Wednesday, October 28, 2015

الخيط الرفيع بين وعد بلفور وبين وعود اقامة الدولة الفلسطينية



الخيط الرفيع بين وعد بلفور وبين وعود اقامة الدولة الفلسطينية
علي زبيدات – سخنين

نص تصريح بلفور:
"وزارة الخارجية
في الثاني من نوفمبر/تشرين الثاني سنة ١٩١٧
عزيزي الامير فيصل
يسرني جدا أن ابلغكم بالنيابة عن حكومة جلالته، التصريح التالي الذي ينطوي على العطف على أماني العرب والفلسطينيين، وقد عرض على الوزارة واقرته:
ان حكومة صاحب الجلالة تنظر بعين العطف إلى تأسيس وطن قومي للشعب الفلسطيني في فلسطين، وستبذل غاية جهدها لتسهيل تحقيق هذه الغاية، على أن يفهم جليا انه لن يؤتى بعمل من شأنه أن ينتقص من الحقوق المدنية والدينية التي تتمتع بها الطوائف غير العربية المقيمة الآن في فلسطين ولا الحقوق أو الوضع السياسي الذي يتمتع به العرب في البلدان الاخرى
وسأكون ممتنا إذا ما احطم القيادة العربية علما بهذا التصريح
المخلص
ارثر جيمس بلفور"
طبعا، لا شك انكم لاحظتم،ك من تحفظون تصريج بلفور عن ظهر قلب، أن هذا النص لا يمت بصلة للنص الاصلي الحقيقي. انه مجرد نص خيالي وهمي، ولكن لا ضير، بصفتنا شعب قد اكتسب اعترافا دوليا بالخيال الشرقي الجامح وباللهث وراء الاوهام في كل واد وصحراء. لنطلق عنان خيالنا للحظة واحدة ونتصور ان هذا النص هو النص الاصلي ونحاول ان نجيب: هل كانت ستقوم دولة فلسطينية في فلسطين التاريخية؟
لا ادري اصلا لماذا يستعمل جميع المؤرخين والسياسيين والكتاب العرب كلمة وعد كترجمة للكلمة الانجليزية declaration ، أي تصريح المستعملة في كافة اللغات الاخرى، هل هي صدفة أم هناك غاية ما لا نعرفها؟ حسب رأيي المتواضع، كلمة تصريح افضل بكثير من كلمة وعد لأن كلمة وعد تحمل مشحونا عاطفيا وتوحي بموقف شخصي يحتمل الايفاء به ويحتمل نكثه. اما التصريح فيعبر عن موقف سياسي مدروس بغض النظر عن الشخص الذي صرح به مهما كان منصبه الرسمي. كلمة وعد تتيح لمستعمليها اضافة الصفات التي يريدونها ككلمة مشؤؤم التي اصبحت صفة ملازمة لوعد بلفور، وكأن باقي القرارات ليست مشؤومة، ولكنها لا تبرز مسؤولية الحكومة البريطانيية كما لو استعملنا كلمة تصريح. لذلك سوف اخرج عن السرب واستعمل كلمة تصريح.
صدر تصريح بلفور، وزير الخارجية البريطاني حينذاك، في الثاني من نوفمبر سنة ١٩١٧ أي قبل ما يقارب القرن، ولكن الاعداد له بدأ قبل ذلك بسنوات. وجاء الاعلان عنه كخلاصة للسياسة الاستعمارية البريطانية في المنطقة، سبقته الاتصالات مع الشريف الحسين واحتواء الموقف العربي الرسمي، ومعاهدة سايكس – بيكو حول تقسيم الورثة العثمانية. لم يكن الدور الحاسم في اصدار هذا التصريح للحركة الصهيونية، كما يزعم يروج له العديد من المؤرخين، من خلال ممارستها للضغط على الحكومة البريطانية، فقد كانت هذه الحركة في ذلك الوقت أضعف من أن تمارس اي ضغط. ولم يكن السبب رغبة بريطانيا في كسب رضا يهود اوروبا في الحرب ضد المانيا او استغلال النفوذ اليهودي في امريكا للضغط عليها لدخول الحرب أو مكافأة لوايزمن على اختراعاته التي استعملتها بريطانيا في الحرب، أو تعاطفا مع يهود اوروبا لما لاقوه من اضطهاد وملاحقة. خصوصا وان بلفور نفسه ورئيس حكومته لويد جورج لم يكونا معروفيين بحبهما لليهود بشكل عام وليهود بريطانيا بشكل خاص. حسب رأيي كان هناك سببان اساسيان للاعلان عن هذا التصريح: الاول، منع تدفق هجرة يهود روسيا واوروبا الشرقية إلى بريطانيا قبل، اثناء، وبعد الحرب وتحويلهم إلى اي مكان آخر. الثاني، ملأ الفراغ الذي خلفته تركيا في المنطقة بكيان كولونيالي يحمل كافة صفات الاستعمار البريطاني. من هنا عملت بريطانيا بسرعة وبجد لجعل مضمون هذا التصريح سياسيتها الرسمية في فلسطين عن طريق كسب موافقة فرنسا وايطاليا وامريكا، ومن ثم في مؤتمر سان ريمو واخيرا بواسطة عصبة الامم المتحدة باتخاذ قرار الانتداب عام ١٩٢٢.
منذ صدور قرار الانتداب عام ١٩٢٢ وحتى الاعلان عن اقامة دولة اسرائيل عام ١٩٤٨، عملت بريطانيا كل ما تستطيعه لتحقيق سياسيتها التي تضمنها تصريج بلفور. المأساة أن الزعامة العربية والزعامة الفلسطينية المحلية قد صدقت كذبة بريطانيا بأن الانتداب ليس احتلالا بل هو عبارة عن وصاية حتى يصبح شعب البلاد قادرا على الاستقلال، واكثر من ذك، فقد حاولت هذه الزعامة ان تقنع بريطانيا بانها سوف تخدم مصالحها افضل من الحركة الصهيونية. ولكن بريطانيا التي كانت تعلم مدى تخلف وضعف هذه الزعامة لم تقتنع، وتمسكت اكثر واكثر بالحركة الصهيونية، بقيت هذه النظرة هي السائدة حتى ظهرت حركة الشيخ عزالدين القسام والتي قلبت المعادلة بأن قالت بكل بساطة: لا يمكن محاربة الصهيونية من غير محاربة الاحتلال البريطاني. لقد كان من الممكن اسقاط السياسة البريطانية لو تم التعامل معهامنذ البداية كقوة احتلال. واكبر دليل على ذلك اضطرارها لبعض التراجع كلما ازداد منسوب المقاومة الشعبية منذ السنة الاولى للانتداب اضطر تشرشل وزير المستعمرات حين ذاك إلى اصدار ما يسمى الكتاب الابيض الاول لطمأنة المواطنين، وفي نهاية العشرينات وبداية العشرينات اضطرت بريطانيا للتراجع بعض الشيء عن سياستها لامتصاص نقمة الجماهير قبيل وبعد ثورة البراق. كما فرضت ثورة ١٩٣٦-١٩٣٩ مرة اخرى على بريطانيا التراجع. ولكن غياب القيادة الوطنية الثورية وخيانة الانظمة العربية الرجعية أو تواطؤها فتحت الابواب امامها على مصراعيها لتواصل سياستها وتحقيق غاياتها الاستعمارية.
الطريق كان واضحا امام كل من يريد أن يرى: كلما تصاعدت المقاومة كلما تقهقر الاحتلال. والعكس صحيح، كلما تراجعت المقاومة كلما استشرس الاحتلال.
كان هذا الطريق صحيحا في ظل الاحتلال البريطاني وما زال صحيحا في ظل الاحتلال الاسرائيلي. لن يكون هناك وعد بلفور فلسطيني من أي طرف كان في العالم، ليس من قبل الامم المتحدة ولا من قبل امريكا والاتحاد الاوروبي ولا من قبل الاحتلال الاسرائيلي. ولكن يوجد هناك طريق المقاومة الفلسطينية.

