Thursday, December 29, 2016

من وحي السنة الجديدة

من وحي السنة الجديدة
علي زبيدات - سخنين

هل يمكن توديع العام المنصرم واستقبال العام الجديد دون الخوض بالتهاني التقليدية التي نكررها عاما بعد عام؟ متى سوف نكف عن ترديد عبارة: كل عام وأنتم بخير؟ هل نحن بخير؟ متى أخر مرة شعرنا بخير؟ وكل عام؟، أو مثلا قولنا: أعاده الله علينا والسلام يخيم على ربوع بلادنا، أو الكلام عن المحبة والتسامح والسعادة وباقات الورد واطفاء الشموع وإشعال الشموع؟ طبعا ممكن
وهل من الممكن توديع العام المنصرم واستقبال العام الجديد بدون تكرار البيت الخالد لأبي الطيب المتنبي: عيد بأي حال عدت يا عيد؟ وبدون البكاء على الأطلال ولعن الزمان؟ طبعا ممكن ولكنه ليس من السهل.
هذا ما سأحاول فعله من خلال هذه السطور.  منذ سنوات عديدة ويوجد هناك من كان يقول: لم تمر علينا سنة أسوأ من هذه السنة، ويحمد ربه على انها اشرفت على الرحيل من غير رجعة. ونراه بعد سنة يقف ليقول الكلمات نفسها. واليوم سوف يقف الكثيرون ليقولوا: هذه السنة، 2016 هي أسوأ سنة عرفناها. ويعد الساعات حتى تنتهي سيبدأ بالبحث عن كلمات براقة وكأنه يريد أن يخدع العام الجديد.
كما أن الموت يشكل مناسبة لا تعوض بالنسبة للكثير من الواعظين لعرض بضاعتهم عن هول الموت وعذاب القبور كذلك قدوم العام الجديد يشكل مناسبة لا تعوض بالنسبة للمتنبئين والمحللين على أشكالهم الذين يغزون الفضائيات والمواقع والمجلات لعرض تنبؤاتهم التي سرعان ما تتبخر وينساها الجميع بمن فيهم من تنبأ بها.
الزمن ينساب من غير انقطاع وبدون أن يتوقف في آخر يوم. وما تقسيمنا له لسنوات أو لشهور أو لايام  سوى تقسيم مجازي. الزمن يجري في طريقه غير عابئ بتقسيماتنا الوهمية هذه، ما بدأ قبل انتهاء السنة قد يستمر مع بداية السنة الجديدة والسنة التي بعدها. حصار غزة على سبيل المثال ها هو يدخل عامه العاشر والمجال مفتوح، أعمال القتل والدمار في سوريا على وشك أن تنهي عامها السادس، أما أعمال القتل والدمار في العراق فلم تتوقف منذ عشرين عاما على الأقل. ولكن بما أننا جميعا بشر وفي نهاية المطاف لا نستطيع أن نستوعب الزمن إلا إذا قسمناه لسنوات ومشتقاتها فلا مانع أن نلقي نظرة على بعض الاحداث التي واكبتنا هذا العام والتي سوف ترافقنا الى العام الجديد وربما لأعوام كثيرة قادمة. وهنا لا يوجد لدي  أية نية للمقارنة أو للمفاضلة بين سنة وأخرى.
الأحداث العالمية التي شغلت العالم هذه السنة كثيرة، تناولتها معظم وسائل الإعلام والتي سوف يبقى ظلها يلاحقنا في السنة أو السنوات القادمة، ولكل طرف اولوياته لاختيار أهمها. منهم من يقول أن انتخاب ترامب رئيسا للولايات المتحدة الأمريكية هو أهم حدث لهذا العام، لأنه لا يتلخص في انتخاب رئيس جديد بل يتوقعون نهاية مرحلة وبداية مرحلة جديدة. فحتى اليوم لم ينتخب مثل هذا الرئيس العنصري. البعض يعتبر خروج بريطانيا من الاتحاد الأوروبي هو أهم حدث وقع في هذه السنة، لأنه يشير إلى انهيار النظام الأوروبي ككل. البعض الآخر يدعي أن تقدم اليمين المتطرف في شتى أرجاء أوروبا هو أهم الأحداث إذ يعيد للأذهان ما حل في هذه القارة في المنتصف الأول من القرن الماضي. والبعض، وخصوصا من سكان القارة العجوز يردد بأن أهم حدث في العام المنصرم هو تزايد أعداد المهاجرين واللاجئين جالبا معه الارهاب الذي يثير مخاوفهم القديمة الجديدة.
بالنسبة لي أهم الأحداث ما يجري في سوريا وبعد ذلك في فلسطين ومن ثم في باقي أرجاء العالم العربي، فإذا استطعت أن اتحرر من حدود الزمان فلا استطيع ان اتخلص من حدود الجغرافيا والتاريخ. بالنسبة لسوريا لم يعد هناك حاجة لأي تحليل أو تفسير. البلد يدمر أمام أعيننا: اقتلاع وتهجير نصف السكان، عشرة ملايين إنسان، قتل نصف مليون مواطن، تدمير مدن بكاملها وفي مقدمتها مدينة حلب التي تحدت الزمن لآلاف السنين. هذه هي الحقائق عارية قبل أن نبحث عن المسؤول. العالم بأسره جاء إلى سوريا لكي يصفي حساباته ويقضي أيام اعياده على أنقاضها. بشار الأسد وله حصة الأسد في عملية التدمير يود أن يدخل التاريخ كمن تصدى للمؤامرة الكونية على سوريا وانقذها من مخالب الارهاب، ليكن، ولكنه "انقذها" جثة هامدة. هل يوجد هناك من تصل به الوقاحة ويقول للشعب السوري: كل عام وانتم بخير؟
أفي فلسطين، أهم حدث وقع هذه السنة أنه لم يحدث هناك أي شيء يذكر. قرار الأمم المتحدة ضد الاستيطان؟ أو ربما مؤتمر فتح وتجديد البيعة لمحمود عباس قبل ذلك ؟ أو ربما خطاب كيري الاخير بعد ذلك؟ كل هذه الأحداث تتقزم أمام حدث النكبة الذي يخيم على البلاد منذ سبعين عاما.
سوريا ومعها فلسطين ومن ورائهما العالم بأسره عليها أن تمسك بتلابيب الزمان، تطرحه أرضا وتقف جاثمة على صدره حتى تشرق شمس الحرية. صامدون هنا.

Thursday, December 15, 2016

عندما يتجرد الإنسان من إنسانيته

عندما يتجرد الإنسان من إنسانيته
علي زبيدات - سخنين

مرة أخرى أجد نفسي في حيرة من أمري بين مقولتين. الأولى تقول: لا جديد تحت الشمس. والثانية تقول العكس تماما: كل يوم بل كل لحظة يوجد هناك شيء جديد. عادة، أحاول فهم هاتين المقولتين من منطلق القانون الديالكتيكي حول وحدة وصراع الأضداد فأصل إلى نتيجة مفادها بأن المقولتين صحيحتان. يوجد هناك ظواهر ثابتة وأخرى متغيرة ومتحركة تتشابك مع بعضها البعض وفي نهاية المطاف تكمل بعضها البعض حتى يصبح التناقض بينها نسبي ومؤقت وربما ظاهري وأحادي الجانب. ولكني أمام بعض الأحداث أجد نفسي أقف حائرا بذهول بين هاتين المقولتين. هذا الشعور يسيطر علي هذا الأسبوع على ضوء أحداث حلب المأساوية التي اعتبرها البعض تحريرا بينما اعتبرها البعض الآخر احتلالا أو سقوطا. هنا ملت إلى تصديق المقولة الأولى: لا جديد تحت الشمس. حلب ليست المدينة الأولى التي تدمر بهذا الشكل و تتعرض لمجازر بهذا الشكل فقد سبقتها مدن كثيرة وسوف يتلوها مدن كثيرة أيضا. لقد عرفت البشرية خلال تاريخها القديم والحديث الكثير من الدمار والقتل والمجازر.  يكفي أن أذكر هنا بعض أمثلة من التاريخ الحديث دون الخوض بالتفاصيل: هيروشيما، ستالينغراد، دريسدن، وارسو وغيرها أثناء الحرب العالمية الثانية، هانوي في فيتنام خلال الحرب التي شنتها أمريكا على هذا البلد، بيروت وغزة بسبب العدوان الإسرائيلي المتكرر. بإختصار، الحروب وما يرافقها من دمار ومجازر وقتل هي ظواهر ثابتة منذ أقدم العصور وحتى يومنا هذا وأغلب الظن أنها سوف تستمر إلى أجل غير مسمى، أي: لا جديد تحت الشمس.
شكرا لعلماء السياسة من أفلاطون وحتى آخر بروفيسور في أية جامعة ولعلماء الاجتماع من إبن خلدون وحتى يومنا هذا ولعلماء النفس من فرويد وإلى هذه اللحظة الذين حاولوا كل على طريقته تغيير هذه المقولة: الحروب، القتل، المجازر والدمار لن تتوقف. يمكن توقع حدوثها أحيانا، الحد من أضرارها، السيطرة عليها قبل أن تبلغ ذروتها، أو تأجيل وقوعها.  تماما كما نتعامل مع بعض الظواهر الطبيعية كالبراكين والهزات الأرضية والفيضانات والحرائق. ولكن أن تنتهي تماما؟ إنسوا.
يوجد في أيامنا هذه بوادر تشير إلى تفاقم الوضع وزيادة احتمالات نشوب المزيد من الحروبات والقتل. ينتج نظام العولمة الرأسمالي المزيد من الميول العدوانية وينتج في الوقت نفسه من يحمل ويتبنى هذه الميول التي يتم ترجمتها إلى حروب وأعمال قتل. سميت هذه الميول باليمين المتطرف، النازية الجديدة، الفاشية ومهما كانت تسميتها فإنها تحمل الصفات ذاتها. في بلادنا اليمين الصهيوني المتطرف يحكم منذ فترة طويلة، الولايات المتحدة الأمريكية اختارت رئيسا يمينيا عنصريا من غير قناع، على أوروبا تهب رياح يمينية عنصرية على غرار الرياح التي جلبت النازية والفاشية في القرن الماضي، خروج بريطانيا من الاتحاد الأوروبي جاء بسبب هذه الرياح، ولكنها تهب أيضا في فرنسا وإيطاليا وألمانيا وهولندا ودول أخرى. بوتين والمافيا التي تحيط به سبق الأوروبيين بخطوات واسعة في هذا الاتجاه. وبما أنه نظام عالمي ولكي لا أظلم أحدا هذه الرياح تهب على الدول النامية أيضا، على سبيل المثال لا الحصر، انتخب قبل نصف سنة رئيس جديد في الفلبين يفتخر بقتل متهمين في إطار ما يسميه محاربة الجريمة ومنذ انتخابه قتلت شرطته 2000 متهم دون أية محاكمة وقتل أكثر من 3000 آخرين من قبل مجهولين في وحدات خاصة لها علاقة بالرئيس الجديد. هل يدري هذا الرئيس الذي يحارب الجريمة بأنه هو المجرم رقم واحد في الفلبين؟
لماذا لا يوجد هناك رد شعبي ملائم لمواجهة هذه الجرائم؟ لانه قبل الشروع في اقترافها تقوم الطبقات والفئات الحاكمة بتمهيد الطريق وتهيئة الظروف لكي تبدو هذه الجرائم وكأنها شيء عادي ومن يتعرض لها يستحقها. في بلادنا مثلا، قوة نتنياهو، ومن حوله أحزاب اليمين الصهيوني، مستمدة من نجاحه في عملية مسح دماغ للمواطن العادي بأن كل فلسطيني هو إرهابي، إذا لم يكن بالفعل فبالقوة، ويجب في جميع الأحوال نبذه والحذر منه، وإذا قتل فلا بأس إذ من الطبيعي قتل الإرهابيين ومن الطبيعي أيضا قتل أو هدم بيت عائلته. في أوروبا، تنبع قوة اليمين المتطرف تنبع من اعتبار المهاجرين، اللاجئين والغرباء أعداء جاؤوا لسلب المواطنين الأصليين والاستيلاء على أعمالهم وثرواتهم وتلويث بيئتهم الاجتماعية. قوة الرئيس الأمريكي المنتخب، ترامب هي الأخرى جاءت نتيجة لحملته العنصرية ضد المهاجرين وبالاساس المسلمين والمكسيك. في حلب، قوة النظام، بالإضافة للقوة المستمدة من حلفائه الروس والإيرانيين وباقي المليشيات جاءت من إقناع بعض الفئات بأنه يحارب إرهابيين جاؤوا من كل أرجاء العالم كجزء من مؤامرة كونية. عندما تجرد الإنسان من إنسانيته يصبح قتله أمرا عاديا ولكن من يجرد أحد من إنسانيته لا ينتبه أنه في الوقت ذاته يجرد نفسه من إنسانيتها.  نظرة سريعة لكل هؤلاء يتبين بكل وضوح أنهم يشكلون معسكرا واحدا هو المسؤول عن الحروب والقتل والدمار في العالم.

