Thursday, December 29, 2016

من وحي السنة الجديدة

من وحي السنة الجديدة
علي زبيدات - سخنين

هل يمكن توديع العام المنصرم واستقبال العام الجديد دون الخوض بالتهاني التقليدية التي نكررها عاما بعد عام؟ متى سوف نكف عن ترديد عبارة: كل عام وأنتم بخير؟ هل نحن بخير؟ متى أخر مرة شعرنا بخير؟ وكل عام؟، أو مثلا قولنا: أعاده الله علينا والسلام يخيم على ربوع بلادنا، أو الكلام عن المحبة والتسامح والسعادة وباقات الورد واطفاء الشموع وإشعال الشموع؟ طبعا ممكن
وهل من الممكن توديع العام المنصرم واستقبال العام الجديد بدون تكرار البيت الخالد لأبي الطيب المتنبي: عيد بأي حال عدت يا عيد؟ وبدون البكاء على الأطلال ولعن الزمان؟ طبعا ممكن ولكنه ليس من السهل.
هذا ما سأحاول فعله من خلال هذه السطور.  منذ سنوات عديدة ويوجد هناك من كان يقول: لم تمر علينا سنة أسوأ من هذه السنة، ويحمد ربه على انها اشرفت على الرحيل من غير رجعة. ونراه بعد سنة يقف ليقول الكلمات نفسها. واليوم سوف يقف الكثيرون ليقولوا: هذه السنة، 2016 هي أسوأ سنة عرفناها. ويعد الساعات حتى تنتهي سيبدأ بالبحث عن كلمات براقة وكأنه يريد أن يخدع العام الجديد.
كما أن الموت يشكل مناسبة لا تعوض بالنسبة للكثير من الواعظين لعرض بضاعتهم عن هول الموت وعذاب القبور كذلك قدوم العام الجديد يشكل مناسبة لا تعوض بالنسبة للمتنبئين والمحللين على أشكالهم الذين يغزون الفضائيات والمواقع والمجلات لعرض تنبؤاتهم التي سرعان ما تتبخر وينساها الجميع بمن فيهم من تنبأ بها.
الزمن ينساب من غير انقطاع وبدون أن يتوقف في آخر يوم. وما تقسيمنا له لسنوات أو لشهور أو لايام  سوى تقسيم مجازي. الزمن يجري في طريقه غير عابئ بتقسيماتنا الوهمية هذه، ما بدأ قبل انتهاء السنة قد يستمر مع بداية السنة الجديدة والسنة التي بعدها. حصار غزة على سبيل المثال ها هو يدخل عامه العاشر والمجال مفتوح، أعمال القتل والدمار في سوريا على وشك أن تنهي عامها السادس، أما أعمال القتل والدمار في العراق فلم تتوقف منذ عشرين عاما على الأقل. ولكن بما أننا جميعا بشر وفي نهاية المطاف لا نستطيع أن نستوعب الزمن إلا إذا قسمناه لسنوات ومشتقاتها فلا مانع أن نلقي نظرة على بعض الاحداث التي واكبتنا هذا العام والتي سوف ترافقنا الى العام الجديد وربما لأعوام كثيرة قادمة. وهنا لا يوجد لدي  أية نية للمقارنة أو للمفاضلة بين سنة وأخرى.
الأحداث العالمية التي شغلت العالم هذه السنة كثيرة، تناولتها معظم وسائل الإعلام والتي سوف يبقى ظلها يلاحقنا في السنة أو السنوات القادمة، ولكل طرف اولوياته لاختيار أهمها. منهم من يقول أن انتخاب ترامب رئيسا للولايات المتحدة الأمريكية هو أهم حدث لهذا العام، لأنه لا يتلخص في انتخاب رئيس جديد بل يتوقعون نهاية مرحلة وبداية مرحلة جديدة. فحتى اليوم لم ينتخب مثل هذا الرئيس العنصري. البعض يعتبر خروج بريطانيا من الاتحاد الأوروبي هو أهم حدث وقع في هذه السنة، لأنه يشير إلى انهيار النظام الأوروبي ككل. البعض الآخر يدعي أن تقدم اليمين المتطرف في شتى أرجاء أوروبا هو أهم الأحداث إذ يعيد للأذهان ما حل في هذه القارة في المنتصف الأول من القرن الماضي. والبعض، وخصوصا من سكان القارة العجوز يردد بأن أهم حدث في العام المنصرم هو تزايد أعداد المهاجرين واللاجئين جالبا معه الارهاب الذي يثير مخاوفهم القديمة الجديدة.
بالنسبة لي أهم الأحداث ما يجري في سوريا وبعد ذلك في فلسطين ومن ثم في باقي أرجاء العالم العربي، فإذا استطعت أن اتحرر من حدود الزمان فلا استطيع ان اتخلص من حدود الجغرافيا والتاريخ. بالنسبة لسوريا لم يعد هناك حاجة لأي تحليل أو تفسير. البلد يدمر أمام أعيننا: اقتلاع وتهجير نصف السكان، عشرة ملايين إنسان، قتل نصف مليون مواطن، تدمير مدن بكاملها وفي مقدمتها مدينة حلب التي تحدت الزمن لآلاف السنين. هذه هي الحقائق عارية قبل أن نبحث عن المسؤول. العالم بأسره جاء إلى سوريا لكي يصفي حساباته ويقضي أيام اعياده على أنقاضها. بشار الأسد وله حصة الأسد في عملية التدمير يود أن يدخل التاريخ كمن تصدى للمؤامرة الكونية على سوريا وانقذها من مخالب الارهاب، ليكن، ولكنه "انقذها" جثة هامدة. هل يوجد هناك من تصل به الوقاحة ويقول للشعب السوري: كل عام وانتم بخير؟
أفي فلسطين، أهم حدث وقع هذه السنة أنه لم يحدث هناك أي شيء يذكر. قرار الأمم المتحدة ضد الاستيطان؟ أو ربما مؤتمر فتح وتجديد البيعة لمحمود عباس قبل ذلك ؟ أو ربما خطاب كيري الاخير بعد ذلك؟ كل هذه الأحداث تتقزم أمام حدث النكبة الذي يخيم على البلاد منذ سبعين عاما.
سوريا ومعها فلسطين ومن ورائهما العالم بأسره عليها أن تمسك بتلابيب الزمان، تطرحه أرضا وتقف جاثمة على صدره حتى تشرق شمس الحرية. صامدون هنا.