Friday, October 23, 2015

الانتفاضة التي طال انتظارها ويخافها الجميع



الانتفاضة التي طال انتظارها ويخافها الجميع
علي زبيدات – سخنين

منذ فترة ليست بالقصيرة والعديد من المراقبين والناشطين يتوقعون انفجار انتفاضة جديدة تكون الانتفاضة الثالثة من حيث الترتيب. فكلما تفاقم القمع الاسرائيلي ورافقه أو جاء في اعقابه رد فلسطيني مهما كان متواضعا، سارع الكثيرون بالاعلان عن انتفاضة جديدة قد انطلقت، ولكن سرعان ما يتبين بان الرد كان محدودا وعابرا. الاحداث الاخيرة التي تفجرت في الاقصى وفي القدس وامتدت الى مناطق عديدة في الضفة الغربية وقطاع غزة والاراضي المحتلة عام ١٩٤٨ جعلت معظم الناشطين والمراقبين يجمعون على أن الانتفاضة الثالثة قد بدأت بالفعل وانها استمرار لانتفاضة القدس ولاقصى لعام ٢٠٠٠ من حيث شموليتها وتدفقها وتمددها بالرغم من الاختلافات في ظروف واشكال النضال المتبعة.
توقعات انطلاق الانتقاضة ومن ثم انطلاقها بالفعل لا تعني ان الاطراف الرسمية(وغير الرسمية) من كلا الطرفين قد احتضنتها أو رحبت بها. رئيس السلطة الفلسطينية، محمود عباس كان قد صرح مرات عديدة، بمناسبة وغير مناسبة، وتقريبا في كل ظهور اعلامي له منذ تبوئه لرئاسة السلطة بانه لن تكون هناك انتفاضة جديدة طالما بقي رئيسا، والحق يقال انه حتى الان قد بر بوعده. فقد زج باجهزته الامنية لمنعها اما مباشرة واما من خلال التنسيق الامني مع الاحتلال الاسرائيلي. حتى عندما كان هذا الاحتلال يتجاوز كافة الخطوط الحمراء من تصعيد اعمال القمع والقتل بواسطة الجيش والمستوطنين مجتمعين او كل على حدة، وتضطر السلطة لادانة هذا التصعيد كوسيلة لامتصاص نقمة الجماهير، كانت الغاية واضحة: منع انطلاق انتفاضة جديدة بكل ثمن.
إلى جانب هذا الموقف الواضح من قبل اقطاب السلطة رأينا هناك موقفا اكثر خطورة عبر عنه العديد من المفكرين المأجورين والمنظرين الذين يدورون في نهاية المطاف في فلك السلطة. هذا الموقف يقيم عاليا صمود ومقاومة الجماهير الفلسطينية كلاميا ولكنه يؤكد من جهة اخرى على خطورة الانتفاضة في هذا الوقتبالذات وعلى هذا الشكل، فمنهم من يدعي أن الانتفاضة تخدم سياسة نتنياهو، بل أن اللجوء الى الانتفاضة هو فخ نصبه نتنياهر للفلسطينيين للخروج من مأزقه على الصعيد الداخلي ومن عزلته على الصعيد الدولي. ومنهم من يحذر من العواقب الوخيمة لهذه الانتفاضة " العفوية التي تفتقر إلى اجندة او برنامج سياسي وتفتقد إلى قيادة حكيمة ومسؤولة”. ومنهم من يجزم ان هذه الانتفاضة نابعة عن يأس ونقمة وغضب وتخلو من الامل والافق. ومنهم من تصل وقاحته لوصف هذه الانتفاضة بالاعمال الصبيانية المتهورة وغير المسؤولة والمزاودة والتي تضرب وحدة الصف الوطنية. والبعض الاخر يذرف دموع التماسيح على الضحايا الذين يسقطون في هذه المعركة غير المتكافئة. احد الكتاب المحسوبين على التيار "الوطني التقدمي" يقول في احدى تحليلاته: ما نراه هو قرارات فردية بدون توجيه او تنسيق، لاشخاص يحملون سكينا لقتل أول يهودي يلاقونه قبل قتلهم. وكاتب آخر معروف بمواقفة التخاذلية وعلاقاته الحميمة بدوائر الفساد في السلطة يأنف من تسمية ما يجرى حولنا بالانتفاضة، ويخترع مصطلحا جديدا جديرا بأن يسجل براءة اختراع على اسمه هو: الاندلاعة.