ما تستطيع القوى المتنورة التي لم تفقد إنسانيتها فعله هو العمل الجاد  لتفكيك هذا المعسكر واضعافه من خلال محاربة العنصرية بكافة أشكالها وفي كل مكان.

Thursday, December 08, 2016

هذا إغتصاب وليس تمثيلا

هذا إغتصاب وليس تمثيلا
علي زبيدات - سخنين

صدمت مثل الكثيرين غيري عندما قرأت خبر ومن ثم شاهدت المقابلة التي اعتراف بها المخرج العالمي برناردو برتولوتشي بأن مشهد الاغتصاب في فيلم "التانغو الاخير في باريس" لم يكن تمثيلا بل كان عملية اغتصاب حقيقي تم الاتفاق عليها بين المخرج والممثل الشهير مارلون براندو بدون علم الممثلة الشابة ماريا شنايدر، وذلك لأنه أراد، حسب تصريحه "رؤية مشاهد الإذلال الصريحة على وجه الممثلة وهي تبكي وتصرخ بشكل حقيقي وليس بإداء تمثيلي".
قلت صدمت، ولكني لم اتفاجأ، فقد شاهدت هذا الفيلم قبل أكثر من أربعين سنة وما زلت أذكر شعوري الشديد بالقرف والاشمئزاز من هذه اللقطة التي روجت لها وسائل الإعلام الفنية  على اعتبار أنها أجرأ لقطة فنية في تاريخ السينما. كنت في ذلك الوقت من عشاق السينما وكان مارلون براندو من الممثلين المفضلين لدي حيث قدم في تلك الفترة فلم العراب  وقبلها العديد من الأفلام الجيدة. كنت في ذلك الوقت لا أعير المخرج تلك الأهمية الكبيرة مع معرفتي بأن المخرج هو المسؤول الأول والأخير عن الفلم. وذلك لأن المخرج لا يظهر عادة على الشاشة مما يسرع في نسيانه بالنسبة للمشاهد العادي. بالرغم من ذلك كنت على معرفة بشهرة هذا المخرج بعد أن شاهدت في الفترة ذاتها أحد أفلامه السياسية الرصينة بإسم "the conformist"
يبدو أن عمليات الاغتصاب التي تخلط بين الحقيقة والتمثيل لا تحدث  فقط  بالافلام، بل تحدث يوميا في السياسة أيضا وفي جميع أرجاء العالم. وها هنا بعض النماذج: لنبدأ بالأمم المتحدة، استعمال حق الفيتو من قبل الدول العظمى أليس نوعا من الاغتصاب؟ ولكنه يبدو للمشاهد في الوقت نفسه نوعا من التمثيل؟. الاعتداءات المتكررة للدول القوية على الدول الضعيفة والتدخلات في شؤونها الداخلية أليست هي الأخرى عمليات اغتصاب مستمرة ومتكررة؟ ولكن، عندما يعرضونها علينا على شاشة التلفزيون ألا تبدو وكأنها تمثيل؟.  الحرب في سوريا هي من جهة عملية إغتصاب جماعي يشارك بها أكثر من مخرج وأكثر من ممثل ولكننا نشاهدها من جهة أخرى وكأننا نشاهد  فيلم رعب فاغرين أفواهنا غير مصدقين ما نراه أمامنا. فنتساءل: هل هذا الدمار حقيقي؟ وهل هذه الجثث التي يتم اخراجها من تحت الأنقاض حقيقية؟ أم أن كل شيء تمثيل بتمثيل؟  يقتلون ارهابيين ولكنهم يخرجون جثث أطفال من بين الردم.  في الأفلام فقط تستطيع رؤية مشاهد كهذه. ومن يدري؟ فهناك اتهامات موجهة لقناة الجزيرة بأنها تملك استوديو خاص لتصوير مثل هذه الأفلام وبثها على أنها حقيقة لأسباب سياسية. وربما توجد قنوات أخرى تملك مثل هذه الاستوديوهات مثل البي بي سي، السي سي إن، روسيا اليوم، الميادين، وإن ننسى فلا ننسى استوديوهات داعش التي أخرجت  أفضل أفلام الرعب والاغتصاب تشويقا، تستحق أن تنال على بعضها جائزة الأوسكار  أو على الأقل جائزة مهرجان كان السينمائي.  وما يحدث في العراق واليمن وتونس ومصر وليبيا  يدخل أيضا في خانة الاغتصاب على الطريقة " الحقيقة التمثيلية" إذا صح التعبير. ولماذا نذهب بعيدا؟ ألم يكن مؤتمر فتح السابع في رام الله عملية إغتصاب "حقيقية تمثيلية" فريدة من نوعها حدثت داخل العائلة؟  اما دولة اسرائيل فلم تتوقف ولم تكتف بالاغتصاب الكبير عام 1948 فها هي تمارس االاغتصاب يوميا على الحواجز المنتشرة في كل مكان في الضفة الغربية، وراء جدار الفصل العنصري وفي كل مستوطنة ومستوطنة.  والعالم يصفق لها قبل وبعد كل عملية اغتصاب على طريقة فيلم جودي فوستر الشهير "المتهم"، وحتى أنه لا يعتبرها أعمال تحرش على الأقل.
هكذا إذن، في جميع هذه الحالات يتفق المخرج مع البطل الرئيسي للفيلم على الاغتصاب ويترك الممثلة المسكينة تظن وكأنه تمثيل بالرغم من أن شعورها بالإذلال والبكاء والصراخ هو حقيقي. السؤال الذي يطرح نفسه هنا: من تعلم من من؟ هل تعلم برتولوتشي وبراندو من السياسيين أم السياسيين هم الذين تعلموا منهما؟ الممثلة الضحية ماريا شنايدر ماتت وهي تكره المخرج وبطل الفيلم حسب اعتراف المخرج نفسه،  ذلك بدون أن يعترف أمامها بحقيقة ما صنعه.  وماذا عن ضحايا الاغتصاب الآخرين من شعوب وأفراد والذين ما زالوا على قيد الحياة؟ أما آن الأوان لكي يصغوا إلى شعورهم الحقيقي ويضعوا حدا فاصلا بين الاغتصاب والتمثيل؟.

أخطر ما في الأمر، عندما أجاب المخرج على سؤال موجه إليه من قبل الصحفي الذي اجرى المقابلة: هل ندمت على ما فعلته حينذاك (بعد أكثر من 40 عاما)؟ فأجاب: لا، لم أندم ولكني شعرت بالذنب.  ألا يبدو هذا الجواب مألوفا؟  يقتلون كما يطيب لهم ولا يندمون ولا يعترفون بالجريمة بعد أن حققوا مطالبهم. الشعور بالذنب أهون ويوجد مائة طريقة  لا تكلف الكثير للتعبير عن هذا الشعور. ونحن في هذه البلاد لدينا تجربة طويلة وغنية بالتعامل مع الذين "يشعرون بالذنب" ولكنهم لا يندمون على ما اقترفوا من عمليات اغتصاب.