Thursday, December 15, 2016

عندما يتجرد الإنسان من إنسانيته

عندما يتجرد الإنسان من إنسانيته
علي زبيدات - سخنين

مرة أخرى أجد نفسي في حيرة من أمري بين مقولتين. الأولى تقول: لا جديد تحت الشمس. والثانية تقول العكس تماما: كل يوم بل كل لحظة يوجد هناك شيء جديد. عادة، أحاول فهم هاتين المقولتين من منطلق القانون الديالكتيكي حول وحدة وصراع الأضداد فأصل إلى نتيجة مفادها بأن المقولتين صحيحتان. يوجد هناك ظواهر ثابتة وأخرى متغيرة ومتحركة تتشابك مع بعضها البعض وفي نهاية المطاف تكمل بعضها البعض حتى يصبح التناقض بينها نسبي ومؤقت وربما ظاهري وأحادي الجانب. ولكني أمام بعض الأحداث أجد نفسي أقف حائرا بذهول بين هاتين المقولتين. هذا الشعور يسيطر علي هذا الأسبوع على ضوء أحداث حلب المأساوية التي اعتبرها البعض تحريرا بينما اعتبرها البعض الآخر احتلالا أو سقوطا. هنا ملت إلى تصديق المقولة الأولى: لا جديد تحت الشمس. حلب ليست المدينة الأولى التي تدمر بهذا الشكل و تتعرض لمجازر بهذا الشكل فقد سبقتها مدن كثيرة وسوف يتلوها مدن كثيرة أيضا. لقد عرفت البشرية خلال تاريخها القديم والحديث الكثير من الدمار والقتل والمجازر.  يكفي أن أذكر هنا بعض أمثلة من التاريخ الحديث دون الخوض بالتفاصيل: هيروشيما، ستالينغراد، دريسدن، وارسو وغيرها أثناء الحرب العالمية الثانية، هانوي في فيتنام خلال الحرب التي شنتها أمريكا على هذا البلد، بيروت وغزة بسبب العدوان الإسرائيلي المتكرر. بإختصار، الحروب وما يرافقها من دمار ومجازر وقتل هي ظواهر ثابتة منذ أقدم العصور وحتى يومنا هذا وأغلب الظن أنها سوف تستمر إلى أجل غير مسمى، أي: لا جديد تحت الشمس.
شكرا لعلماء السياسة من أفلاطون وحتى آخر بروفيسور في أية جامعة ولعلماء الاجتماع من إبن خلدون وحتى يومنا هذا ولعلماء النفس من فرويد وإلى هذه اللحظة الذين حاولوا كل على طريقته تغيير هذه المقولة: الحروب، القتل، المجازر والدمار لن تتوقف. يمكن توقع حدوثها أحيانا، الحد من أضرارها، السيطرة عليها قبل أن تبلغ ذروتها، أو تأجيل وقوعها.  تماما كما نتعامل مع بعض الظواهر الطبيعية كالبراكين والهزات الأرضية والفيضانات والحرائق. ولكن أن تنتهي تماما؟ إنسوا.
