التلفاز لاستمع الى هذه الخطابات بالبث المباشر، واكتفي فيما بعد بقراءة بعض التلخيصات أو المقتطفات التي تتناولها وسائل الإعلام لكي أبقى "محتلناً". ولكن لأسباب خاصة من السهل تخمينها كان لدي هذه المرة إستثناءان، فقد استمعت لخطاب محمود عباس وبنيامين نتنياهو كاملين. لست هنا بصدد المقارنة بين الخطابين، اصلا لا يوجد هناك مكان للمقارنة. في خطاب الاول ينضح بالاستجداء والتمسكن وخطاب الثاني يفيض بالوقاحة والتعجرف.
بالإضافة للجملة التي ذكرتها آنفا والتي كررها محمود عباس في خطابه عدة مرات: إلى أين نذهب، إلى أين نذهب؟ وهو يقصد طبعا إذا لم نذهب اليكم (للأمم المتحدة)، فقد كرر جملة أخرى عدة مرات:" لقد قلت لكم ذلك هنا السنة الماضية": قلت أن إسرائيل تواصل الاستيطان ضاربة بعرض الحائط القرارات الصادرة عن الأمم المتحدة. وقلت انها تتراجع عن حل الدولتين، وأنها تماطل في استئناف المفاوضات وتدعي عدم وجود شريك وتضع شروطا تعجيزية وتتهرب من طرح ومناقشة الأمور الجوهرية وتستبدلها بأمور هامشية مثل وقف التحريض. والخلاصة: لقد تبين أن محمود عباس في خطابه الأخير وباعترافه لم يقل شيئا جديدا. فقد قال ما قاله قبل سنة وربما قبل سنتين وقبل 3 سنوات وفي كل دورة للجمعية العمومية.  وتابع: منذ 24 سنة أي منذ التوقيع على اتفاقيات أوسلو اعترفنا بدولة إسرائيل، قبلنا مبادرة السلام العربية التي تضمن تطبيع العلاقات مباشرة مع 57 دولة عربية وإسلامية ولكن اسرائيل رفضتها، اعترفنا بخارطة الطريق الامريكية واسرائيل افشلتها. اعترفنا بالمبادرة الفرنسية ومؤتمر باريس واسرائيل قاطعته، وقبلنا مبادرة بوتين والرئيس الصيني وها نحن نرحب بمساعي دونالد ترامب لعقد صفقة تاريخية. ونحن معكم في محاربة الإرهاب ونريد إنهاء الاحتلال لأن ذلك ضروري لإكمال الجهود لمواجهة الارهاب. ومع اقتراب الخطاب الطويل من نهايته يرفع محمود عباس يديه مستسلما: نحن لا نستطيع حماية أنفسنا، إسرائيل قوية، نطالب بحماية دولية، فإذا لم تحمونا فمن الذي سوف يحمينا؟ كلام الجمعية العمومية لا يمشي وكلام مجلس الأمن لا يمشي... استجداء والمزيد من الاستجداء. تذلل والمزيد من التذلل.
قد يقول البعض إن هذا الكلام فيه الكثير من التجني، فقد هدد الرئيس بالتوجه للمحكمة الجنائية الدولية لتقديم شكوى ضد الاستيطان وضد اعتداءات المستوطنين. آه هدد، أكيد الحكومة الإسرائيلية ترتجف الآن خوفا من هذا التهديد. لم ننس بعد ما صنعتم بتقرير غولدستون وسحب الشكوى بعد الحرب الأخيرة على غزة من المحكمة الجنائية ذاتها.
لا تفهموا الرئيس غلط، فالنضال ضد الاحتلال مستمر ولن يتوقف ولكن فقط بالطرق السلمية، لا عودة للإرهاب مفهوم؟ ولا يهمه نسف مبدأ مقاومة الاحتلال بكل الوسائل من أساسه كما تتبناه الأمم المتحدة نفسها
واخيرا فجر الرئيس قنبلة من العيار الثقيل لم ينتبه إليها أحد وخصوصا في الإعلام المحلي: بما أن السلطة أصبحت دون سلطة والاحتلال دون كلفة، ونحن نقترب من هذه اللحظة تسليم كل شيء من جديد لدولة إسرائيل، كدولة احتلال لكي تتحمل المسؤولية. صحيح أن خياره الأول يبقى حل الدولتين: دولة فلسطينية مستقلة إلى جانب دولة إسرائيل، ولكن بما أن إسرائيل جعلت من هذا الخيار مستحيلا بسياستها الاستيطانية فلتكن دولة واحدة في فلسطين التاريخية يتمتع بها جميع المواطنين بالمساواة. أي أن محمود عباس هو الآخر بدأ يلوح بالدولة الواحدة، ولكن هذه المرة بدولة إسرائيل الواحد’
ألا تشمون رائحة واحدة صادرة عن تصريحات ترامب، نتنياهو وعباس؟؟