Thursday, December 01, 2016

الشاطر والمشطور وفلسطين بينهما

الشاطر والمشطور وفلسطين بينهما
علي زبيدات سخنين

لا أدري إذا كانت الحكاية التي تروى عن مجمع اللغة العربية الذي اقترح ترجمة كلمة ساندويتش الانكليزية بعبارة:"الشاطر والمشطور وبينهما طازج" هي حقيقية أم هي نكتة من باب السخرية بهذا المجمع روجها بعض الكتاب المغرضين. ولا أدري على وجه التحديد إذا كان هناك وجه شبه بين هذه الحكاية (النكتة) وبين موضوع هذه المقالة سوى اقتباس بعض الكلمات الواردة في العنوان والتلاعب بها.
تواريخ ثلاثة يحتويها شهر نوفمبر/تشرين أول تلخص وتجسد، حسب رأيي، أكثر من غيرها المأساة الفلسطينية: في بداية الشهر وفي منتصفه وفي نهايته، وتحديدا في الثاني من الشهر - ذكرى وعد بلفور، في ال15- ذكرى الاستقلال وفي ال29 - ذكرى التقسيم. زمنيا جاء "الاستقلال" بعد 71 سنة من وعد بلفور و 41 سنة بعد قرار التقسيم ولكن عمليا ومن حيث ترتيب إحياء الذكرى جاء هذا "الاستقلال"  مضغوطا بين الوعد والقرار، بين الشاطر والمشطور ولكن مع فارق جوهري مع العبارة المنسوبة لمجمع اللغة العربية: ما بين الشاطر والمشطور ليس طازجا أو كامخا، حسب بعض الروايات، بل مزيج من الأوهام البائتة وحتى الفاسدة.
لست هنا بصدد سرد تاريخي لهذه الأحداث الثلاثة أو تحليلها وتقييمها، فقد سال حبر كثير في الكتابة عنها تناولت كافة جوانبها ولا أظن أنه باستطاعتي في هذا المجال كتابة أو إضافة ما هو جديد. كل ما اطمح اليه هو أن أوفق في التعبير عن دهشتي في كل شهر نوفمبر من كل سنة في ذكرى هذه الأحداث الثلاث.  لم التق، حتى اليوم، بفلسطيني واحد مهما كان انتماؤه التنظيمي ووعيه السياسي يحب وعد بلفور. وأكاد أجزم، حتى المتعاونين مع الصهيونية فكرا وممارسة، قبل قيام دولة إسرائيل وبعدها، لا يجدون كلمة واحدة يمتدحون بها هذا الوعد بل يشمئزون منه هذا لإجحافه ودناءته بكل المقاييس المتعارف عليها.  ما عجزت عن فهمه طوال هذه المدة تلك المفارقة والانفصام في شخصية الفلسطينيين والعرب عموما الذين يرفضون وعد بلفور جملة وتفصيلا وفي الوقت نفسه يلهثون وراء تسويات وحلول أسوأ من وعد بلفور بدرجات.  نموذج واحد،على سبيل المثال لا الحصر، كيف يجرؤ رئيس السلطة الفلسطينية مقاضاة بريطانيا ومطالبتها بتقديم الاعتذار عن هذا الوعد بينما هوعلى أتم الاستعداد للقبول بتسوية أقل بدرجات مما نص عليه هذا الوعد.
قرار التقسيم هو الآخر استقبل بالاستنكار والغضب من معظم طبقات الشعب. الحزب الشيوعي الفلسطيني الذي أصبح فيما بعد الحزب الشيوعي الإسرائيلي كان التنظيم الوحيد الذي وافق على هذا القرار بالرغم من معارضته للتقسيم طوال سنوات حتى أتته الأوامر من موسكو بالرضوخ. وقد دفع ثمنا باهظا مقابل موافقته من نبذ وعزلة وحتى التخوين ولم تشفع له نضالاته السابقة. ما زالت الجماهير الشعبية الفلسطينية في قرارة نفسها تمقت وترفض هذا القرار الذي يفتقر إلى أبسط معايير العدالة. إذ كيف يعقل قبول التنازل عن أكثر من نصف الوطن لمجموعة من المستوطنين لا تتعدى ثلث السكان الأصليين؟ إلا أن القيادة الفلسطينية، مستغلة صمت الجماهير الشعبية ومن خلال لهثها وراء أي حل يؤمن لها بعض السلطة وبعض الامتيازات انتهت إلى التحسر على قرار التقسيم مما حدى للموافقين في حينه أن يرفعوا رؤوسهم قائلين: ألم نقل لكم؟ ألم نحذركم من مغبة رفضكم لقرار التقسيم؟ لقد كان بالإمكان إنقاذ ما يمكن إنقاذه  لأن حزبنا يتمتع ببعد النظر وقد أدرك أبعاد المؤامرة، لقد أضعتم فرصة العمر. والان يتفق الجميع على قبول أقل من نصف ما عرضه عليهم قرار التقسيم. واكثر من ذلك، بذلوا كل جهدهم لمحو قرار التقسيم من الذاكرة الفلسطينية بعد أن حولوه بناء على وعود سرابية من قبل ما يسمى المجتمع الدولي إلى "يوم التضامن العالمي مع الشعب الفلسطيني". أي تضامن هذا؟ وأين هو؟
بين هذين الحدثين (الوعد والقرار)  خدعونا أو على الأصح خدعنا أنفسنا وسمحوا لنا بالاحتفال بيوم الاستقلال. في عام 1988 أصدرنا وثيقة إستقلال حيث لطش شاعرنا القومي معظم أفكارها من وثيقة الاستقلال الإسرائيلية، ووقف رمزنا الوطني وهو يعلن الاستقلال وقفة بن غوريون عندما أعلن عن "استقلال" إسرائيل. من أجل ذلك تم إجهاض الانتفاضة الأولى بحجة استثمارها سياسيا، وتم الاحتفال باعتراف 135 دولة بهذا الاستقلال الوهمي، حتى الأمم المتحدة اعترفت بها إلى حد ما وازداد عدد السفارات الفلسطينية في قارات العالم. على حد علمي هذا هو الاستقلال الوحيد في العالم وفي التاريخ القديم والحديث حيث يستطيع جندي معفن واحد أن يدوس ببسطاره العسكري عليه ويتابع سيره دون أي احتجاج.

في كل نوفمبر من كل سنة يوجد أمامنا مأساة وخلفنا مأساة وبينهما فرحة مزيفة. أما آن الأوان لهذا المسلسل التراجي-كوميدي العدمي أن ينتهي؟