يوجد في أيامنا هذه بوادر تشير إلى تفاقم الوضع وزيادة احتمالات نشوب المزيد من الحروبات والقتل. ينتج نظام العولمة الرأسمالي المزيد من الميول العدوانية وينتج في الوقت نفسه من يحمل ويتبنى هذه الميول التي يتم ترجمتها إلى حروب وأعمال قتل. سميت هذه الميول باليمين المتطرف، النازية الجديدة، الفاشية ومهما كانت تسميتها فإنها تحمل الصفات ذاتها. في بلادنا اليمين الصهيوني المتطرف يحكم منذ فترة طويلة، الولايات المتحدة الأمريكية اختارت رئيسا يمينيا عنصريا من غير قناع، على أوروبا تهب رياح يمينية عنصرية على غرار الرياح التي جلبت النازية والفاشية في القرن الماضي، خروج بريطانيا من الاتحاد الأوروبي جاء بسبب هذه الرياح، ولكنها تهب أيضا في فرنسا وإيطاليا وألمانيا وهولندا ودول أخرى. بوتين والمافيا التي تحيط به سبق الأوروبيين بخطوات واسعة في هذا الاتجاه. وبما أنه نظام عالمي ولكي لا أظلم أحدا هذه الرياح تهب على الدول النامية أيضا، على سبيل المثال لا الحصر، انتخب قبل نصف سنة رئيس جديد في الفلبين يفتخر بقتل متهمين في إطار ما يسميه محاربة الجريمة ومنذ انتخابه قتلت شرطته 2000 متهم دون أية محاكمة وقتل أكثر من 3000 آخرين من قبل مجهولين في وحدات خاصة لها علاقة بالرئيس الجديد. هل يدري هذا الرئيس الذي يحارب الجريمة بأنه هو المجرم رقم واحد في الفلبين؟
لماذا لا يوجد هناك رد شعبي ملائم لمواجهة هذه الجرائم؟ لانه قبل الشروع في اقترافها تقوم الطبقات والفئات الحاكمة بتمهيد الطريق وتهيئة الظروف لكي تبدو هذه الجرائم وكأنها شيء عادي ومن يتعرض لها يستحقها. في بلادنا مثلا، قوة نتنياهو، ومن حوله أحزاب اليمين الصهيوني، مستمدة من نجاحه في عملية مسح دماغ للمواطن العادي بأن كل فلسطيني هو إرهابي، إذا لم يكن بالفعل فبالقوة، ويجب في جميع الأحوال نبذه والحذر منه، وإذا قتل فلا بأس إذ من الطبيعي قتل الإرهابيين ومن الطبيعي أيضا قتل أو هدم بيت عائلته. في أوروبا، تنبع قوة اليمين المتطرف تنبع من اعتبار المهاجرين، اللاجئين والغرباء أعداء جاؤوا لسلب المواطنين الأصليين والاستيلاء على أعمالهم وثرواتهم وتلويث بيئتهم الاجتماعية. قوة الرئيس الأمريكي المنتخب، ترامب هي الأخرى جاءت نتيجة لحملته العنصرية ضد المهاجرين وبالاساس المسلمين والمكسيك. في حلب، قوة النظام، بالإضافة للقوة المستمدة من حلفائه الروس والإيرانيين وباقي المليشيات جاءت من إقناع بعض الفئات بأنه يحارب إرهابيين جاؤوا من كل أرجاء العالم كجزء من مؤامرة كونية. عندما تجرد الإنسان من إنسانيته يصبح قتله أمرا عاديا ولكن من يجرد أحد من إنسانيته لا ينتبه أنه في الوقت ذاته يجرد نفسه من إنسانيتها.  نظرة سريعة لكل هؤلاء يتبين بكل وضوح أنهم يشكلون معسكرا واحدا هو المسؤول عن الحروب والقتل والدمار في العالم.

ما تستطيع القوى المتنورة التي لم تفقد إنسانيتها فعله هو العمل الجاد  لتفكيك هذا المعسكر واضعافه من خلال محاربة العنصرية بكافة أشكالها وفي كل مكان.