Thursday, September 14, 2017

في ذكرى مجزرة صبرا وشاتيلا

في ذكرى مجزرة صبرا وشاتيلا
علي زبيدات - سخنين

ماذا نعني بالضبط عندما نكرر في ذكرى كل مجزرة وما أكثرها منذ عام النكبة وحتى يومنا هذا وبدون كلل أو ملل: " لن ننسى ولن نغفر"؟ هل حقا نقصد ما نقوله أم أن قولنا هذا ليس أكثر من شعار جاف، متحجر وخال من أي محتوى ومضمون نستعمله للتنفيس عن نفسياتنا المنهكة أو كقناع لاخفاء عجزنا وايجاد المبررات لتخاذلنا ورضوخنا؟ وهذا يذكرني بشعار آخر نردده سنويا في مناسبة أخرى يقول: "ثورة ثورة حتى النصر" بينما لم يعد هناك لا ثورة ولا يحزنون.
ماذا يعني عدم النسيان إذا رافقه الصمت والخنوع؟ أليست اضراره في هذه الحالة أكثر من فوائده؟ وما الفائدة من عدم الغفران إذا لم يكن المقصود منه العمل الجاد لمعاقبة المجرمين والانتقام منهم؟ أليس هذا هو حالنا في الذكرى ال35 لمجزرة صبرا وشاتيلا؟. لست هنا بصدد سرد أحداث هذه المجزرة الرهيبة والكلام عن أسبابها ونتائجها. فقد كتب الكثير في هذا المجال من قبل كافة الأطراف المتورطة ومن قبل غيرهم ولم يبق هناك أية معلومة جديدة لاضافتها. ولكن ما زال هناك الكثير ليقال على المستوى الاخلاقي والانساني وعلى الصعيد الشخصي والوطني والعالمي.
لم يعد هناك من ينكر وقوع هذه المجزرة الرهيبة التي راح ضحيتها آلاف المواطنين العزل ومعظمهم من الأطفال والنساء والشيوخ هذا من جهة، ومن جهة أخرى لم أجد في التاريخ الحديث مجزرة أخرى بهذه البشاعة قوبلت بمثل هذه اللامبالاة وعدم الاكتراث حتى من قبل أقرب الناس للضحايا. وللمفارقة، المتهم الرئيسي في ارتكاب هذه المجزرة وهي دولة إسرائيل كانت الطرف الوحيد الذي شكل لجنة تحقيق رسمية بالرغم من كونها أبعد ما تكون عن النزاهة وكان هدفها المعلن هو تبرئة هذا الكيان من المسؤولية، وبالفعل جاءت هذه التبرئة كما كان متوقعا ولكن بطعم الإدانة، وكما عبر عنها رئيس الحكومة الإسرائيلي في ذلك الوقت مناحم بيغن: "عرب يقتلون عربا ويتهمون إسرائيل". وكانت دولة إسرائيل هي الدولة الوحيدة في المنطقة التي شهدت مظاهرة في تل أبيب شارك فيها مئات الآلاف ومن ضمنهم قيادات قاموا هم أنفسهم بمجازر قبل وبعد مجزرة صبرا وشاتيلا ومن ضمنهم شمعون بيريز واسحاق رابين. ولكن بالمقابل لم تقم لبنان التي وقعت على أراضيها هذه المجزرة والتي كان مرتكبي المجزرة المباشرين من مواطنيها، لا على