قيادتنا المحلية تسير وراء خطوات السلطة الفلسطينية والمنظرين الذين يخدمونها. لم يعد سرا ذلك التنسيق بين الحكومة الاسرائيلية والسلطة الفلسطينية و هذه القيادة المحلية تحت رعاية البيت الابيض وما يسمى بالمجتمع الدولي لتهدئة الخواطر وضبط النفس. وما كان الهدف الحقيقي من مظاهرة سخنين الجبارة سوى محاولة للتهدئة وامتصاص الغضب الشعبي من جهة ومحاصرة المظاهرات الشبابية الداعمة للانتفاضة والتي تهدد بالخروج عن السيطرة من جهة اخرى.
على عكس تحليلات مفكرينا العباقرة الذين يدعون بأن انتفاضة جديدة تخدم نتنياهو وحكومته اليمينية المتطرفة أظن ان الواقع يشير إلى عكس ذلك تماما. تصرفات نتنياهو وباعتراف اوساط مقربة له وغير محسوبة على المعارضة الاسرائيلية تنم عن هستيريا لا مثيل لها في السابق. فهو يتهم الجميع في اندلاع الانتفاضة: محمود عباس والسلطة الفلسطينية، حماس، الحركة الاسلامية اعضاء الكنيست العرب. وهذه الهستيريا لا تقتصر على اتهام المذكورين بل يترجمها عمليا إلى قوانين عنصرية وقرارات تعسفية مثل توسيع تعليمات الفتح بالنار، رفع العقوبات على رماة الحجارة بدون اي تناسب حتى تصل إلى عشرين سنة سجن، لان الحجر هو سلاح قاتل، بينما السلاح الناري في يد الجندي او المستوطن سلاح لطيف ينال صاحبه وسام شرف عندما تكون الضحية فلسطيني. ومؤخرا وصلت هستيريته اوجها مما اقلق اكثر المقربين اليه عندما صرح بان هتلر لم يرد ايادة اليهود واراد فقط تهجيرهم وأن الذي اقنعه بالمحرقة هو أمين الحسيني، وبذلك يهز اسس الرواية الاسرائيلية حول المحرقة التي طالما استعملت لابتزاز المانيا والعالم. هذه الهستيريا طالت إلى هذه الدرجة وتلك معظم اوساط المجتمع الاسرائيلي.
واخيرا استغرب من الاطلاق على هذه الانتفاضة، عن حسن أو سوء نية، تسمية انتفاضة السكاكين. السكين كالحجر والزجاجة الحارقة وعمليات الدهس، جميعها اسلحة الشعب الاعزل وجميعها مستعملة في هذا الصراع الشرس الذي لا يعرف الرحمة. من الغريب جدا التركيز على السكاكين وتجاهل آلة الحرب الاسرائيلية الفتاكة التي تستخدم اعتى الاسلحة واكثرهاتطورا. هل يوجد لدى دعاة النضال المدني السلمي سلاحا سحريا لمواجه آلة القتل الاسرائيلية المكونة من الدبابة والطائرة الحربية والصواريخ والقنابل الفسفورية وغيرها من الاسلحة الجهنمية؟
قد لا يكون مصير هذه الانتفاضة الجديدة افضل من مصير الانتفاضات التي سبقتها ولكنها جاءت لتؤكد المبدأ الخالد الذي يقول: الوجود مقاومة.