Thursday, December 08, 2016

هذا إغتصاب وليس تمثيلا

هذا إغتصاب وليس تمثيلا
علي زبيدات - سخنين

صدمت مثل الكثيرين غيري عندما قرأت خبر ومن ثم شاهدت المقابلة التي اعتراف بها المخرج العالمي برناردو برتولوتشي بأن مشهد الاغتصاب في فيلم "التانغو الاخير في باريس" لم يكن تمثيلا بل كان عملية اغتصاب حقيقي تم الاتفاق عليها بين المخرج والممثل الشهير مارلون براندو بدون علم الممثلة الشابة ماريا شنايدر، وذلك لأنه أراد، حسب تصريحه "رؤية مشاهد الإذلال الصريحة على وجه الممثلة وهي تبكي وتصرخ بشكل حقيقي وليس بإداء تمثيلي".
قلت صدمت، ولكني لم اتفاجأ، فقد شاهدت هذا الفيلم قبل أكثر من أربعين سنة وما زلت أذكر شعوري الشديد بالقرف والاشمئزاز من هذه اللقطة التي روجت لها وسائل الإعلام الفنية  على اعتبار أنها أجرأ لقطة فنية في تاريخ السينما. كنت في ذلك الوقت من عشاق السينما وكان مارلون براندو من الممثلين المفضلين لدي حيث قدم في تلك الفترة فلم العراب  وقبلها العديد من الأفلام الجيدة. كنت في ذلك الوقت لا أعير المخرج تلك الأهمية الكبيرة مع معرفتي بأن المخرج هو المسؤول الأول والأخير عن الفلم. وذلك لأن المخرج لا يظهر عادة على الشاشة مما يسرع في نسيانه بالنسبة للمشاهد العادي. بالرغم من ذلك كنت على معرفة بشهرة هذا المخرج بعد أن شاهدت في الفترة ذاتها أحد أفلامه السياسية الرصينة بإسم "the conformist"
يبدو أن عمليات الاغتصاب التي تخلط بين الحقيقة والتمثيل لا تحدث  فقط  بالافلام، بل تحدث يوميا في السياسة أيضا وفي جميع أرجاء العالم. وها هنا بعض النماذج: لنبدأ بالأمم المتحدة، استعمال حق الفيتو من قبل الدول العظمى أليس نوعا من الاغتصاب؟ ولكنه يبدو للمشاهد في الوقت نفسه نوعا من التمثيل؟. الاعتداءات المتكررة للدول القوية على الدول الضعيفة والتدخلات في شؤونها الداخلية أليست هي الأخرى عمليات اغتصاب مستمرة ومتكررة؟ ولكن، عندما يعرضونها علينا على شاشة التلفزيون ألا تبدو وكأنها تمثيل؟.  الحرب في سوريا هي من جهة عملية إغتصاب جماعي يشارك بها أكثر من مخرج وأكثر من ممثل ولكننا نشاهدها من جهة أخرى وكأننا نشاهد  فيلم رعب فاغرين أفواهنا غير مصدقين ما نراه أمامنا. فنتساءل: هل هذا الدمار حقيقي؟ وهل هذه الجثث التي يتم اخراجها من تحت الأنقاض حقيقية؟ أم أن كل شيء تمثيل بتمثيل؟  يقتلون ارهابيين ولكنهم يخرجون جثث أطفال من بين الردم.  في الأفلام فقط تستطيع رؤية مشاهد كهذه. ومن يدري؟ فهناك اتهامات موجهة لقناة الجزيرة بأنها تملك استوديو خاص لتصوير مثل هذه الأفلام وبثها على أنها حقيقة لأسباب سياسية. وربما توجد قنوات أخرى تملك مثل هذه الاستوديوهات مثل البي بي سي، السي سي إن، روسيا اليوم، الميادين، وإن ننسى فلا ننسى استوديوهات داعش التي أخرجت  أفضل أفلام الرعب والاغتصاب تشويقا، تستحق أن تنال على بعضها جائزة الأوسكار  أو على الأقل جائزة مهرجان كان السينمائي.  وما يحدث في العراق واليمن وتونس ومصر وليبيا  يدخل أيضا في خانة الاغتصاب على الطريقة " الحقيقة التمثيلية" إذا صح التعبير. ولماذا نذهب بعيدا؟ ألم يكن مؤتمر فتح السابع في رام الله عملية إغتصاب "حقيقية تمثيلية" فريدة من نوعها حدثت داخل العائلة؟  اما دولة اسرائيل فلم تتوقف ولم تكتف بالاغتصاب الكبير عام 1948 فها هي تمارس االاغتصاب يوميا على الحواجز المنتشرة في كل مكان في الضفة الغربية، وراء جدار الفصل العنصري وفي كل مستوطنة ومستوطنة.  والعالم يصفق لها قبل وبعد كل عملية اغتصاب على طريقة فيلم جودي فوستر الشهير "المتهم"، وحتى أنه لا يعتبرها أعمال تحرش على الأقل.
هكذا إذن، في جميع هذه الحالات يتفق المخرج مع البطل الرئيسي للفيلم على الاغتصاب ويترك الممثلة المسكينة تظن وكأنه تمثيل بالرغم من أن شعورها بالإذلال والبكاء والصراخ هو حقيقي. السؤال الذي يطرح نفسه هنا: من تعلم من من؟ هل تعلم برتولوتشي وبراندو من السياسيين أم السياسيين هم الذين تعلموا منهما؟ الممثلة الضحية ماريا شنايدر ماتت وهي تكره المخرج وبطل الفيلم حسب اعتراف المخرج نفسه،  ذلك بدون أن يعترف أمامها بحقيقة ما صنعه.  وماذا عن ضحايا الاغتصاب الآخرين من شعوب وأفراد والذين ما زالوا على قيد الحياة؟ أما آن الأوان لكي يصغوا إلى شعورهم الحقيقي ويضعوا حدا فاصلا بين الاغتصاب والتمثيل؟.