Thursday, November 17, 2016

أقلية قومية؟ لأ شكرا

أقلية قومية؟ لأ شكرا
علي زبيدات - سخنين

ليس كل ما يريده النائب في الكنيست جمال زحالقة جيد للفلسطينيين وليس كل ما ترفضه الوزيرة أيليت شاكيد سيء للفلسطينيين. قدم النائب زحالقةمؤخرا، وخلفه باقي نواب القائمة المشتركة وبتأييد من اعضاء حزب ميرتس الصهيوني اليساري، مشروع قانون اساس "الاقلية القومية العربية". الوزيرة شاكيد وخلفها باقي اعضاء الكنيست من الائتلاف والمعارضة عارضوا هذا القانون. وأعادت الوزيرة بهذا الصدد إلى أذهاننا ما قالته الوزيرة السابقة تسيبي ليفني قبل سنوات: "من يريد حقوق قومية فليذهب للدول العربية". لا اريد هنا أن اخوض بعنصرية شاكيد ونواياها الخبيثة هي وزملائها التي تكمن وراء رفضهم لهذا القانون "الدستوري" ، فالعنصرية والخبث من طرف هؤلاء ليست ضمانا أو معيارا لصحة مواقف الطرف الآخر.
قضية الاعتراف بفلسطينيي المناطق الفلسطينية المحتلة عام 1948كأقلية قومية هي قضية قديمة  طرحت مرارا وتكرارا في محافل عديدة ولا أدري ما الذي اعادها لكي تطفو على السطح في هذه الايام بالذات. لقد طرحت، لمن يذكر، قبل عدة سنوات في "التصور المستقبلي" الصادر عن لجنة المتابعة بالتعاون مع عدد من الاكاديميين. وأعيد طرحها في "وثيقة حيفا" الصادرة عن مركز مدى الكرمل، وبعد ذلك في مشروع جمعية عدالة كأقتراح ل"دستور ديمقراطي". وقد كتبت في وقته ردودا تعبر عن موقفي الرافض لهذه الاقتراحات. وبالرغم من أن استعمال مصطلح "أقلية قومية" أصبح واسع الانتشار خصوصا بين نواب الكنيست العرب ورؤساء البلديات وعدد من الاكاديميين الا انه لم يطرح امام المؤسسة الاسرائيلية كمطلب للفلسطينيين حتى قدمت االقائمة المشتركة اقتراح قانونها الاخير الذي تم رفضه جملة وتفصيلا من كافة التيارات الصهيونية الاساسية مما حدا بي أن أعود للتذكير بموقفي السابق.
لا يوجد هناك في هذا العالم بلد واحد يخلو من الاقليات: اقليات قومية، إثنية، دينية، ثقافية، جنسية، اجتماعية وغيرها.  في الوقت نفسه لا يوجد هناك تعريف واحد متعارف عليه دوليا للمصطلح أقلية قومية كما لا يوجد هناك قانون دولي شامل وواضح يحدد حقوق الاقليات. كل ما هنالك نوع من التوافق على ان الحقوق الجماعية للاقليات هي جزء من حقوق الانسان العامة التي تنادي بعدم التمييز والمساواة أمام القانون. في هذا السياق لا يوجد هناك أية امتيازات للاقليات القومية على الاقليات الاخرى. طبعا هذا اذا افترضنا جدلا ان حقوق الانسان تحترم في كل مكان وزمان، في الواقع هذا الامر غير متوفر في أي مكان وأي زمان.
لندع بعض الاحصائيات والارقام تتكلم: حسب الاحصائيات الاسرائيلية الاخيرة يبلغ عدد اليهود في البلاد (الاغلبية) 6.377 مليون شخص. بالمقابل يبلغ عدد الفلسطينيين 12.370مليون شخص فأين الاغلبية وأين الاقلية في هذه الحالة؟ صحيح، نحن حاليا مشتتون وارضنا محتلة ولكننا نصر على اننا شعب واحد، أليس كذلك؟ ونرفض الامر الواقع ونناضل من أجل تغييره جذريا، من أجل التحرير ولم الشمل والعودة. فإذا أراد  أي جزء من الشعب الفلسطيني الاعتراف به كاقلية، فهذا ممكن ولكن عليه أولا أن يتخلى عن  اصراره على أنه يشكل شعبا واحدا وأن يكف عن المطالبة بلم الشمل والعودة.  المطالبة بالاعتراف بنا كأقلية قومية تعني الرضوخ للامر الواقع بما فيه من تهجير وتشريد، اما مطلب التواصل واعتراف الدولة بالعلاقة الخاصة بين "الاقلية والشعب الفلسطيني والعربي" كما ينص عليه مشروع القانون  فهو ليس أكثر من ذر الغبار في العيون ولا يغير من الامر شيئا.  وإذا اعتبرنا انفسنا جزءا من الامة العربية، ونحن كذلك شئنا ذلك أم أبينا، حتى وان كانت موزعة حاليا على 22 دولة فاننا نصبح 370 مليونا. أي أكبر ب60 مرة من "الاغلبية".
وهناك جانب آخر: إذا كنا أقلية قومية فمن هي الاغلبية القومية؟ اليهود؟ ألا ندعي بأن اليهودية دين وليست قومية؟ وهي منتشرة في أماكن عديدة من أرجاء العالم. اليهود الاسرائيليون؟ ولكنهم يرفضون أن تكون قوميتهم اسرائيلية. البلدان التي قدموا منها؟ أي انهم في الحقيقة مجموعة من القوميات: روس، اثيوبيين، مغاربة، يمنيين، رومانيين وهلم جرا، في هذه الحالة أيضا يشكل الفلسطينيون الاغلبية حتى في حالة القبول بواقع التهجير والتشريد.
الخلاصة، مطالبة الدولة الاعتراف بنا كأقلية قومية ليست انتزاعا للحقوق بل هي على العكس من ذلك تماما  تفريط بالحقوق. من أجل الحفاظ على كرامتنا الوطنية والقومية والانسانية ينبغي أن نرفض العيش وعلى جباهنا  ختم الأقلية. في مجتمع مستقل تسوده الحرية والمساواة تصبح الاقلية والاغلبية مجرد مصطلحات ميتافيزيقية فارغة من أي معنى.


Wednesday, November 09, 2016

إرهاب أم حرب على الإرهاب؟

إرهاب أم حرب على الإرهاب؟

علي زبيدات - سخنين

عندما شن جورج بوش حربه التي اشتهرت تحت اسم الحرب العالمية على الإرهاب كان واضحا منذ البداية أن الأهداف الحقيقية لهذه الحرب لم تكن ملاحقة ومعاقبة الإرهابيين الذين نفذوا عمليات 11 سبتمبر في نيويورك وواشنطن. الأهداف الحقيقية كانت احكام السيطرة الأمريكية على المنطقة بشكل عام وعلى المناطق التي تحتوي على أكبر احتياطي للنفط بشكل خاص، بالإضافة إلى حماية دولة إسرائيل بصفتها حليف استراتيجي. ومن هنا بدأ احتلال أفغانستان ومن ثم العراق وتكثيف التدخلات في الشؤون الداخلية لباقي الدول في المنطقة.
لا يوجد هناك تعريف واحد متعارف عليه دوليا للإرهاب، ولكن إذا أخذنا تعريف القانون الجنائي الدولي الذي اعتمدته المحكمة الجنائية الدولية والذي يمكن تلخيصه بأنه استعمال العنف أو التهديد باستعماله من قبل افراد او مجموعات او حتى دول ضد المدنيين من حيث الأساس لزرع الرعب والخوف في صفوفهم من أجل تحقيق مآرب سياسية، كنقطة انطلاق وكمعيار لتقييم السياسة الأمريكية لوجدنا ان أمريكا تفوقت على كافة المجموعات الارهابية مجتمعة. فإذا أسفرت غزوة بن لادن على نيويورك عن 3000 ضحية معظمهم من المدنيين فإن  غزوة جورج بوش الابن للعراق أسفرت لوحدها عن مقتل مليون ونصف مليون ضحية غالبيتهم العظمى من المدنيين. وإذا كان هدف الإرهاب زرع الرعب والخوف في صفوف المدنيين بواسطة استعمال العنف أو التهديد باستعماله لتحقيق مآرب سياسية، أليس هذا هو جوهر وغاية السياسة الأمريكية؟
يعترف بعض الباحثين، في سياق تصنيفهم للإرهاب، بأنه يصدر بشكل فردي أو بشكل جماعي غير منظم أو بشكل جماعي منظم أو إرهاب صادر عن الدولة، ولكنهم سرعان ما يتناسون هذا الصنف الأخير المسؤول، حسب رأيي، عن 90% على الأقل من الإرهاب في العالم  ويقتصرون في تحليلاتهم على الإرهاب الصادر عن أفراد أو مجموعات هامشية منظمة كانت أو غير منظمة. هكذا حصل إرهاب الدولة على نوع من الشرعية في أعين القانون الدولي والمحاكم الدولية بل في أعين بعض منظمات حقوق الإنسان الدولية أيضا.  فالجندي المدجج بالسلاح يتمتع بالحصانة حتى عندما يطلق نيرانه على مجموعة من المدنيين ويرديهم كلهم أو بعضهم بين قتيل وجريح، بينما الفرد الذي يرمي دبابة بحجر لانها تدمر حياته يوميا فهو ارهابي وقتله مباح. تستطيع الدولة أن ترسل إحدى طائراتها الحربية مزودة بصاروخ متطور أو قنبلة ذكية وزنها طن أو تحمل برميلا من المتفجرات وتدمر بناية كاملة أو عدة بنايات وفي بعض الأحيان أحياء كاملة او مدن كاملة بحجة وجود إرهابي أو أكثر، وتقتل ما تيسر من المدنيين ومن ثم تسجل على إنها عملية للدفاع عن النفس.
يصل إرهاب الدولة إلى أعلى مستوياته والى ابشع صوره عندما يقترن بايدولوجية رجعية وينظرة عنصرية للآخر كما هو الحال في بلادنا. في الفكر الصهيوني (الإسرائيلي) كل فلسطيني هو ارهابي إذا لم يكن بالفعل فبالقوة. فالطفل الفلسطيني هو ارهابي بالقوة لانه سوف يصبح ارهابي بالفعل عندما يكبر، وفي كثير من الأحيان لا يوجد حاجة لانتظاره حتى يكبر، فإذا حمل سكينا أو حجرا في مواجهة جندي إسرائيلي فيمكن إطلاق النار عليه وقتله وتقوم وسائل الإعلام الإسرائيلية بوصف الحادث على أن محارب إسرائيلي قتل أو (حيّد) مخربا أو إرهابيا فلسطينيا. وهكذا أصبح الطفل أحمد مناصرة إرهابيا خطيرا بينما أصبح الجنود الذين لاحقوه محاربين ونالوا الاوسمة. لا تقتصر هذه النظرة على المؤسسة العسكرية بل تنضم إليها المؤسسة القضائية وتحكم عليه 12 عاما في السجن (كل سنة من حياته يقابلها سنة سجن). وهكذا تصبح هديل وأشرقت اللتان قتلن بدم بارد مثلهن مثل عشرات الشهيدات، إرهابيتين خطيرتين.
صدّرت دولة إسرائيل هذه النظرة: إرهاب الدولة ممزوجا بأيديولوجية عنصرية الى دول العالم. وكان أول من استوردها واستعملها كما أسلفت الرئيس الأمريكي جورج بوش وها هو الرئيس الجديد دونالد ترامب قد تبناها كمرشح وتعهد بأن يطورها ويزيد من استعمالها.
الأهم من ذلك كله أن الأنظمة العربية من غير استثناء هي الأخرى قد تبنت هذه الايديولوجية بحذافيرها. لم يعد مصطلح الإرهاب (الفلسطيني، العربي، الإسلامي) حكرا على إسرائيل وأمريكا والدول الغربية بل أصبح كل معارض لأي نظام عربي ارهابيا. بالنسبة لهذه الأنظمة لا يوجد هناك معارضة أصلا شرعية كانت أم غير شرعية، يوجد هناك: اما ولاء وإما ارهاب. والإرهاب يعني حق الدولة في الملاحقة حتى التصفية الجسدية.

لقد آن الأوان أن نشير بأصابع الاتهام الى الارهاب الحقيقي، إرهاب الدولة ويجب توحيد النضال لمحاربة هذا الارهاب والانتصار عليه عن طريق الوقوف إلى جانب قضايا الشعوب العادلة وحقهم في الحرية والاستقلال.

