Wednesday, January 27, 2016

مصر بين الثورة والثورة المضادة



مصر بين الثورة والثورة المضادة
علي زبيدات – سخنين

لم يحتفل أحد – تقريبا-بالذكرى الخامسة لثورة ٢٥ ينابر/ كانون الثاني المصرية. التطورات اللاحقة للثورة (استفراد الاخوان المسلمون بالسلطة ومن ثم الانقلاب العسكري وانتخاب السيسي رئيسا) جعلت الكثيرين يتراجعون عن تأييد الثورة حتى وصل الامر ببعضهم اعتبارها منذ البداية مؤامرة دولية تديرها امريكا واسرائيل والصهيونية العالمية بل وحتى الماسونية. لم يحتفل آخرون بالذكرى الخامسة للثورة ببساطة لانهم اصبحوا جزءا من الثورة المضادة التي يمثلها نظام السيسي وفلول النظام السابق الذين يعودون الى مواقعهم والى سابق عهدهم. وآخرون لم يحتقلوا بهذه الذكرى لانهم استشهدوا أو زجوا بالسجون أو لزموا بيوتهم خوقا من اعمال القع والبطش التي تقودها الاجهزة الامنية.
لن ادخل هنا في نقاش عقيم مع اصحاب نظرية المؤامرة الذين يعزون كل ما حدث في البلدان العربية في السنوات الخمس الاخيرة الى مؤامرة دولية تمت حياكة خطوطها في سراديب السي آي ايه ومراكز ابحاثها السرية ويجعلون عرابها مرة الفرنسي الصهيوني التافه برنار هنري ليفي ومرة شخص باسم جين شارب ويعود بعضهم إلى كيسنجر وبرجينسكس وكوندليسا رايس وغيرهم وتارة إلى قطر وقناه الجزيرة. يسمونها مرة سايكس بيكو الجديدة او الشرق اوسط الجديد وغير ذلك من الاسماء وجميعها تصب في نزع مشروعية التمرد على الانظمة الرجعية الجاثمة على صدور الشعوب العربية منذ قرون والاستهتار بالطاقات الثورية الكامنة في هذه الشعوب. ملايين المصريين الذين نزلوا الى الشوارع من ٢٥ يناير/كانون الثاني ٢٠١١ إلى ١١ فبراير ٢٠١١ لم ينزلوا امتثالا لاوامر أو تعليمات تلقوها من برنار هنري ليفي أو جين شارب أو هيلاري كلينتون أو قناة الجزيرة. بل بعد اربعين عاما من نظام حسني مبارك وزمرته حيث ساد الفساد والفقر والقمع ومصادرة الحريات والبطالة.
مع انتصار الثورة المصرية في مرحلتها الاولى في ١١ قبراير/ شباط ٢٠١١ عندما اضطر حسني مبارك تحت الضغط الشعبي للتنحي ، نظمنا في سخنين تحت المطر مهرجانا فنيا ملتزما كان الاول وربما الوحيد في فلسطين احتفالا برحيل نظام من اسوأ الانظمة التي عرفتها شعوبنا العربية.
لقد كانت ثورة وليست مؤامرة.