المستوى الرسمي ولا على المستوى الشعبي، بالمطالبة بتشكيل لجنة للتحقيق بما جرى. وما يهمني هنا التشديد على المستوى الشعبي حيث لم تجرؤ لا منظمة التحرير الفلسطينية ولا أحد من حلفائها في المعسكر الوطني اللبناني على المطالبة بذلك. بينما عندما تم اغتيال شخص واحد فيما بعد وهو رفيق الحريري أقاموا الدنيا ولم يقعدوها للمطالبة بلجنة تحقيق دولية ومحاكمة المتورطين حتى عندما كانوا مجهولي الهوية.
جامعة الدول العربية والتي من المفروض أن يكون لها دور ريادي في الموضوع ليس فقط أنها لم تحرك ساكنا واكتفت بالإدانة اللفظية التي لا تكلف شيئا ولا تجدي فتيلا، بل انها وبعد فترة وجيزة أصدرت صك براءة لكل المتورطين في الجرائم بحجة المصالحة الوطنية ووضع حد للحرب الأهلية اللبنانية. وهكذا اصبح المجرم رقم واحد في المجزرة المدعو ايلي حبيقة وزيرا وعضو برلمان يتمتع بالحصانة وتم احتضانه هو وآخرين من قبل النظام السوري"المقاوم". لم يكن حبيقة الوحيد الذي تمت تبرئته بدون أي تحقيق أو محاكمة بل كان هناك أيضا: سمير جعجع، وفادي افرام، ميشال عون، إتيان صقر، كريم بقرادوني، ميشال سماحة، روبرت حاتم، فؤاد ابي ناظر، والقائمة تطول.
الدول العربية مجتمعة في إطار الجامعة العربية كما اسلفت أو كل دولة على حدة لم تقم بأي عمل للتحقيق بما جرى أو لملاحقة المجرمين ومن ضمنهم النظام السوري الذي كانت قواته العسكرية ومخابراته تهيمن على لبنان بموافقة ومباركة أمريكا وإسرائيل. بل أكثر من ذلك، وقبل أن تجف دماء الشهداء في صبرا وشاتيلا قام هذا النظام بواسطة مليشياته العميلة بشن حرب المخيمات سيئة الصيت. موقف ما يسمى المجتمع الدولي كان هو الآخر مخزيا ووصمة عار في جبينه لن تمحى مهما طال الزمن. في الامم المتحدة لم تحرك ساكنا، وأمريكا التي وعدت بحماية المدنيين بعد مغادرة القوات الفلسطينية للأراضي اللبنانية كانت أول من نكثت بتعهداتها وتركت المخيمات فريسة للفاشيين من حلفائها وعملائها إن كان في حزب الكتائب اللبناني وجيش لبنان الجنوبي أو في الكيان الصهيوني.
نعم، العالم أجمع مسؤول عن مجزرة صبرا وشاتيلا وهذا ليس مجرد شعار للمزايدة. العالم أجمع مطالب اليوم وغدا بمحاسبة نفسه أولا ومن ثم محاسبة مرتكبي هذه الجريمة المباشرين. وبما أن جرائم الحرب والجرائم ضد الإنسانية لا تسقط بالتقادم فيجب محاكمة مرتكبي مجزرة صبرا وشاتيلا الاحياء منهم والاموات.