Thursday, October 27, 2016

الدولة العظمى الرقمية الاولى في العالم

الدولة العظمى الرقمية الاولى في العالم
علي زبيدات – سخنين

لسذاجتي، بالرغم من اهتمامي الشديد بالسياسة المحلية والاقليمية والعالمية منذ نعومة اظافري، كنت أظن ان الدول التي فازت بلقب دولة عظمى فازت به حسب المعايير المتعارف عليها دوليا، أي حسب مناعتها الاقتصادية، تطورها الصناعي، قوتها العسكرية، مستوى معيشة سكانها، حجمها من حيث المساحة والسكان.بالطبع مع عدم اغفال معايير ثانوية اخرى تساهم في منح دولة معينة لقب دولة عظمى. في العصر الحديث انطبقت هذه المعايير على الولايات المتحدة الامريكية لذلك استحقت لقب الدولة العظمى رقم واحد. وبعد قيام الاتحاد السوفياتي وتقدمه العسكري السريع والاقتصادي وتأثيره السياسي ودخوله في منافسة شرسة مع امريكا، استحق هو الاخر بجدارة لقب دولة عظمى. وهذا الامر لم يتغير كثيرا بعد انهيار الاتحاد السوفياتي ونشوء روسيا الحديثة التي كانت اصلا المكون الاكبر في الدولة التي انهارت، وهناك دول عظمى اخرى تقف في الصف الثاني او الثالث ولكنها تزاحم من اجل تثبيت اقدامها في هذا النادي، اذكر منها الدول العظمى الثمانية- G8 والتي تشمل بالاضافة للدولتين المذكورتين كل من المانيا واليابان وفرنسا وبريطانيا وايطاليا وكندا، والتي تسيطر مجتمعة على اكثر من ٦٥٪ من اقتصاد العالم. ويوجد هناك دول اخرى يمكن اعتبارها حسب المعايير المذكورة انفا دولا عظمى كالصين، الهند، البرازيل، تركيا. والبعض يطلق على دولة اسرائيل بالرغم من صغر حجمها الجغرافي والسكاني دولة عظمى وذلك بالاساس بسبب قوتها العسكرية، تطورها التخنولوجي وتأثيرها الكبير على السياسة العالمية.
ولكني اكتشفت مؤخرا انه يوجد هناك دولة عظمى اخرى، لا تتمتع باي من المعايير السابقة، غير مرئية ولا احد يعرف كامل الحقائق عنها، لذلك سميتها بالدولة العظمى الرقمية الاولى في عالمنا، اما اسمها المتعارف عليه فهودولة الخلافة الاسلامية او باختصار دولة داعش. كيف اصبحت هذه الدولة التي لا يكاد عمرها يتجاوز السنتين تلك الدولة العظمى التي تقلق الامن والسلام العالمييين؟ ليس لدى هذه الدولة باعتراف اعدائها واصدقائها جيش جرار مدجج بالاسلحة الحديثة ولكنه مكون من عدة آلالاف تمت لملمتهم من بلدان عديدة، من يراهم عن بعد يظن بانهم متسولين وليسوا جنودا. وليس لدى هذه الدولة اقتصاد قوي أو صناعة ثقيلة. ان هذه "الدولة"ليس فقط انها لا تملك مقومات ومعايير الدولة العظمى بل هي لا تملك حتى مقومات ومعايير الدولة العادية. ومع ذلك شكلت امريكا بقيادتها تحالفا دوليا ضم ستين دولة عظمى أو عادية لمحاربتها ولانقاذ العالم من شرورها، وكأن هذا لا يكفي اذ قادت روسيا تحالفا دوليا آخرا شمل النظام السوري والايراني والعديد من الميليشيات المسلحة وشنت الحرب ضدها بهدف ازالتها من الوجود. حتى الدول العربية التي لا يحسب حسابها احد شكلت هي الاخرى تحالفا شمل ١٧ دولة عربية لمحاربة داعش وباقي المنظمات الارهابية. حتى في الحربين العالميتيين لم يكن هناك تحالفات موحدة كما نراه هنا.
هذه الظاهرة الغريبة العجيبة ذكرتني بفلم شاهدته قبل سنوات عديدة من بطولة آل بتشينو وهو ليس من افضل افلامه المعروفة، اسمه "سيمون"، من المفروض أن يكون فلما كوميدياعلى عكس باقي افلامه، ولكنه لم يضحكني حين ذاك ولم يضحكني الآن عندما تذكرته. يدور الفلم حول منتج تركته نجمة الفلم اثر خصام وكان عليه ان يجد لها بديلا بسرعة. ولكنه لم يوفق فقرر أن يخلق نجمة رقمية عن طريق الكمبيوتر وبعض البرامج تكون فائقة الجمال والذكاء والمواهب إلى درجة الكمال وقدمها للجمهور على انها نجمة حقيقية الذي سارع في تصديقها. وعندما حاول المنتج لاحقا أن يعترف بأن كل شيء مزيف لم يصدقه احد حتى هو نفسه بدأ يصدق بأن"سيمونا" امرأة حقيقية. يوجد فرقان رئيسيان بين سيمونا إل بتشينو وداعش الاول، هو أن المنتج خلق نجمة واحدة سماها سيمونا أما في حالة داعش فكل منتج خلق داعشه الخاص. يوجد داعش صنع امريكي وداعش آخر صنع روسي وآخر صنع سوري وسعودي واسرائيلي وهلم جرا. الفرق الثاني، أن النجمة سيمونا صممت في ستوديوهات منتج بواسطة برامج كومبيوتر بينما صممت داعش في غرف المخابرات االمظلمة لكل دولة. وبما ان المنتجين يختلفون من حيث المهارة والامكانيات فكانت النتائج ايضا مختلفة. يوجد نماذج قريبة للواقع ومن الصعب اكتشاف زيفها وبوجد نماذج مفضوحة. أظن، بما اني اكتشفت سذاجتي يستطيع كل واحد يكتشف سذاجته.فالحرب التي يدور رحاها في سوريا والعراق واليمن وليبيا وسيناء وفرنسا وغيرها لا يعقل أن تكون ضد داعش، وهذه التحالفات التي تدك المنطقة منذ سنتين على الاقل بحجة القضاء على داعش لا بد أن يكون لديها اجندة اخرى تحاول ان تبقيها سرية ولكن من غير نجاح كبير.
لم يبق امامي الا أن اقول: كل واحد يأخذ داعشه من هنا وبرحل.


Wednesday, October 19, 2016

عاشت الثورات الفاشلة - في ذكرى ثورة اكتوبر الاشتراكية في روسيا

Version:1.0 StartHTML:0000000167 EndHTML:0000009487 StartFragment:0000000454 EndFragment:0000009471
عاشت الثورات الفاشلة
في ذكرى ثورة اكتوبر الاشتراكية في روسيا
علي زبيدات – سخنين

طالما ترددت على مسامعي هذه الاسطوانة: اين هي الثورة الاشتراكية العظمى التي تتكلم عنها؟ ماذا بقي منها؟ ألم تفشل فشلا ذريعا بعد انهيار الاتحاد السوفياتي ذلك الانهيار الشامل الرهيب؟ وهل تستحق بعد كل ما حدث احياء ذكراها؟
بمعنى معين، كل الثورات التي عرفتها البشرية كانت ثورات فاشلة وفي معظم الحالات كان فشلها مأساويا وذريعا. ولنأخذ بعض الامثلة من التاريخ المعاصر: ماذا حل بالثورة الفرنسية الكبرى عام ١٧٨٩ والتي بعتبرها المؤرخون الثورة التي نقلت اوروبا من العصور الوسطى الى العصر الحديث؟ ألم تأكل الثورة ابناءها مباشرة بعد أن فصلت المقصلة رأس آخر ملك عن جسده؟ وسرعان ما تحولت الى امبراطورية بزعامة نابليون بونابرت الذي ورط فرنسا والقارة الاوروبية باكملها في حروب استمرت لاكثر من ربع قرن؟ والم تنته ثورة ١٨٣٠ في فرنسا الى عودة الملكية؟ وماذا حل بثورة ١٨٤٨ في فرنسا ودول اوروبية اخرى ألم تتحول الى ثورات مضادة ومع ذلك ما زلنا نطلق عليها بربيع الشعوب؟
ولماذا نذهب بعيدا؟ ماذا كان مصير الثورات، الحقيقية والمجازية، في عالمنا العربي؟ ماذا بقي من ثورة المليون شهيد في الجزائر؟ ولكن بالرغم من النظام الذي تمخضت عنه هذه الثورة فهل يعطي ذلك مبررا لاحد للدفاع عن الاستعمار الفرنسي؟. وماذا كان مصير ثورة الضباط الاحرار في مصر، وهي في عيون البعض ليست اكثر من انقلاب عسكري،والتي رفعت شعار الاستقلال الوطني، معاداة الاستعمار، الوحدة العربية، التنمية الاقتصادية والعدالة الاجتماعية؟ الم تتمخض في زمن السادات ومبارك إلى نقيض هذه الشعارات تماما وخصوصا الارتماء في احضان الامبريالية وعودة القطط السمان لحكم مصر؟ وهكذا في بلدان عربية اخرى مثل اليمن والسودان والعراق وسوريا، حتى اصبح كل انقلاب ثورة وكل انقلاب داخل الانقلاب ثورة تصحيحية. اما عن "الثورة الفلسطينية" في مرحلة سلطة اوسلو فحدث بلا حرج.
حسب هذا المعنى الذي ينسجم مع الموقف المذكور اعلاة فان كل الثورات التي ذكرتها والتي لم اذكرها قد باءت بالفشل. ولكن المعنى الحقيقي لهذه الثورات انها نجحت حتى بعد فشلها وحققت انجازات لا يستهان بها في مسيرة التطور الانساني. وهذه الانجازات لم تتحقق خلال الفترة الزمنية المحدودة اثناء الثورة بل امتدت الى بعد فشلها وفي اغلب الاحيان فرضت على اعدائها عدم النكوص الى الخلف والسير قدما حتى انفجار الثورة القادمة.
لنعد إلى ثورة اكثوبر الاشتراكية في روسيا: اهمية هذه الثورة التاريخية وما يميزها عن غيرها من الثورات يعود حسب رأيي لامرين٬ الاول، المحاولة الجادة الاولى للانتقال بالمجتمع البشري من مرحلة يسودها الصراع الطبقي والهيمنة الطبقية والعلاقات الاستغلالية إلى مرحلة خالية من الهيمنة الطبقية الاستغلالية وذلك ليس على الصعيد النظري فحسب بل على الصعيد العملي ايضا، ليس على صعيد الحلم فحسب بل على صعيد تحقيق الحلم وجعله واقعا. الامر الثاني: الاثبات ان ذلك ممكن من خلال تنظيم وتعبئة الجماهير الكادحة المستضعفة، وأن ذلك من الممكن أن يتكرر.
الثورة الاشتراكية "فشلت" ولم يحدث ذلك حسب رأيي في بداية سنوات التسعين مع انهيار الاتحاد السوفياتي. بل قبل ذلك بكثير، ربما في اليوم التالي من اعدام القيصر، وليس لانه لا يستحق الاعدام ولكن لعظم التحديات ولكون التجربة غير مسبوقة ولامور كثيرة اخرى ما زالت مصدرا لا ينضب للمؤرخين والمحللين الذين يدلون بدلوهم حتى اليوم.
من اجل الحلم الانساني بالعيش في مجتمع غير طبقي خال من الفوارق الاجتماعية والاقتصادية وخال من كافة اشكال الاستغلال والقهر، في مجتمع يستطيع ثورة اكتوبر. وان نتعلم هذه التجربة ليس بين صفحات كل فرد أن يقدم ما يستطيعه وأن يأخذ ما يحتاجه، يجب أن نبقى مخلصين لذكرى ثورة اكتوبر ولمبادئالكتب فحسب بل في الشوارع ايضا. ما حدث قبل حوالي قرن يمكن أن يحدث الآن ويمكن أن يحدث غدا، وليس هذا فحسب، بل يمكن أن يحدث بشكل افضل لاننا نعتمد على تراث ثوري عريق وتجارب ثورية رائدة نستطيع أن نتعلم منها، نصحح الاخطاء، نتخلص من نقاط الضعف ونحاول من جديد.
عاشت الثورات مهما كانت فاشلة، لان الفشل بعد استيعاب العبر والمثابرة سوف تتحول حتما إلى نجاح.