غير أن ثوار ربع الساعة الاخيرة ضيقي الافق يظنون الثورات نزهة على كورنيش الشاطىء أو سفرة ترفيهية على اوتوسترادة. لقد كتبت قبل خمس سنوات (قبل اختطاف الاخوان المسلمين للثورة وقبل اغتيالها من قبل العسكر): اذا لم تستمر الثورة لتحقيق كامل اهدافها وخصوصا الحرية والعدالة الاجتماعية فانها ستتلاشى حتى تتحول الى نقيضها، إلى ثورة مضادة. وكنت متشائما منذ البداية في مقدرة الثورة على الاستمرارية نظرا لغياب القيادة الثورية . قبل الاطاحة بالنظام كان التناقض الاساسي بين الجماهير الشعبية بكافة انتماءاتها الطبقية والفكرية وبين النظام، ولكن بعد الاطاحة بالنظام تحول التناقض الرئيسي إلى صراع داخل فئات الشعب بعدما تسللت اليه فلول النظام السابق. وهكذا وخلال خمس سنوات تحولت اعظم ثورة عرفتها مصر الحديثة إلى ثورة مضادة. ولكن هذا ليس ولا يمكن أن يكون نهاية التاريخ. فما هي خمس سنوات في حياة الشعوب؟ فها هي الثورة الفرنسية الكبرى، على سبيل المثال لا الحصر، تتفجر في عام ١٧٨٩ تقتحم سجن الباستيل، تلغي النظام الملكي الاقطاعي، تعدم الملك لتتوقف بعد عشر سنوات لتحل مكانها امبراطورية نابليون بونابرت، ومن بعده عادت الملكية البائدة لكي تسقط مرة اخرى في ثورة ١٨٣٠ والتي انتهت بدورها إلى ملكية دستورية تمت الاطاحة بها بثورة عام ١٨٤٨ والتي تمخضت عن امبراطورية جديدة اطاحت بها كومونة باريس عام ١٨٧٠.
بالاضافة إلى الاطاحة بنظام مبارك واسقاط نظرية التوريث نهائيا هناك انجازان عظيمان لثورة يناير/شباط ٢٠١١ المصرية: اولا: الثورة هي الطريق الوحيد لاسقاط النظام الفاسد. ثانيا: أن هذه الثورة ممكنة.
عندما يجعل النظام الرأسمالي العالمي والانظمة التي تدور في فلكه في البلدان النامية عملية التحول السلمي مستحيلة تصبح الثورة حتمية طال النضال أم قصر.
ومن مثلنا نحن الشعب الفلسطيني يعرف هذه البديهية؟ خمسون سنة من "الثورة" الفلسطينية تمخضت عن سلطة تجسد كل ما هو مضاد للثورة، فلماذا لم نستسلم للامر الواقع ونكفر بالثورة وقيمها ومبادئها؟ فاذا كنا بعد نصف قرن من النضال نكاد نقف في مكاننا فلماذا نلوم الثورة المصرية على تراجعها بعد خمس سنوات فقط؟ما حدث في العالم العربي في السنوات الخمس الاخيرة بالرغم من فظاعته وبالرغم من وحشيته وفي كثير من الاحيان وفي كثير من الاماكن بالرغم من عبثيته ليس سوى البداية. لتتفجر الثورات في كل مكان حتى ولو فشلت، لا يوجد هناك فشل مطلق. الهزيمة ام الانتصار.
لتكن الذكرى القادمة للثورة المصرية انطلاقة جديدة على درب الحرية والاستقلال للشعوب العربية من المحيط إلى الخليج.

Wednesday, January 20, 2016

من عمان هنا فلسطيين



من عمان هنا فلسطن
علي زبيدات – سخنين
بعيدا عن السياسة وعن تعقيداتها وتناقضاتها وخلافاتها. يوجد هناك ما هو اعمق وابعد يعجز الانسان عن سبر أغواره وادراكه. انها حالة وجودية فريدة من نوعها تجسد الصراع من اجل البقاء لاشلاء جسد واحد يتوق إلى وحدة جسده.
قبل ايام وصلت إلى مدينة عمان في إطار زيارة خاصة. حجزت شقة في احد أحيائها تم اختياره بمحض الصدفة. لم بسبق لي أن زرت هذه المدينة العريقة من قبل لاسباب عديدة لست بصدد الخوض بها هنا. وللامانة ولكي أكون دقيقا جئت إلى عمان قبل ثمان سنوات ليوم واحد مع عدد من الرفاق للمشاركة في تشييع جثمان الرفيق جورج حبش. ولم اتعرف حينذاك على المدينة لا من قريب ولا من بعيد.