لست ضد التمسك بشعار: "لن ننسى ولن نغفر" بشرط أن يكون معنى لن ننسى اننا لن نسكت ولن نصمت، وأن يكون معنى لن نغفر اننا لن نتنازل عن المطالبة بمحاكمة وإنزال العقوبات بالمجرمين.

Thursday, September 07, 2017

هل ما زالت الثورة ممكنة؟

هل ما زالت الثورة ممكنة؟
علي زبيدات - سخنين

على ضوء ما آلت إليه ثورات ما سمي بالربيع العربي في السنوات الأخيرة وعلى ضوء ما آلت إليه الثورة الفلسطينية من قبل وعلى ضوء نتائج وتجارب الثورات العديدة التي تفجرت في بقاع عديدة على وجه الكرة الأرضية طوال القرن الأخير، أصبح من الضروري أن نطرح السؤال الذي اخترته عنوانا لهذه المقالة: هل ما زالت الثورة ممكنة؟ في الحقيقة راودني هذا السؤال منذ فترة طويلة من الزمن حتى أصبح في هذه الأيام هاجسا لا يمكن التخلص منه ومن ارهاصاته. لطالما آمنت بأن نجاح الثورة يحتم وجود حزب ثوري طليعي على الطريقة البلشفية يقوم بتنظيم وتعبئة الطبقة العاملة وحلفائها من الطبقات المسحوقة ويقود نضالها حتى استلام السلطة السياسية في اللحظة المناسبة، أي على غرار ثورة أكتوبر 1917 في روسيا. ولكن، في الوقت نفسه، هذه النظرية قد فشلت في ألمانيا بالرغم من وجود الحزب الثوري الطليعي والطبقة العاملة الأكثر تطورا وتنظيما من روسيا. بالطبع كانت هناك ثمة أسباب عديدة للنجاح هنا وللفشل هناك ولكن ليس هنا المكان المناسب للخوض في غمارها.
وهناك النموذج الصيني للثورة الذي بدى ملائما لبلدان العالم الثالث حيث الإقطاع ما زال مهيمنا وطبقة الفلاحين الفقراء هي الطبقة الأكبر، والذي يمكن تسميته: حرب التحرير الشعبية طويلة الأمد. هذا الأسلوب نجح في الصين وفيتنام ولكنه فشل في الهند مثلا. وهنا أيضا يوجد أسباب عديدة للنجاح والفشل لسنا بصددها. وكان هناك النموذج الكوبي: حرب العصابات التي تبدأ بعدد قليل من الثوار وتجذب اليها اعداد متزايدة من المواطنين التواقين للتغير حتى اسقاط النظام الرجعي القديم. ولكن هذا النموذج الذي نجح في كوبا قد فشل في بوليفيا والسلفادور ونيكاراغوا وغيرها.
في هذه الفترة كان العالم العربي يغط في سبات عميق استمر أربعة قرون من الركود في كافة المجالات هي فترة الحكم العثماني. لذلك لم يكن مستغربا أن نسمي مجرد نقل التبعية والولاء من الدولة العثمانية إلى الاستعمار البريطاني بالثورة العربية الكبرى وما زال البعض يحتفل بها إلى يومنا هذا(في الاردن مثلا). النموذجان الأقرب للثورة في عالمنا العربي هما أولا، الثورة الجزائرية ضد الاستعمار الفرنسي والتي سرعان ما خفت بريقها وخبا جوهرها بالرغم من استمراريتها الشكلية. ثانيا، ثورة الضباط الأحرار بقيادة جمال عبد الناصر والتي تأرجحت بين الثورة والانقلاب وانتهت مع وفاة قائدها.
في فلسطين، وآسف اذا كنت سأصدم بعض الناس، لم يكن لدينا ثورة في يوم من الايام. كان لدينا وهم ثورة. وكان في مرحلة معينة وهما كبيرا إذ شمل كافة النماذج التي ذكرتها أعلاه. بالأحزاب والتنظيمات اليسارية كانت تتوهم بأنها تخوض ثورة بلشفية أو حرب تحرير شعبية على الطريقة الصينية-الفيتنامية. اما التنظيمات الوطنية والقومية فكانت تقتدي بالثورة الجزائرية أو الناصرية. بعضنا ما زال يعيش هذا الوهم، فبعض التنظيمات اليسارية التي استفاقت من وهمها غيرت اسمها أو سياستها أو كليهما والتحقت بركب التسوية السلمية. ومن لم يستفق ما زال يعيش وهم الاتحاد السوفياتي بعد ثلاثة عقود على سقوطه أو وهم اشتراكية الصين وكوبا بالرغم من عودة الرأسمالية إليها. أما التنظيمات "الوطنية" فوضعها كان اصعب، فمن استفاق من وهم الثورة وقع في وهم الدولة وأخذ يقنع نفسه بأن الثورة قد أنجزت أهدافها الأساسية بقيام سلطة أوسلو والمطلوب اليوم بناء الدولة عن طريق المفاوضات والتنسيق الأمني ومساعدات الدول المانحة.
يبدو أننا أمام طريق مسدود. مرة أخرى هل ما زالت الثورة ممكنة؟ وما يهمني هنا أكثر: هل ما زالت الثورة الفلسطينية ممكنة؟ في ظل واقع النكبة والتشريد نحن لا نملك طبقة عاملة منظمة ولا قيادة ثورية، طليعية وواعية، ولا نملك مساحات شاسعة مثل روسيا والصين لنخوض حرب تحرير شعبية طويلة الأمد، نتقدم عندما نستطيع ونتراجع عندما نضطر لذلك، المسيرة الكبرى لن تكون إحدى خياراتنا، ولا يوجد لدينا أدغال مثل فيتنام نختبئ بها ولا يوجد خلفنا هانوي تدعمنا أو دول مواجهة تحتضنا.