Wednesday, October 05, 2016

شاطر شاطر - تصفيق!

Version:1.0 StartHTML:0000000167 EndHTML:0000011171 StartFragment:0000000454 EndFragment:0000011155
شاطر شاطر – تصفيق!
علي زبيدات سخنين

في السياسة، كنا نسميها فيما مضى انتهازية، اما الان فقد اصبح اسمها شطارة. يعني، على سبيل المثال، تستطيع اليوم أن تقود مظاهرة وطنية وتلقي خطابا ناريا حول ضرورة التمسك بذكرى الشهداء الذبن سقطوا دفاعا عن كرامتنا، وفي اليوم التالي تقود وفدا من الوجهاء المتعاونين لتقديم العزاء لمن ساهم في قتل هؤلاء الشهداء وقتل الكثيرين غيرهم وتنعته بالرجل العظيم وذي رؤيا. لا، لا تغلطوا، من يقوم بذلك ليس انتهازيا، بل هو سياسي شاطر، يعرف م أين تؤ كل الكتف، أو باللغة الدارجة: يعرف كيف يدبر حاله. فالجمهور في المناسبة الاولى هو غير الجمهور في المناسبة الثانية، والحيثيات تختلف والجو العام يختلف. الجمهور الفلسطيني الذي اكتوى بنار العنصرية لسنوات طويلة ودفع مقابل ذلك ثمنا باهضا من دماء ابنائه يريد أن يسمع خطابات وشعارات تقنعه بان تضحياته لم تذهب سدى، فله لذلك. بالمقابل، الدولة التي فقدت آخر مؤسسيها تريد أن تسمع كم كان هذ الرجل المؤسس عظيما بعد أن أسس دولته على انقاض الشعب والارض الفلسطينية، فلها ذلك ايضا. الا يقول مثلنا الشعبي: بوس الكلب من فمه حتى تأخذ حاجتك منه؟المشكلة أن بوس الكلب من فمه قد طال ولم يأخذوا حاجتهم منه، حتى اصبحت زوجاتهم تنفر من رائحة افواههم.
حالة السياسة العربية بشكل عام والسياسة الفلسطينية بشكل خاص والداخل الفلسطينبي بشكل اكثر خصوصية تذكرني بقصة تروى عن جحا تلخص الحضيض الذي وصلت اليه هذه السياسة: يقال أن جارين لجحا قد تخاصما حول امر ما. جاء الجار الاول وسرد وجهة نظره امام جحا لعله يقف إلى جانبه. وبعد أن انتهى الرجل من حديثه قال له جحا: الحق معك يا جار. فخرج هذا مسرورا. وبعد فترة وجيزة دخل جاره الثاني وقص حكايته، فقال جحا للرجل: الحق معك يا جار، فخرج هو الاخر مسرورا. وكانت زوجة جحا تسمع ما يقال من خلف الستار، فخرجت غاضبة وقالت: هل تعرف يا جحا انك منافق؟ فقال لها: الحق معك ياامرأة. بالنسبة للاتهازي، آسف بالنسبة للشاطر، المبادىء مرنة إلى اقصى حدود المرونة. تستطيع أن تقول اليوم شيئا وتنقضه غدا. وتستطيع أن ترفض اليوم شيئا وتقبله غدا. لا يوجد هناك أية مشكلة ما دامت الفائدة المرجوة من ذلك قد وصلت. والمقصود بالفائدة في كافة الحالات هي الفائدة التي تعود على الشخص نفسه أو على الجماعة التي ينتمي اليها. دائما يوجد هناك تبريرات جاهزة للرفض أو للقبول، والكثير من هذه التبريرات جيدة ومتينة ومقننعة. فالشطارة تتطلب ايضا الديماغوغية والبرغماتية والواقعية والعديد من المصطلحات التي يتقننها السياسيون.
بما انني انتمي للدقة القديمة كما يقولون، سوف استمر باستعمال المصطلحات التي تربيت عليها. وسوف استمر في دعوة هذا التصرفات بالانتهازية ولا تمت للشطارة الحقيقية بمعنى الذكاء والحكمة والدهاء بأية صلة. ولن أبوس أي كلب من فمه لان حاجتى، وانا على يقين بان حاجة جماهير شعبنا ايضا، غير موجودة عند الكلاب اصلا. لذلك يجب الوقوف سدا منيعا في وجه موجة "الشطارة" هذه التي تكتسح المنطقة. بالمناسبة، انا لا اتكلم هنا عن الانتهازية البدائية التي تنتج انتهازيين صغار يلهثون وراء وظيفة هنا ومنصب هناك، وراء مبلغ من المال هنا والربح السريع هناك، ومن أجل ذلك يستقبلون هذا المسؤول بحفاوة أو يقيمون الولائم لذاك المسؤول. مثل هؤلاء ضررهم محدود ويعود في نهاية المطاف عليهم هم. ولكني اتكلم بالاساس عن الانتهازية المتطورة التي تنتج انتهازيين من العيار الثقيل، يستعملون اساليبا متطورة ومركبة من شأنها افساد وعي الجماهير وتفكيك لحمتها الوطنية. مثل هذه الانتهازية تشكل حطرا على القضية الفلسطينية برمتها وعلى كافة المستويات. مقاومة هذه الانتهازية حتى دحرها هو واجب وطني يقع على عاتق كافة المؤسسات والحركات والشخصيات الوطنية. قال لينين في هذا السياق قبيل تفجير ثورة اكتوبر الاشتراكية: "لقد نمت البلشفية وترعرعت واشتد عودها من خلال النضال ضد الانتهازية داخل الطبقة العاملة وداخل الحركة الثورية". تكمن خطورة هذه الانتهازية على مجمل العمل الوطني لانها تقبع بالذات داخل المعسكر الوطني وتنخر من داخله حتى تقوض اركانه.
النضال ضد الانتهازية السياسية لم يعد يتحمل اي تردد أو تلكؤ أو مهادنة لانها تغلغلت حتى الاعماق. وضع شعبنا الفلسطيني في الضفة وغزة ليس بافضل عن وضعنا. لقد آن الاوان أن نكف عن تسمية سلطة اوسلو حتى مجازا بالسلطة الوطنية. وعلى سلطة حماس في غزة ان تعلم ان للمقاومة استحقاقات وهي ليست شهادة ابدية تمنح لاي تنظيم. اما عن اوضاع شعبنا في الشتات واوضاع باقي الشعوب العربية فحدث بلا حرج. الانتهازيون اينما وجدوا يستحقون اللكمات وليس التصفيق.