بعد وصولي للشقة المحجوزة والتخلص من الحقيبة خرجت لاستنشق بعض الهواء فوجدت نفسي امام لافتة تشير إلى اسم الشارع : الجليل. مشيت بعض خطوات فرأيت لافتة تشير الى الشارع الفرعي على يميني: شارع عكا وبعد ذلك طبريا، صفد، حيفا، عسقلان، المجدل، طول كرم، الخليل... كدت أن اصاب بالدوار. هل انا حقا في عمان؟ ام انا في مدينة فلسطينية؟ ولكن لا، لا اعرف مدينة فلسطينية تشمل هذا الكم الهائل من اسامي المدن والقرى الفلسطينية العامرة والمهجرة في واحدة من حاراتها. لا ادري من يسكن في هذا الحي على وجه التحديد ولكن من الواضح انهم فلسطينيون تهجروا من كافة ارجاء فلسطين في عامي النكبة والنكسة. فقط عندما تفقد الوطن تشعر بمدى اهميته. ما اجمل الشعور بالتواصل بين ابناء الشعب الواحد. الشيء الوحيد الذي ينغص هذا الشعور بالاضافة للوضع المأساوي الراهن انه يتم في ظل اتفاقيات مجحفة ومذلة: كامب ديفيد، وادي عربة وأوسلو.
الشي الاخر الذي هزني حتى الاعماق عندما عدت إلى الشقة وقرأت اسم الشارع الذي توجد به البناية: شارع الشهيد راتب محمد البطاينة. بدا لي الاسم مألوفا ولكن من هو؟ وأين استشهد؟ وكيف؟ دخلت الشقة بسرعة وشرعت بعملية البحث فوجدت هذه القصة التي كتبها احد اقارب الشهيد، وها انا انقلها كاملة كما كتبت:
"في 21-اذار - 1968 كانت معركة الكرامة
نشوة النصر التي بددت اسطورة "الجيش الذي لا يقهر" كانت عنوان فخر واعتزاز لكل أحرار الأمة خاصة وان الجيش العربي المصطفوي
الذي"افترس" جنود العدو في ساحة الوغى حقق النصر المبين واجبر قادة وجنود جيش العدو على العودة يجرون ذيول الخيبة ويتجرعون مرارة الهزيمة.
وتكبد العدو 250 قتيلا 450و جريحا واسقاط 7 طائرات مقاتلة وتدمير 88 آلية مختلفة تمكن العدو من إخلائها شملت 27 دبابة 18و ناقلة 24و سيارة مسلحة 19و سيارة شحن فيما بقيت 20 دبابة وآلية مختلفة في ارض المعركة ، واستشهد من قواتنا الباسلة 87
شهيدا 108و جرحى وتدمير 13 دبابة 39و آلية مختلفة  ومن ضمن الشهداء البواسل الشهيد راتب البطاينة صاحب القصة الشهيرة :
اعلنت إسرائيل الحرب على الاردن في صبيحة 21-اذار الساعة الخامسة والنصف فجراً
كان الملازم راتب البطاينة ضابط ملاحظة في جهاز اللاسلكي ودوره يكون بأن يعطي للمدفعية الاردنية موقع وإحداثيات الجيش و الدبابات الاسرائيلية لتدميرها.
