المعتقدات
الثابتة والثورات المتجددة
على
زبيدات – سخنين
لم
يكن الفيلسوف الالماني هيغل هو الاب
الروحي للنظرية الجدلية ولم يكن كارل
ماركس كذلك، هذا بالرغم من مساهمتهما
الفذة في نقلها إلى ذروة تطورها في الفلسفة
المعاصرة مما اهلها لان تلعب دورا حاسما
في التاريخ الفكري للبشرية في القرنين
التاسع عشر والعشرين. تعود
جذورالنظرية الجدلية إلى قرون عديدة
خلت، فنجدها باروع صورها في الفلسفة
اليونانية القديمة وخصوصا عند هرقليطس
وافلاطون. وقد
لخصها الاول بمقولته الغنية عن التعريف:”
كل شيء يجري (Panta
rhei)، لا يمكن الدخول
مرتين إلى النهر نفسه".
النظرية
الجدلية باختصار شديد هي تلك النظرية
التي تقول أن كافة الظواهر:
الطبيعية،
الاجتماعية، الاقتصادية، الفكرية وغيرها
في حركة مستمرة وتطور مستمر وتتعامل معها
من منطلق قوانين عامة تحدد العلاقة بين
وحدة وصراع الاضداد وتفسر كيف تتحول
التراكمات الكمية في مجرى تطورها إلى
تحولات نوعية وكيف تنفي بعضها البعض لكي
ترتقي إلى درجة اعلى من التطور.
على عكس النظرية
الميتافيزيائية التي تنظر الى الظواهر
منعزلة عن بعضها، متقوقعة داخل ذاتها،
وتتطور بشكل تراكمي تتحكم بها قوانين
سرمدية لا تتغير ابدا.
المعتقدات
الدينية هي نموذج كلاسيكي للنظرة
الميتافيزيائية (الغيبية)
للعالم، فهي تسير
حسب قواعد وقوانين تلائم كافة الازمنة
والاماكن، بالرغم من انها نفسها تتطور
بشكل جدلي. فالقبائل
(الاسباط)
اليهودية التوراتية
شيء واليهود في زمننا الراهن هم شيء آخر
تماما، ولا يكفي ان يردد المصلون اليوم
عبارة: "مبارك
انت يا رب الهنا ملك العالم.."
لاثبات أية علاقة
تاريخية فيما بينهم. معظم
يهود اليوم لا يؤمنون بالرب الذي وصفه
التوراة وبالتالي لا يعتبرون انفسهم شعبه
المختار. النظرية
الصهيونية هي مفارقة تاريخية لن تصمد
طويلا. يمكن
قول الشيء نفسه عن الديانة المسيحية فلا
يوجد اية علاقة بين معتنقي المسيحية اليوم
والذين حسب الاحصائيات تجاوز عددهم
المليارين وبين المسيحيين الاوائل حتى
ولو رددوا عبارة: بسم
الآب والابن والروح القدس كل يوم في شتى
ارجاء العالم. الديانة
الاسلامية لا تشذ عن هذه القاعدة، فالنطق
بالشهادتين: اشهد
ان لا اله الا الله وان محمد رسول الله،
لم تنقذ المسلمين من حروبهم الداخلية على
مر التاريخ. كذلك
الديانات الاخرى مثل البوذية والهندوسية
والكونفوشية والزرداشتية وغيرها،
المتواجدة اليوم في اماكن شاسعة من عالمنا،
ليست هي نفسها التي ظهرت قبل الاف السنين.
وعلى غرار مقولة
هرقليطس الشهيرة يمكن القول:
لا يمكن للمؤمن
الدخول إلى نفس الدين مرتين.
وربما كانت مقولة
تلميذه كراتيلوس هي الاصح عندما قال:”لا
يمكن دخول النهر نفسه حتى مرة واحدة"،
أي لا يمكن أن يدخل المؤمن الدين حتى مرة
واحدة.
لا
تنطبق هذه النظرة على المعتقدات الدينية
فحسب بل على كافة الايديولوجيات التي
تحجرت وتحولت مع الوقت إلى نقيضها أيضا.
منها من يدعي تشبثه
بالقوانين الجدلية العلمية مثل الماركسية
والفوضوية وباقي النظريات الاشتراكية.
هذه المعتقدات
والايدولوجيات تتحجر مع الوقت وبعضها
يتلاشى حتى يزول. أما
شجرة الحياة فتبقى يانعة وتستمر بالنمو
والتطور ليس بفضل هذه المعتقدات
والايدولوجيات المتحجرة بل بالرغم منها.
التطور لا بد منه،
والسؤال الذي نواجهه اليوم هو السؤال
نفسه الذي واجهه كبار المفكرين الثوريين:
هل ندع هذا التطور
ينمو بشكل عشوائي أم نعمل على ان يتم بشكل
واع وهادف؟ احدى مشاكلنا الاساسية اليوم
هو انقراض المفكرين الثوريين العظماء.
الثورات
التي غيرت وجه التاريخ انتهت ولن تعود
بعد ان حققت مهامها. هناك
ضرورة لثورات جديدة. لا
يمكن فصل الثورة عن مكان وزمان تفجرها
وعن خلفيتها الاجتماعية والفكرية
والسياسية. هذا
لا يعني الا نتعلم من تجاربها ودروسها،
من نقاط قوتها وضعفها، من انجازاتها
وفشلها، بالعكس لا بد من ذلك وبشكل خلاق
ومبدع. ينبغي
التخلص من وهم القيام بثورات متطابقة
والنضال من أجل تفجير ثورات جديدة تنسجم
مع محيطها. الثورة
الفرنسية الكبرى لن تعود لانه لم يبق في
فرنسا ملك مطلق الصلاحية وطبقة ارستقراطية
فاسدة وبرجوازية صاعدة.
وكومونة باريس لن
تعود. ثورة
اكثوبر الاشتراكية لن تعود، فلم يعد هناك
قيصر وحرب عالمية ومجاعات وحزب بلشفي
ثوري وقيادة ثورية تعرف كيف تقتنص اللحظة
المناسبة. كذلك
الثورة الصينية والفيتنامية، والكوبية
والجزائرية هي الاخرى لن تعود، ولكن ثورات
جديدة سوف تنفجر في كل مكان وزمان.
أذكر في سنوات مضت
أن احدى الفصائل الفلسطينية ارادت أن
تطبق استراتيجية الثورة الصينية ورفعت
شعار محاصرة القرى للمدن حتى تحريرها
وكأن الاردن أو فلسطين هي الصين بمساحتها
وعدد سكانها وتركيبة مجتمعها والقوى
الفاعلة بها. وبعضهم
نادى بخوض حرب تحرير شعبية طويلة الامد
على غرار فيتنام، وكأن البلاد مليئة
بالادغال وكأن عمان أو بيروت هي هانوي
وان العمق العربي هو نفس العمق الذي اعتمدت
عليه الثورة الفيتنامية.
واذكر ايضا من رفع
شعار: كل
السلطة للسوفيتات، عندما لم يكن هناك شيء
اسمه سوفيتات، وعندما لم يفهم معظم العمال
والفلاحين حتى معنى هذه الكلمة.
المعتقدات
الثابتة مهما كان مصدرها وشكلها، والتي
اكل الدهر عليها وشرب حتى تحجرت لن تسطيع
ان تفجر ثورة تقدمية تكون رافعة للمجتمع
ليلتحق بركب الحضارة. يجب
التخلص منها اولا.
No comments:
Post a Comment