Thursday, September 22, 2016

اين العرب على خارطة العالم؟

Version:1.0 StartHTML:0000000167 EndHTML:0000012766 StartFragment:0000000454 EndFragment:0000012750
أين العرب على خارطة العالم؟
على زبيدات – سخنين
من بين النتائج التي تمخضت عنها الحرب العالمية الثانية قيام معسكرين على صعيد السياسة العالمية، متنافسين ومتناقضين من جهة ومتعاونين من جهة اخرى. كانت التسمية الشائعة لهذين المعسكرين: المعسكر الرأسمالي بقيادة الولايات المتحدة الامريكية والمعسكر الاشتراكي بقيادة الاتحاد السوفياتي. طبعا، لم يخل هذا التقسيم العام من الاشكاليات خصوصا حول دور الدول الاخرى التي كانت معدودة على هذا المعسكر أو ذاك واذا كان هذان المعسكران يعكسان بالفعل وعلى ارض الواقع تسميتهما (الرأسمالي والاشتراكي) على الطايع الاقتصادي والاجتماعي والسياسي للدول المنضوية تحت كنفيهما. وقد تم التعارف على تسمية هذه الفترة بالحرب الباردة وكان من ابرز تجلياتها قيام حلف الشمال الاطلسي (الناتو) العسكري الذي يمثل المعسكر الاول وحلف وارسو الذي يمثل المعسكر الثاني. كانت الحرب الباردةتعكس العلاقة بين الدول المركزية في هذين المعسكرين ولكنها كانت حربا ساخنة في العديد من دول الاطراف حيث كانت تدور هناك العديد من الحروبات الطاحنة بالوكالة. على سبيل المثال لا الحصر الحرب الكورية والفيتنامية والحروب ضد الاستعمار القديم في افريقيا وامريكا اللاتينية. في مرحلة معينة بدأت بعض الدول تتذمر وتتململ من هذا التقسيم القاتل بالنسبة لها بينما توصلت الدول المتطورة في كلا المعسكرين إلى صيغة من التعايش السلمي في ظل الرعب والردع الذي فرضته الاسلحة النووية. فحاولت هذه الدول أن تنظم نفسها في معسكر ثالث سمي حركة عدم الانحياز. كان المؤتمر التأسيسي في باندونغ عام ١٩٥٥ بمبادرة من الزعيم الهندي نهرو والمصري جمال عبدالناصر واليوغسلافي تيتو. وخلال فترة وجيزة استطاعت حركة عدم الانحياز ضم العديد من دول العالم الثالث التي كانت تتوق للابتعاد عن اجواء الحرب الباردة. بعد وفاة القادة المؤسسين تراجعت اهمية هذه الحركة حتى تلاشت تماما مع انها ما زالت قائمة رسميا وتضم حوالى نصف دول العالم. اهمية المرحلة الاولى لحركة عدم الانحياز والتي امتدت لحوالي عقدين من تأسيسها، أن العرب ممثلين بالزعيم المصري جمال عبد الناصر في هذه المرحلة فقط كانوا موجودين على الساحة السياسية العالمية.
في بداية سنوات التسعين، مع انهيار الاتحاد السوفياتي، انهار معه المعسكر الاشتراكي وحلف وارسو وبقي هناك معسكر واحد مهيمن هو المعسكر الغربي الذي تقوده الولايات المتحدة الامريكية. في هذه المرحلة لعبت امريكا دور الشرطي العالمي بدون منازع فكانت تتدخل اينما تشاء وكيفما تشاء. الا ان هذه الفترة لم تطل كثيرا فقد بدأت الازمات الاقتصادية تعصف بها وبالدول المتطورة المتحالفة معها في اوروبا الغربية، هذا بالاضافة إلى سياسة التمرد على السياسة الامريكية التي اخذت تجرف العديد من دول العالم الثالث.
في بداية القرن الواحد وعشرين أخذت روسيا تعود لكي تملأ الفراغ الذي تركه انهيار الاتحاد السوفياتي. وبدأت تخوض منافسة شرسة مع امريكا وحلفائها. وها هو العالم يتم تقسيمه مرة اخرى الى معسكرين أعادا سياسة الحرب الباردة لأن رعب التوازن النووي يؤجل التصادم الساخن بين القوتين العظميين. وفي الوقت نفسه عادت الحروب الساخنة بالوكالة إلى الدول النامية. وقد اتاح هذا الصراع الشرس بين امريكا وروسيا وجود قوى اقليمية تنفذ سياسة احدى القوتين العظمى بما ينسجم مع مصالح الطبقات الحاكمة في تلك الدول. في منطقتنا العربية يوجد ثلاثة قوى اقليمية لا يوجد بينها اية دولة عربية. وهي: اسرائيل وايران وتركيا. لست هنا بصدد الكلام عن دولة اسرائيل كقوة اقليمية فقد نجحت منذ قيامها وحتى اليوم بأن تلعب الدور الحاسم في سياسة المنطقة بفضل جيشها الذي يعتبر رابع اقوى جيش في العالم وبسبب تطورها الصناعي والتخنولوجي والدعم الهائل الذي تتلقاه من امريكا والدول الاوروبية. ايران اصبحت القوة الاقليمية الثانية، ليس بفضل برنامجها النووي فحسب لان هذا البرنامج نفسه كان نتيجة لاستقرارها الداخلي وتطورها الاقتصادي واستغلالها لثرواتها الطبيعية ولنجاعة نظامها بالرغم من مساوئه السياسية والاجتماعية. وها نحن نراها تلعب دورا سياسيا حاسما في المنطقة وخصوصا في العراق وسوريا واليمن.
تركيا هي القوة الاقليمية الثالثة. فقد استطاعت في السنوات الاخيرة ان تقفز قفزة نوعية وخصوصا في المجال الاقتصادي واستقرار النظام بالرغم من الصراعات الطبقية والاثنية التي تعصف بها منذ وقت طويل. فنراها تتدخل في شوون الدول المجاورة وخصوصا في سوريا. واصبحت الدولة الاولى من حيث تأثيرها على قطاع غزة بفضل علاقتها الجيدة مع اسرائيل من جهة ومع حماس من جهة اخرى. التوافق الامريكي - الاوروبي - الروسي منح هذه الدول الثلاث مساحة واسعة لكي تلعب دور القوة الاقليمية.
مرة أخرى يغيب العرب تماما عما يجري في بلدانهم. تبقى مصر هي المرشحة العربية الوحيدة التي تستطيع أن تلعب دور القوة الاقليمية. جميع الظروف الموضوعية متوفرة من حيث عدد السكان والمساحة والموارد الطبيعية. العامل الذاتي هو العامل الغائب، أي النظام الوطني التقدمي. عندما كان هذا العامل متوفرا زمن عبد الناصر لم تكن مصر قوة اقليمية فحسب بل كانت زعيمة لحركة عدم الانحياز العالمية ايضا. غياب مصر على هذا الشكل الكارثي ترك الساحة لاقزام من امثال السعودية وقطر والامارات. مصر كانت وما زالت بوابة العرب للعودة الى خارطة العالم.

Wednesday, September 07, 2016

صبرا وشاتيلا أولا - أيلول يأتي قبل تشرين

Version:1.0 StartHTML:0000000167 EndHTML:0000011265 StartFragment:0000000454 EndFragment:0000011249
صبرا وشاتيلا أولا
ايلول يأتي قبل تشرين
على زبيدات – سخنين
لفت انتباهي خبر عادي قرأته بطريق الصدفة على احد المواقع الاخبارية المحلية يفيد بان المجلس العام للجنة المتابعة العليا سوف يناقش في اجتماعه الدوري القادم (غدا الخميس، عند نشر هذه المقالة سيكون الاجتماع قد انتهى) كيفية احياء ذكرى هبة القدس والاقصى بالاضافة لموضوعات اخرى. ونوه الخبر ذاته انه قد جرى اجتماع آخر قبل اسبوع بمشاركة وفد من ذوي الشهداء وتمت مناقشة هذا الموضوع ، ومن المفروض ان يطرح رئيس لجنة المتابعة محمد بركة تصورات سكرتارية لجنة المتابعة لشكل احياء الذكرى، مناقشتها واتخاذ القرار فيها.
من الجيد جدا تتمسك جماهيرنا باحياء هذه الذكرى للمرة السادسة عشرة بالرغم من كافة الانتفادات الموجهة لشكل احياء هذه الذكرى من اطراف وجهات عديدة. ولا انفي انني شخصيا من ضمن الذين يوجهون الكثير من الانتقادات. في الحقيقة، انتقاداتي نفسها تتكرر كل سنة تقريبا، حتى بدأت افكر بالتوقف عنها لانها تكاد تخلو من اي شيء جديد. كنت اتساءل دائمت: لماذا نصر على احياء ذكرى الشهداء الثلاثة عشرة بمعزل وبشكل منفصل عن ذكرى مئات الشهداء الذين سقطوا خلال الانتفاضة نفسه،ا في القدس والخليل ونابلس وجنين وغزة وتقريبا في كل مدينة وقرية فلسطينية؟ في الوقت الذي نؤكد فيه باننا جزء لا يتجزأ من شعب واحد وان قضيتنا واحدة؟. التساؤل الثاني الذي مان وما زال يقلقني واعبر عنه كل سنة تقريبا: لماذا نقفز عن احياء ذكرى ابشع مجزرة عرفها شعبنا في تاريخه المليئ بالمجازر؟، وهي مجزرة صبرا وشاتيلا والتي حدثت في ١٦-١٨ أيلول اي بفارق أيام قليلة عن ذكرى هبة القدس والاقصى؟ هل من الغريب ان تدرج اللجنة التمثيلية الاعلى لجماهيرنا احياء ذكرى هذه المجزرة على جدول اعمالها لمناقشتها واتخاذ القرار المناسب بشأنها؟ وإذا لم تفعل ذلك من تلقاء نفسها، فهل من الغريب مطالبتها بذلك؟ .
لست هنا بصدد الكلام بالتفصيل عما جرى في صبرا وشاتيلا في ايلول من عام ١٩٨٢، فقد كتبت المجلدات عن هذه المجزرة الرهيبة. بالرغم من ذلك ما زلنا نجهل الكثير مما جرى حقا. السؤال المهم هنا: ماذا بقى في وجداننا وفي ذاكرتنا الجماعية من هذه المجزرة؟ لا أظن اني ابالغ عندما اقول: لم يبق شيء يذكر. والا كيف يعقل ان تمر هذه الذكرى مرور الكرام وبشكل عابر ولا تهزنا من الاعماق وتخرجنا إلى الشوارع كما اخرجتنا في السنوات الاولى بعد وقوعها؟واذا كان الزمن هو المسؤول عن ذلك فلماذا ابقى هذا الزمن على ذكرى النكبة ويوم الارض وهبة القدس والاقصى؟ واليس من مهمات القيادة الوطنية ان تتحدى الزمن وتبقي الذكرى حية؟
اعتقد ان قرار احياء ذكرى وطنية وتناسي ذكرى وطنية اخرى هو في نهاية المطاف قرار سياسي. هناك قرار سياسي وراء التمسك باحياء ذكرى الشهداء الثلاثة عشر الذين سقطوا في بداية الانتفاضة الثانية بهذا الشكل المنعزل والخاضع لرقابة صارمة وبالمقابل القفز عن احياء ذكرى مجزرة صبرا وشاتيلا. قد يجد البعض تبريرات جيدة لذلك: الذكرى الاولى اقرب الينا جغرافيا واجتماعيا وسياسيا، اذ نعرف العائلات الثكلى شخصيا، وما زلنا نعاني يوميا من السياسة نقسها التي كان ابناؤنا ضحية لها. قد تفسر هذه التبريرات بعض الجوانب وقد تكون صحيحة بالنسبة لقطاعات واسعة من جماهيرنا ولكنها لا تفسر كافة الجوانب وخصوصا الجوهرية منها. حسب رأيي، بالنسبة لمتخذي القرارات، الامر ابعد من ذلك بكثير ويتعلق بالعلاقة الراهنة والمستقبلية من منظورهم بين الجماهير الفلسطينية والدولة. السؤال الاساسي الذي يقلق متخذي القرارات وقد عبروا عنه في مناسبات عديدة هو: كيف يعقل أن تطلق الدولة النار على مواطنيها؟ أي ان قلقهم الحقيقي يقتصر على "المواطنة" ومستقبلها. أن تطلق الدولة نيرانها على الفلسطينيين الاخرين هو أمر مدان ولكنه يحدث، ولكن أن تطلقها على مواطنيها؟ فهذا لا يجوز. من هذا المنطلق يكون من المسموح المطالبة بمحاكمة اليك رون أو غاي رايف ولكن لا تجوز المطالبة بمحاكمة شارون ورفول على دورهم في مجزرة صبرا وشاتيلا.
من المؤسف جدا ان محاكمة المجرمين في الحالتين أو على الاصح المطالبة بمحاكمتهم لم تسفر عن شيء. ذلك لان حال قيادتنا المحلية كحال قايدتنا على الصعيد الوطني تعيسة ويرثى لها. في هذه المناسبة وللتذكير فقط اذكر هنا بعض المسؤولين عن مجزرة صبرا وشاتيلا منهم من مات ومنهم من زال حيا، وأظن لأسف أن تقديمهم للمحاكمة في هذه الظروف هو آخر ما يقلق راحتهم: ١- أريك شارون ٢- رفائيل ايتان (رفول) ٣- ايلي حبيقة ٤- كوبرا روبير حاتم ٥- أمين جميل ٦- سمير جعجع ٧- اتيان صقر ٨- فادي افرام ٩- فؤاد ابو ناضر ١٠- سعد حداد ١١- وليد فارس ١٢- مارون مشعلاني