في قلب المعركة والرصاص والقذائف تحجب نور الشمس وصل للملازم خبر استشهاد زميله وصديقه :عارف الشخشير فحزن حزناً لا يوصف واقسم بربه ان يأخذ بثأره من جيش العدو فإنتظر حتى الليل وترك كتيبته وبدأ يزحف قاصدا خطوط العدو الصهيوني حتى وصل جسر يسمى "جسر دامية" ليتفاجأ بتقدم دبابات العدو عبر الجسر ليصلو إلى الاراضي الاردنية إلاّ ان الروح الموجودة بالإنسان الأردني جعلته يفكر سريعاً بأي شيء يمنع الدبابات من التقدم التي لو تقدمت ستضع الجيش الاردني في موقف محرج
فإتخذ قراره !!! ووقف ينتظر إلى ان اصبح بين جنازير وعجلات الدبابات  
فأمسك بجهازه اللاسلكي وأمر كتيبة المدفعية بإطلاق الصواريخ على احداثياته
ماذا !!!!!!!!!!! يا سيدي انه موقعك كيف لنا ان نقصف النقطة التي تتواجد فيها انت
فقال : بدون نقاش احدثكم بالأمر العسكري ..... إقصفوني 
يا لله !!! ..... يريد من جيشه ان يضربوه بالصواريخ لتتفجر معه الدبابات 
فعملت كتيبة المدفعية بما امر الملازم وقصفوا الموقع قصفاً شديدا اسفر عن تفجير 8 دبابات  وقتل طواقمهم من جنود العدو
وهكذا استشهد البطل الأردني في سبيل الدفاع عن ثرى الوطن من اي مس وعبث
واخذ بثأر صديقه كما اقسم
وللشهيد حق علينا بأن ننقل قصته الى الكثير الذين لا يعرفونها كما نقلت قصة الشهيد فراس العجلوني وغيرهم من الشهداء الأبرار".
نسي قريب الشهيد الذي كتب هذه القصة ان يذكر أن اسرائيل لم تشن عدوانها على الاردن فحسب بل وعلى المقاومة الفلسطينية ايضا. وأن صديق الشهيد الذي اقسم ان يثأر له، عارف الشخشير هو فلسطيني من نابلس.
سقى الله تلك الايام عندما كان الجندي العربي يثأر لاخيه العربي وليس مثل اليوم حيث يثأر الجندي العربي من أخيه العربي.

Thursday, January 14, 2016

صفورية واخواتها - تضامن في غير أوانه

 
صفورية واخواتها – تضامن في غير أوانه
علي زبيدات – سخنين
لم اخطط مسبقا للكتابة في هذا الموضوع، فقد تعودت، كغيري، الكتابة في مثل هذه المواضيع عندما تمر مناسبة تتعلق بها. فكنت بصفتي متورط باحداث الوطن حتى النخاع، كغيري أكتب عن يوم الارض مثلا قبيل يوم الارض أو بعد احياء ذكراه. وآكتب عن هبة القدس والاقصى عندما تقترب ذكرى هذه المناسبة وأكتب عن حق العودة وقضية اللاجئين والمهجرين ورأيي في مسيرة العودة مع اقتراب ذكرى النكبة عندما يحتفل الطرف الاخر بعيد استقلاله أو بعدها مباشرة. وهكذا. كانت صدفة فرضتها ظروف طارئة اخرجتني عن المألوف ودفعتني للكتابة في موضوع في غير اوانه. وعندما قررت الكتابة في هذا الموضوع شعرت كم كنت مخطئا في الماضي. لست بحاجة لانتظار يوم الارض لكي اكتب عن الارض أو الاصح عن ضياع الارض واعبر عن خيبة املي مما آلت اليه هذه المناسبة. ولست بحاجة للانتظار إلى اكتوبر حتى اكتب عما حدث في الانتفاضة الثانية وربطها بما يحدث اليوم. وهل من الضروري أن انتظر حتى اعرف اسم القرية المهجرة التي تم الاتفاق عليها لتنظيم مسيرة العودة حتى اكتب عن عبثية نشاطاتنا الموسمية التي لم تقربنا شبرا واحدا من قرانا المهجرة؟