تعود بي الذاكرة لبعض الكتب التي قرأتها في السجن وتأثرت بها (بعضها كان مهربا أو منسوخا بخط يد) إلى جانب كتب ماركس ولينين وماو تسي تونغ وتشي جيفارا كان هناك ثلاثة كتب لمفكرين عرب ما زال تأثيرها ماثلا في مخيلتي بالرغم من مرور ما يقارب الأربعة عقود على قراءتها وبالرغم من أن مؤلفيها قد تخلوا عن بعض ما كتبوه. هذه الكتب هي: نقد الفكر الديني والنقد الذاتي بعد الهزيمة لصادق جلال العظم وكتاب مقدمات لدراسة المجتمع العربي لهشام شرابي. وقد شملت هذه الكتب مجتمعة وكل على حدة نقدا ثوريا طال كافة جوانب حياتنا من الفرد إلى الأسرة إلى الطائفة، إلى العشيرة، إلى الحكام، إلى المثقفين بالإضافة إلى نقد طريقة تفكيرنا وسلوكنا وشخصيتنا والتي ليس فقط أنها قادت إلى هزيمتنا بل هي المسؤولة عن تخلفنا وعجزنا عن اللحاق بركب الحضارة.
شاءت الظروف أن يأتي في بداية سنوات الالفين المفكر الفلسطيني هشام شرابي إلى الناصرة حيث قدم محاضرة أمام عدد كبير من المثقفين والأكاديميين، وكانت أفكاره النقدية لا تزال تعشش في ذاكرتي ومخيلتي وخصوصا تلك التي تنسف البنية الأبوية للعائلة العربية وعلاقتها بالمجتمع والتربية التي تقود للاتكالية والعجز والتهرب. لم يتكلم المحاضر عن هذه الأمور بالذات ولكنه تكلم عن أمور أخرى أكثر أهمية. ولكنها صدمتني صدمة لم استوعبها حتى الآن أشعر بهولها كلما خطرت ببالي وعندما كنت أكتب هذه السطور. وبما أن ما سأكتبه ليس اقتباسا دقيقا بل ما علق بذاكرتي من هذه المحاضرة لذا ارجو النظر اليها من هذه الزاوية فقط. قال هشام شرابي في محاضرته ما معناه: إن التغيير في المجتمع العربي عن طريق ثورة أو انقلاب سياسي أو نضال يأتي من خارج النظام أصبح مستحيلا. الامل الوحيد في تغيير المجتمع العربي بشكل جذري ممكن بواسطة النخب الشبابية التي استلمت الحكم مؤخرا. وأعطى مثلا، الملك عبدالله الثاني، الذي استلم العرش في اللحظة الاخيرة، يستطيع أن يقود الأردن نحو الانفتاح والتقدم. والملك محمد السادس في المغرب الذي يستطيع هو الآخر قيادة بلاده للتطور ومنح الشعب المزيد من الحريات. وبشار الأسد الذي تعهد في خطاب القسم وبعد تغيير الدستور خلال ربع ساعة، بافتتاح عهد جديد يختلف جذريا عن عهد والده، حتى أطلق على السنة الأولى من حكمه بربيع دمشق وتميزت بانتشار المنتديات الفكرية والثقافية والسياسية . هؤلاء "الفرسان" الثلاثة من جيل واحد، جيل الشباب، واستلموا الحكم في فترة متقاربة هم وحدهم القادرون على التغيير. لا ادري ما الذي دفع هشام شرابي أن يضرب أفكاره النقدية السابقة بعرض الحائط، هل هو اليأس من إمكانية تغيير بنية العائلة العربية البطركية ومن التربية والعقلية السائدتين في المجتمع العربي؟ أم هل خدعه جيل الشباب الذي استولى على السلطة عن طريق التوريث؟ على كل حال، على أعتاب نهاية العقد الثاني من حكم هؤلاء الشباب: عبدالله الثاني لم ينحرف قيد أنملة عن خطى والده. فما زالت الاردن دولة تابعة بل أكثر تبعية من السابق، ربما حادثة السفارة الإسرائيلية الأخيرة لم تكن لتمر بهذه الطريقة في زمن الملك حسين. وها هو محمد السادس يكمل مسيرة والده الحسن الثاني بحذافيرها. اما بشار الأسد فبعد اقل من سنة من حكمه أعاد الحكم البوليسي-المخابراتي وطوره بدرجات عن عهد والده حتى يتلاءم مع اقتصاد السوق واستشراء الفساد. الأمر الذي أدى إلى تدمير سوريا للحفاظ على كرسيه بمساعدة الاحتلال الأجنبي من جهة ولبس قناع المقاومة من جهة أخرى. وها نحن نقف اليوم أمام المزيد من الحكام الشباب: تميم بن حمد في قطر ومحمد بن سلمان في السعودية فهل سينضم هما أيضا إلى قافلة التغيير؟ لم يعد هشام شرابي بيننا لأسأله عن رأيه في ذلك.
للمرة الاخيرة: هل ما زالت الثورة ممكنة؟ آسف، لا أملك جوابا قاطعا ومن لديه جواب فليدلي بدلوه. كل ما أستطيع أن أقوله: إذا أصبحت الثورة غير ممكنة فلنستعد لحياة أبدية من العبودية.