Thursday, September 01, 2016

المعتقدات الثابتة والثورات المتجددة

Version:1.0 StartHTML:0000000167 EndHTML:0000012332 StartFragment:0000000454 EndFragment:0000012316
المعتقدات الثابتة والثورات المتجددة
على زبيدات – سخنين
لم يكن الفيلسوف الالماني هيغل هو الاب الروحي للنظرية الجدلية ولم يكن كارل ماركس كذلك، هذا بالرغم من مساهمتهما الفذة في نقلها إلى ذروة تطورها في الفلسفة المعاصرة مما اهلها لان تلعب دورا حاسما في التاريخ الفكري للبشرية في القرنين التاسع عشر والعشرين. تعود جذورالنظرية الجدلية إلى قرون عديدة خلت، فنجدها باروع صورها في الفلسفة اليونانية القديمة وخصوصا عند هرقليطس وافلاطون. وقد لخصها الاول بمقولته الغنية عن التعريف:” كل شيء يجري (Panta rhei)، لا يمكن الدخول مرتين إلى النهر نفسه".
النظرية الجدلية باختصار شديد هي تلك النظرية التي تقول أن كافة الظواهر: الطبيعية، الاجتماعية، الاقتصادية، الفكرية وغيرها في حركة مستمرة وتطور مستمر وتتعامل معها من منطلق قوانين عامة تحدد العلاقة بين وحدة وصراع الاضداد وتفسر كيف تتحول التراكمات الكمية في مجرى تطورها إلى تحولات نوعية وكيف تنفي بعضها البعض لكي ترتقي إلى درجة اعلى من التطور. على عكس النظرية الميتافيزيائية التي تنظر الى الظواهر منعزلة عن بعضها، متقوقعة داخل ذاتها، وتتطور بشكل تراكمي تتحكم بها قوانين سرمدية لا تتغير ابدا.
المعتقدات الدينية هي نموذج كلاسيكي للنظرة الميتافيزيائية (الغيبية) للعالم، فهي تسير حسب قواعد وقوانين تلائم كافة الازمنة والاماكن، بالرغم من انها نفسها تتطور بشكل جدلي. فالقبائل (الاسباط) اليهودية التوراتية شيء واليهود في زمننا الراهن هم شيء آخر تماما، ولا يكفي ان يردد المصلون اليوم عبارة: "مبارك انت يا رب الهنا ملك العالم.." لاثبات أية علاقة تاريخية فيما بينهم. معظم يهود اليوم لا يؤمنون بالرب الذي وصفه التوراة وبالتالي لا يعتبرون انفسهم شعبه المختار. النظرية الصهيونية هي مفارقة تاريخية لن تصمد طويلا. يمكن قول الشيء نفسه عن الديانة المسيحية فلا يوجد اية علاقة بين معتنقي المسيحية اليوم والذين حسب الاحصائيات تجاوز عددهم المليارين وبين المسيحيين الاوائل حتى ولو رددوا عبارة: بسم الآب والابن والروح القدس كل يوم في شتى ارجاء العالم. الديانة الاسلامية لا تشذ عن هذه القاعدة، فالنطق بالشهادتين: اشهد ان لا اله الا الله وان محمد رسول الله، لم تنقذ المسلمين من حروبهم الداخلية على مر التاريخ. كذلك الديانات الاخرى مثل البوذية والهندوسية والكونفوشية والزرداشتية وغيرها، المتواجدة اليوم في اماكن شاسعة من عالمنا، ليست هي نفسها التي ظهرت قبل الاف السنين. وعلى غرار مقولة هرقليطس الشهيرة يمكن القول: لا يمكن للمؤمن الدخول إلى نفس الدين مرتين. وربما كانت مقولة تلميذه كراتيلوس هي الاصح عندما قال:”لا يمكن دخول النهر نفسه حتى مرة واحدة"، أي لا يمكن أن يدخل المؤمن الدين حتى مرة واحدة.
لا تنطبق هذه النظرة على المعتقدات الدينية فحسب بل على كافة الايديولوجيات التي تحجرت وتحولت مع الوقت إلى نقيضها أيضا. منها من يدعي تشبثه بالقوانين الجدلية العلمية مثل الماركسية والفوضوية وباقي النظريات الاشتراكية. هذه المعتقدات والايدولوجيات تتحجر مع الوقت وبعضها يتلاشى حتى يزول. أما شجرة الحياة فتبقى يانعة وتستمر بالنمو والتطور ليس بفضل هذه المعتقدات والايدولوجيات المتحجرة بل بالرغم منها. التطور لا بد منه، والسؤال الذي نواجهه اليوم هو السؤال نفسه الذي واجهه كبار المفكرين الثوريين: هل ندع هذا التطور ينمو بشكل عشوائي أم نعمل على ان يتم بشكل واع وهادف؟ احدى مشاكلنا الاساسية اليوم هو انقراض المفكرين الثوريين العظماء.
الثورات التي غيرت وجه التاريخ انتهت ولن تعود بعد ان حققت مهامها. هناك ضرورة لثورات جديدة. لا يمكن فصل الثورة عن مكان وزمان تفجرها وعن خلفيتها الاجتماعية والفكرية والسياسية. هذا لا يعني الا نتعلم من تجاربها ودروسها، من نقاط قوتها وضعفها، من انجازاتها وفشلها، بالعكس لا بد من ذلك وبشكل خلاق ومبدع. ينبغي التخلص من وهم القيام بثورات متطابقة والنضال من أجل تفجير ثورات جديدة تنسجم مع محيطها. الثورة الفرنسية الكبرى لن تعود لانه لم يبق في فرنسا ملك مطلق الصلاحية وطبقة ارستقراطية فاسدة وبرجوازية صاعدة. وكومونة باريس لن تعود. ثورة اكثوبر الاشتراكية لن تعود، فلم يعد هناك قيصر وحرب عالمية ومجاعات وحزب بلشفي ثوري وقيادة ثورية تعرف كيف تقتنص اللحظة المناسبة. كذلك الثورة الصينية والفيتنامية، والكوبية والجزائرية هي الاخرى لن تعود، ولكن ثورات جديدة سوف تنفجر في كل مكان وزمان. أذكر في سنوات مضت أن احدى الفصائل الفلسطينية ارادت أن تطبق استراتيجية الثورة الصينية ورفعت شعار محاصرة القرى للمدن حتى تحريرها وكأن الاردن أو فلسطين هي الصين بمساحتها وعدد سكانها وتركيبة مجتمعها والقوى الفاعلة بها. وبعضهم نادى بخوض حرب تحرير شعبية طويلة الامد على غرار فيتنام، وكأن البلاد مليئة بالادغال وكأن عمان أو بيروت هي هانوي وان العمق العربي هو نفس العمق الذي اعتمدت عليه الثورة الفيتنامية. واذكر ايضا من رفع شعار: كل السلطة للسوفيتات، عندما لم يكن هناك شيء اسمه سوفيتات، وعندما لم يفهم معظم العمال والفلاحين حتى معنى هذه الكلمة.
المعتقدات الثابتة مهما كان مصدرها وشكلها، والتي اكل الدهر عليها وشرب حتى تحجرت لن تسطيع ان تفجر ثورة تقدمية تكون رافعة للمجتمع ليلتحق بركب الحضارة. يجب التخلص منها اولا.