سأكتب اليوم عن حق العودة بشكل عام وعودة المهجرين بشكل خاص ، ماذا نعمل بهذا الخصوص. ولكن دعوني اولا اسرد باختصار الظروف التي دفعتني للكتابة في هذا الموضوع الان وعدم انتظار الموسم. في الاسبوع الماضي حل علي اربعة ضيوف اجانب من حركات التضامن مع الشعب الفلسطيني، اثنان من ايسلاندا وواحد من الولايات المتحدة الامريكية وواحدة من الدنمارك. وقد كان الثلاثة الاوائل متقدمين بالعمر ولديهم تجربة ومعرفة بما يجرى في بلادنا اما الرابعة الدنماركية فهي شابة في مقتبل العمر قدمت إلى البلاد للمرة الاولى وتعمل متطوعة في حركة التضامن الدولية مع الشعب الفلسطيني وقد وجدت نفسها تعمل متطوعة مع زملائها في الخليل وبعض القرى المجاورة ووجدت نفسها امام اوضاع لم تتخيلها بالرغم من كل تحضيراتها قبل القدوم الى البلاد. في اليوم الثاني من استضافتي للمجموعة اقترحت عليهم زيارة بعض القرى المهجرة القريبة. تقبلوا اقتراحي بحماس نظرا لمعرفتهم الضئيلة في هذا المجال. من بين القرى التي اقترحتها عليهم كانت قرية صفورية . فاجأتني الشابة الدنماركية بالقول: ولكن صفورية ليست قرية مهجرة، انها قرية تعاونية (موشاف) فقد مكثت هناك عدة ايام عندعائلة يهودية قبل ان انضم إلى المتطوعين في الخليل، وهذه العائلة تقدمية وتحب الفلسطينيين وتتضامن معهم. استغربت من كلامها وسألتها: الم تخبرك هذه العائلة "التقدمية" أن مستوطنتهم (تسيبوري) تقوم على انقاض قرية صفورية؟ فقالت لا. فقلت لهم حسنا سنذهب الى صفورية لتشاهدوا بام اعينكم ما تبقى من انقاض هذه القرية التي كانت في عام ١٩٤٨ من اكبر القرى في المنطقة. وقالت الشابة الدنماركية: حسنا وسوف أزور العائلة اليهودية، اذا لم يكن لديك مانع، فقد كانت لطيفة معي. فقلت ليس لدي أي مانع.
عندما وصلنا كانت بوابة المستوطنة مغلقة، انتظرنا قليلا حتى جاءت سيارة من الداخل ففتحت البوابة الكهربائية ببطء فدخلنا. قمنا اول شيء بزيارة المقبرة وعندما ركنا السيارة قالت الشابة: بيت العائلة موجود قريب من هنا، انه في الجهة الاخرى من الشارع. قدرت المسافة بحوالي مائة متر لا اكثر. قلت سنتجول اولا في المقبرة المهجورة ومن ثم سنشاهد الكنيسة والدير والقلعة وبعض الآثار القديمة وعندما نعود سوف نزور هذه العائلة. وهذا ما فعلناه. استغربت القتاة من وجود القبور المبعثرة الموجودة من قبل عام ١٩٤٨ واشجار الصبار المحيطة بها ومن ثم اكوام الحجارة التي كانت بيوتا والتي لم تنجح اشجار الصنوبر والسرو الباسقة في طمسها واخفائها، وكيف لم تخبرها هذه العائلة "اللطيفة" بشيء عنها بينما اصطحبوها لزيارة الاثار القديمة فيما يسمى البارك الوطني تسيبوري.