أخطر ما في الأمر، عندما أجاب المخرج على سؤال موجه إليه من قبل الصحفي الذي اجرى المقابلة: هل ندمت على ما فعلته حينذاك (بعد أكثر من 40 عاما)؟ فأجاب: لا، لم أندم ولكني شعرت بالذنب.  ألا يبدو هذا الجواب مألوفا؟  يقتلون كما يطيب لهم ولا يندمون ولا يعترفون بالجريمة بعد أن حققوا مطالبهم. الشعور بالذنب أهون ويوجد مائة طريقة  لا تكلف الكثير للتعبير عن هذا الشعور. ونحن في هذه البلاد لدينا تجربة طويلة وغنية بالتعامل مع الذين "يشعرون بالذنب" ولكنهم لا يندمون على ما اقترفوا من عمليات اغتصاب.

Thursday, December 01, 2016

الشاطر والمشطور وفلسطين بينهما

الشاطر والمشطور وفلسطين بينهما
علي زبيدات سخنين

لا أدري إذا كانت الحكاية التي تروى عن مجمع اللغة العربية الذي اقترح ترجمة كلمة ساندويتش الانكليزية بعبارة:"الشاطر والمشطور وبينهما طازج" هي حقيقية أم هي نكتة من باب السخرية بهذا المجمع روجها بعض الكتاب المغرضين. ولا أدري على وجه التحديد إذا كان هناك وجه شبه بين هذه الحكاية (النكتة) وبين موضوع هذه المقالة سوى اقتباس بعض الكلمات الواردة في العنوان والتلاعب بها.
تواريخ ثلاثة يحتويها شهر نوفمبر/تشرين أول تلخص وتجسد، حسب رأيي، أكثر من غيرها المأساة الفلسطينية: في بداية الشهر وفي منتصفه وفي نهايته، وتحديدا في الثاني من الشهر - ذكرى وعد بلفور، في ال15- ذكرى الاستقلال وفي ال29 - ذكرى التقسيم. زمنيا جاء "الاستقلال" بعد 71 سنة من وعد بلفور و 41 سنة بعد قرار التقسيم ولكن عمليا ومن حيث ترتيب إحياء الذكرى جاء هذا "الاستقلال"  مضغوطا بين الوعد والقرار، بين الشاطر والمشطور ولكن مع فارق جوهري مع العبارة المنسوبة لمجمع اللغة العربية: ما بين الشاطر والمشطور ليس طازجا أو كامخا، حسب بعض الروايات، بل مزيج من الأوهام البائتة وحتى الفاسدة.
لست هنا بصدد سرد تاريخي لهذه الأحداث الثلاثة أو تحليلها وتقييمها، فقد سال حبر كثير في الكتابة عنها تناولت كافة جوانبها ولا أظن أنه باستطاعتي في هذا المجال كتابة أو إضافة ما هو جديد. كل ما اطمح اليه هو أن أوفق في التعبير عن دهشتي في كل شهر نوفمبر من كل سنة في ذكرى هذه الأحداث الثلاث.  لم التق، حتى اليوم، بفلسطيني واحد مهما كان انتماؤه التنظيمي ووعيه السياسي يحب وعد بلفور. وأكاد أجزم، حتى المتعاونين مع الصهيونية فكرا وممارسة، قبل قيام دولة إسرائيل وبعدها، لا يجدون كلمة واحدة يمتدحون بها هذا الوعد بل يشمئزون منه هذا لإجحافه ودناءته بكل المقاييس المتعارف عليها.  ما عجزت عن فهمه طوال هذه المدة تلك المفارقة والانفصام في شخصية الفلسطينيين والعرب عموما الذين يرفضون وعد بلفور جملة وتفصيلا وفي الوقت نفسه يلهثون وراء تسويات وحلول أسوأ من وعد بلفور بدرجات.  نموذج واحد،على سبيل المثال لا الحصر، كيف يجرؤ رئيس السلطة الفلسطينية مقاضاة بريطانيا ومطالبتها بتقديم الاعتذار عن هذا الوعد بينما هوعلى أتم الاستعداد للقبول بتسوية أقل بدرجات مما نص عليه هذا الوعد.