Wednesday, October 07, 2015

الحروب الصليبية في العصر الحديث



الحروب الصليبية في العصر الحديث
علي زبيدات – سخنين

هذه المقالة القصيرة المتواضعة ليست عودة للخوض بالحروب المعروفة بهذا الاسم والتي شنتها بعض الدول الاوروبية على بلدان المشرق العربي منذ نهاية القرن الحادي عشر وحتى نهاية القرن الثالث عشر. وهي ليست بالضرورة بصدد مقارنة بين تلك الحروب وبين الحروب الدائرة اليوم من قبل تلك البلدان وعلى بقعة الارض ذاتها كما قد يوحي العنوان. لقد كتب عن الحروب الصليبية عشرات وربما مئات الكتب التي تناولتها بالوصف والتحليل من كافة جوانبها، تعبر عن توجهات عديدة مختلفة وفي كثير من الاحيان متناقضة ونشرت في معظم لغات العالم. من هنا فإن مقالة صحفية كهذه لن تقدم أو تأخر شيئا في فهم هذه الحروب ولا أظن انها ستأتي بأي جديد في هذا الشأن.
كنت وما زلت أؤمن بأن جميع الحروب القديمة والحديثة التي اتخذت اشكالا دينية، عقائدية أو ايديولوجية جوهرها واحد وهو مادي اقتصادي. وما زلت أؤمن بأن العلاقة بين الشكل والجوهر هي علاقة جدلية لا يمكن فصمها تقوم على الوحدة والصراع بين قطبيه.ا فلا الشكل يوجد من غير جوهر ولا الجوهر يوجد من غير الشكل. كل ما هنالك قد يطغى أو يهيمن احد الفطبين على الاخر حسب الملموسة والحالة التاريخية وحسب الادراك الذاتي للفرد. وهذه النظرة حسب رأيي تنطبق على كافة الحروب. ربما كان الشكل الديني في الحروب الاسلامية الاولى، والتي سميت فتوحات، هو الغالب ولكن سرعان ما برز الجوهر المادي الاقتصادي وغير مسار التاريخ. على سبيل المثال لا الحصر، باعتراف العديد من المؤرخين المسلمين، النزاع على الغنائم في معركة بواتييه- بلاط الشهداء الذي كان احد اسباب الهزيمة. الثراء الفاحش نتيجة لهذه الحروبات كان سببا في نهوض وتطور الحضارة الاسلامية وفي الوقت نفسه كان سببا في انحطاطها. اليوم يتفق معظم المؤرخين على ان الحروب الصليبية القديمة التي شنت تحت شعارات دينية تتعلق بتأمين طريق الحج للاراضي المقدسة وحماية المؤمنين والاماكن المقدسة كانت شكلا شفافا لم يستطع حجب الجوهر الذي اساسه النهب والسلب واحتكار الثروات.
اكثر من سبعة قرون تفصلنا عن الحروب الصليبية تلك، ولكن يأبى امراء الحرب الجدد إلا أن يذكروننا بها في كل حروباتهم. فها هو الجنرال الانجليزي اللنبي يقول بعد احتلال القدس في اعقاب الحرب العالمية الاولى:”الان انتهت الحروب الصليبية". اما الجنرال الفرنسي جورو الذي دخل دمشق بعد الحرب ذاتها فقد قال:” ها قد عدنا يا صلاح الدين". وقبل هذين التصريحين كانت الدول الاوروبية الاستعمارية تنهش بشراسة في جسد الرجل المريض (تركيا) مستخدمة مصطلحات دينية لكي تغطي على مصالحها الدنيوية. فقد اخترعت بدعة حماية الاقليات الدينية لكي تزيد من نفوذها وهيمنتها، فنرى القيصر الروسي بطالب ويحصل على حماية الارثوذكس في الشرق، وفرنسا تسوق نفسها كحامية للكاثوليك (الموارنة) ووصلت السخرية بأن تطالب بريطانيا بحماية دروز لبنان، ولا ادري أو احد يدري ماهي نوع القرابة بينها وبين الدروز، هذا بالاضافة الى حماية اليهود ومنحهم من خلال وعد بلفور الحق في اقامة دولة لهم.
وما كاد هذا الفصل ينتهي حتى جاء الرئيس الامريكي بوش (الاب والابن) لاحياء هذا المصطلح واستعماله خصوصا في اعقاب اعلان الحرب على "الارهاب الدولي". وتحت راية الصليبية الحديثة شن حربا الامبريالية على افغانستان والعراق. مع ان جوهر هذه الحروب كان واضحا لكل من يريد أن يرى وهو فرض الهيمنة على مصادر النفط والغاز. واليوم يقف الجيش الروسي على خط الحرب الصليبية في تدخله العسكري المباشر في سوريا حيث باركت الكنيسة الروسية الجيش المدجج باحدث الاسلحة الفتاكة الذي سوف يقدم الحماية للنصارى الارثوذكس في سوريا.
من هنا تصبح الطريق قصيرة للاعتقاد بأن الحرب الصليبية يجب أن تواجه بحرب جهادية. واذا اضفنا إلى هذه الصورة ما تقوم به دولة اسرائيل في القدس والاقصى وما يقوم به قطعان المستوطنين المتدينين تصبح الصورة على شكل حرب دينية عالمية. والحالة هذه من يعد يهتم بجوهر الحرب أو بطبيعتها؟ من يستطيع ان يخترق ببصره هذا الضباب ويرى الحقيقة؟ ومن الذي يستطيع ان ينفض هذا الغبار الغيبي الذي يغطيه من رأسه إلى اخمص قدمية ويلامس شغاف قلبه؟.
الحروب التىي تشنها الدول الرأسمالية العظمى، من غير استثناء، هي حروب امبريالية هدفها الهيمنة ونهب خيرات الشعوب وهي من أجل ذلك مستعدة لاستخدام كافة انواع القتل والعنف والجرائم وتستعمل اعتى الاسلحة الحديثة من غير أي وازع اخلاقي. والحروب التي تشنها الانظمة والقوى الرجعية هي حروب رجعية هدفها الحفاظ على سلطتها وامتيازاتها ولو كانثمن ذلك التحالف مع القوى الامبريالية ولو ادى الى قتل الشعب وابادته. الحروب الوحيدة العادلة هي الحروب التي تشنها الطبقات الكادحة والشعوب المضطهدة من اجل حريتها واستقلالها. وهي الجهات الوحيدة القادرة على اخضاع شكل الحرب لجوهرها. فعندما يكون الجوهر هو الحرية والاستقلال فإن الشكل لا بد الا أن يكون تقدميا وانسانيا بل سيكون رومنسيا ثوريا.