دخلنا البيت، وسلمت الفتاة على افراد العائلة الموجودين، الاب والام والابنة. وقدمتنا لهم. لم يكن هذا البيت بيتا عاديا بل كان بداخله معصرة زيتون. واخذت الابنة تشرح لنا ماذا يعملون. وكان الكلام باللغة الانجليزية لكي يفهم الجميع: نحن ننتج هنا اجود انواع زيت الزيتون وهو زيت عضوي (اورغاني) ١٠٠٪ . وقادتنا في جولة قصيرة تشرح لنا كيف تتم عملية العصر. فسألت: هل هذه المعصرة لكل المستوطنة (الموشاف) فأجابت: لا ابدا انها ملكنا الخاص. فتساءلت بسذاحة وتعجب: وكم شجرة زيتون يوجد لديكم حتى تحتاجوا إلى معصرة خاصة؟ فاجابت بافتخار وبدون تردد: ستة آلاف شجرة، منها اكثر من ١٥٠٠ زيتونة عمرها مئات السنين وبعضها يصل إلى ١٠٠٠-١٥٠٠ سنة. فسألت بهدوء ولكن هذا السؤال كان كالقنبلة علىيها: وهل اشجار الزيتون هذه كانت ملك لاهالي قرية صفورية المهجرة؟ وهنا تغير لون وجهها ونبرة صوتها وقالت: لا ابدا، لقد استأجرنا هذه الاشجار من الحكومة. فقلت بسخرية: ومن أين جاءت الحكومة باشجار الزيتون هذه؟ لم ارد أن احرج الفتاة الدنماركية والاخرين اكثر من ذلك فتداركت وقلت: على أي حال لست هنا بصدد اي نفاش سياسي، كنت ساكتفي لو اخبرت زوارك على الاقل بانك بنيت بيتك على ارض فلسطينية وعلى انقاض بيت لعائلة فلسطينية. ويبدو أن كلامي هذا بدل تهدئة الاجواء زادها اشتعالا. إذ لم تستطع ان تضبط اعصابها اكثر فانفجرت في وجهي قائلة: لقد غادر اهل صفورية القرية بمحض ارادتهم وانا اعرف الكثيرين منهم ويسكنون في الناصرة، وهم لا يفكرون أصلا بالعودة إلى هنا، فكل واحد لديه بيت أو حانوت هناك. ونحن نتعاون مع الفلاحين الفلسطينيين في منطقة نابلس ولدينا مشاريع مشتركة، فهذه المعصرة بتمويل من يو أس ايد (USAID) وهي مؤسسة حكومية امريكية تقدم الدعم للمزارعين الفلسطينيين ايضا، ونحن اليوم نتعاون في انتاج وتسويق زيت الزيتون العضوي إلى الخارج لمصلحة الجميع واسم المشروع "زيت بلا حدود". يجب التوقف عن الكلام عما جرى في عام ١٩٤٨ فعائلة زوجي تهجرت من المانيا إلى الارجنتين ومن هناك قدمنا إلى هنا. لا يمكن اعادة الزمن الى الوراء فنحن لا نطالب بالعودة الى الارجنتين أو إلى المانيا. وهنا جاء دوري لافقد اعصابي وانفجر في وجهها قائلا: اسمعي ايتها السيدة، لا ادري من تعرفين من اهالي صفورية ولا يريد العودة اليها، ولكني اعرف الكثيرين ممن يريدون العودة، قبل عدة سنوات تجمع على مشارف صفورية اكثر من ١٥ ألف شخص معظمهم من اهالي صفورية وهتفوا من اجل العودة وحينها تمت مهاجمتهم من قطعان المستوطنين والشرطة، وقبل ذلك بسنوات تجمع اكثر من ٢٠ ألف في المكان نفسه ورددوا الهتافات نفسها. ولا ادري مع من تتعاونين في منطقة نابلس، ولكن معظم المزارعين يمقتون احتلالكم "المتنور"، وهؤلاء المتطوعين الاجانب يرون بام اعينهم كيف يقتلع المستوطنون اشجار الزيتون ويمنعون المزارعين من قطف زيتونهم.
سردت هذه القصة الان، اياما معدودة بعد حدوثها ولم انتظر حتى ننظم مسيرة العودة القادمة في يوم النكبة، حيث ننفخ صدورنا ونفرش ريشنا كالطاووس متفاخرين بمدى تمسكنا بحق العودة الى قرانا والدليل على ذلك آلاف المشاركين في المسيرة. سردت هذه القصة لكي اجدد اتهامي للجميع بالتقصير. لماذا لا تظهر لجنة الدفاع عن حقوق المهجرين على الملأ الا مرة واحدة في السنة؟ ولماذا لا يزور معظم المهجرين قراهم الا مرة واحدة في السنة؟ بيني وبين نفسي، لا استغرب ان يكون في اقوال هذه السيدة من تسيبوري بعض الحقيقة، ولا يقتصر هذا الامر على اهالي صفورية بل يشمل قرى مهجرة اخرى ممن يتخذون رئيس السلطة الفلسطينية نموذجا وتخلوا علنا أو ضمنا عن حق العودة.