قرار التقسيم هو الآخر استقبل بالاستنكار والغضب من معظم طبقات الشعب. الحزب الشيوعي الفلسطيني الذي أصبح فيما بعد الحزب الشيوعي الإسرائيلي كان التنظيم الوحيد الذي وافق على هذا القرار بالرغم من معارضته للتقسيم طوال سنوات حتى أتته الأوامر من موسكو بالرضوخ. وقد دفع ثمنا باهظا مقابل موافقته من نبذ وعزلة وحتى التخوين ولم تشفع له نضالاته السابقة. ما زالت الجماهير الشعبية الفلسطينية في قرارة نفسها تمقت وترفض هذا القرار الذي يفتقر إلى أبسط معايير العدالة. إذ كيف يعقل قبول التنازل عن أكثر من نصف الوطن لمجموعة من المستوطنين لا تتعدى ثلث السكان الأصليين؟ إلا أن القيادة الفلسطينية، مستغلة صمت الجماهير الشعبية ومن خلال لهثها وراء أي حل يؤمن لها بعض السلطة وبعض الامتيازات انتهت إلى التحسر على قرار التقسيم مما حدى للموافقين في حينه أن يرفعوا رؤوسهم قائلين: ألم نقل لكم؟ ألم نحذركم من مغبة رفضكم لقرار التقسيم؟ لقد كان بالإمكان إنقاذ ما يمكن إنقاذه  لأن حزبنا يتمتع ببعد النظر وقد أدرك أبعاد المؤامرة، لقد أضعتم فرصة العمر. والان يتفق الجميع على قبول أقل من نصف ما عرضه عليهم قرار التقسيم. واكثر من ذلك، بذلوا كل جهدهم لمحو قرار التقسيم من الذاكرة الفلسطينية بعد أن حولوه بناء على وعود سرابية من قبل ما يسمى المجتمع الدولي إلى "يوم التضامن العالمي مع الشعب الفلسطيني". أي تضامن هذا؟ وأين هو؟
بين هذين الحدثين (الوعد والقرار)  خدعونا أو على الأصح خدعنا أنفسنا وسمحوا لنا بالاحتفال بيوم الاستقلال. في عام 1988 أصدرنا وثيقة إستقلال حيث لطش شاعرنا القومي معظم أفكارها من وثيقة الاستقلال الإسرائيلية، ووقف رمزنا الوطني وهو يعلن الاستقلال وقفة بن غوريون عندما أعلن عن "استقلال" إسرائيل. من أجل ذلك تم إجهاض الانتفاضة الأولى بحجة استثمارها سياسيا، وتم الاحتفال باعتراف 135 دولة بهذا الاستقلال الوهمي، حتى الأمم المتحدة اعترفت بها إلى حد ما وازداد عدد السفارات الفلسطينية في قارات العالم. على حد علمي هذا هو الاستقلال الوحيد في العالم وفي التاريخ القديم والحديث حيث يستطيع جندي معفن واحد أن يدوس ببسطاره العسكري عليه ويتابع سيره دون أي احتجاج.

في كل نوفمبر من كل سنة يوجد أمامنا مأساة وخلفنا مأساة وبينهما فرحة مزيفة. أما آن الأوان لهذا المسلسل التراجي-كوميدي العدمي أن ينتهي؟