العودة لن تتحقق باصدار قرار ١٩٤ جديد ولا بمسيرة موسمية.

Thursday, January 07, 2016

الاخلاق بين الجريمة والاستنكار



الاخلاق بين الجريمة والاستنكار
علي زبيدات – سخنين
من نافل القول أن كل شيء في ظل النظام الرأسمالي العالمي اصبح سلعة. والسلعة هي ما يتم انتاجه ومن ثم بيعه وشراؤه بهدف تحقيق الارباح. وبما انه ليست كل السلع مادية كذلك ليس بالضرورة ان تكون الارباح مادية. لذلك، لا غرابة في أن تصبح القيم الاخلاقية في ظل هذا النظام سلعا تحقق ارباحا فاحشة عند رواجها ويتم نبذها في حالة كسادها.
احدى القيم الاخلاقية التي تبنتها المجتمعات البشرية منذ القدم ورفعتها الى درجة القداسة حتى اصبحت رمزا يميز المجتمعات البشرية عن غيرها من المخلوقات هي: لا تقتل. والتي تحولت مع مرور الزمن من حيث ندري أو لا ندري، إلى نقيضها، أي إلى: أقتل. اقتل عدوك، اقتل من يخالفك بالعقيدة، اقتل من تظن انه ينوي قتلك، اقتل من يقف في طريق تحقيق اطماعك، اقتل دفاعا عن نفسك حتى عندما تكون المخاطر المحدقة بك وهمية. باختصار: قيمة لا تقتل ما زالت تتربع على عرشها في برجها المقدس، أما على ارض الواقع اصبحت اقتل ثم اقتل ثم اقتل ومن ثم ابحث عن التبريرات.
مما يزيد الطين بلة في هذا النظام الرأسمالي "الحضاري" المستشرس الازدواجية في المعايير والتعامل الانتقائي من ادانات وعقوبات واعمال انتقامية لبعض اعمال القتل وايجاد تبريرات والتسامح مع عمليات قتل اخرى. فعندما قتل مؤخرا ١٢٠ مواطن فرنسي في باريس قامت الدنيا ولم تقعد وتوحد اقطاب النظام الرأسمالي العالمي للانتقام من مقترفي هذه الجريمة فأقاموا التحالفات وحشدوا القوات وشنوا الغارات. ولكن عندما قتل الآلاف بل مئات الالاف في افغانستان، العراق، سوريا، ليبيا، اليمن، مانيمار، رواندا، نجيريا، افريقيا الوسطى وغيرها من بلدان العالم الفقيرة فلم يستحق ذلك سوى بعض السطور في الصفحات الداخلية للجرائد أو بعض اللحظات في نشرات الاخبار في القنوات الفضائية العالمية.
هذه الحالة المأساوية السائدة على الصعيد العالمي سارية المفعول على صعيدنا المحلي الصغير. فبينما يسقط الشهداء من رجال ونساء واطفال بشكل يومي في القدس والخليل وباقي مدن وقرى الضفة الغربية، هذا ناهيك عن عمليات القتل الجماعي في غزة، يكاد ذلك لا يحرك ساكنا لا على الصعيد المحلي ولا على الصعيد الدولي. بينما عندما يقتل اثنان في تل ابيب تقوم الدنيا ولا تقعد، لأن تل ابيب من أخوات باريس ولا تمت بصلة لبغداد أو دمشق أو بيروت. وعلى العالم اجمع، وعلى رأسهم فلسطينيي هذه البلاد المتهمين دوما، مطالبين باستنكار هذه العملية. هكذا يصرح رئيس الحكومة الاسرائيلية من موقع الحدث: "والان اتوقع من كل اعضاء الكنيست العرب من غير استناء استنكار الفتل من غير تلعثم ومن غير فذلكة كلامية". ويسارع هؤلاء فرادى ومجتمعين ومن خلال اعلى هيئة تمثيلية تضمهم بتصريح صادر عن لجنة المتابعة: "ترفض لجنة المتابعة لقضايا الجماهير العربية العمل الاجرامي الذي وقع في مقهى في تل ابيب، وتؤكد انه يستحق كل استنكار، فهو يتعارض من حيث الجوهر، مع طريق نضالنا الديمقراطي والشرعي، الذي اختارته الجماهير العربية بكل تياراتها، وهذه الجريمة تشكل خروجا قاسيا جدا عن طريق النضال العادل من اجل تحقيق حقوق الجماهير العربية، كما انها تشمل هدية للمحرضين الدائمين ضد جماهيرنا".
يا له من موقف اخلاقي مهترئ ومنافق.
القضية هنا ليست اذا كنت تؤيد مثل هذه العمليات أو تعارضها بل هي اعمق من ذلك وابعد بكثير. انها هي الاخرى قضية اخلاقية من الدرجة الاولى. هل يحق لمن لا يخضع لقيمة اخلاقية أن يطالب غيره باستنكار عمل ما باسم هذه القيمة الاخلاقية؟وهل يحق لمن يفسر القيم الاخلاقية على هواه ان يفرض تقسيره على غيره؟ بالنسبة لنتنياهو، كما صرح مرارا، لا يوجد هناك أية مقارنة بين الارهاب "اليهودي" والارهاب "العربي". فالاول اذا وجد فهو محدود جدا وبمكن تفهمه والتسامح معه، وهو على حد زعمه مدان من قبل الحكومة ومن قبل المواطنين اليهود. أما الارهاب الثاني فهو عام وشامل ويحظى بتأييد معظم العرب لذلك يجب ملاحقته ومحاربته. بالنسبة لنتنياهو، ولباقي الزعامة الاسرائيلية من اقصى اليمين إلى اقصى اليسار الصهيوني، لا يوجد شيء اسمه مقاومة فلسطينية بل يوجد ارهاب فلسطيني فحسب. وبالتالي لا يوجد مقاومون فلسطينيون بل يوجد فقط ارهابيون ومخربون يحق قتلهم بل يجب قتلهم أو في احسن الاحوال زجهم في السجون. لم يكن من باب الصدفة أن يصطحب نتنياهو في زيارته لموقع العملية في تل ابيب وزير الامن الداخلي والمفتش العام للشرطة ويصرح : بأنه لن يقبل بوجود دولة داخل دولة: دولة "حضارية" تحترم القانون تشمل الاغلبية اليهودية ودولة خارجة عن القانون تشمل الاقلية العربية وان سياسته القادمة سوف تركز على فرض القانون وهذا هو دور الشرطة واجهزة الامن الاخرى.
في تصريحها الاخير ترقص لجنة المتابعة على اللحن الذي تعزفه الاوركسترا التي يقودها نتياهو. وبما أن اللحن نشاز ويثير الاشمئزاز جاءت الرقصة مجرد تخبط ودوس على اقدام الراقصين. اذا كانت عملية تل ابيب تشكل، على حد هذا التصريح، "هدية للمحرضين الدائمين ضد جماهيرنا" فإن استنكارها يشكل جائزة مقدمة مجانا لهؤلاء المحرضين.
ارهاب الدولة هو الارهاب الحقيقي الوحيد الذي يسود منطقتنا. الارهاب الذي يشنه الجيش "الاكثر اخلاقية" في العالم، الجيش المدجج بالاسلحة الاكثر "طهارة" في العالم والذي يفرض الاحتلال الاكثر "ديمقراطية وانسانية" في العالم.
حقا يهزأ التاريخ من قيمه الاخلاقية.