Thursday, April 27, 2017

استمرارية النضال بين القول والفعل

استمرارية النضال بين القول والفعل
علي زبيدات - سخنين

لا شك أننا جميعا قد سمعنا بالشعار الذي جرى على لسان قادة لهم باع طويل في النضال في الماضي والحاضر، محليا ودوليا والذي يحث المناضلين على عدم التفريط به وهو: من الافضل كلام أقل وفعل أكثر. حتى اصبح هذا الكلام من باب المفارقة يردده من لا يكف عن الكلام في مناسبة أو من غير مناسبة وعلى كافة المنصات  بينما يكاد فعله أن يكون معدوما.
طبعا مع احترامي لهذه المقولة التي تعتبر خلاصة لنضالات طويلة ومريرة خاضتها الشعوب على مر الأجيال إلا أنني سأحاول، من وجهة نظري، أن اضع هذه المقولة في سياقها الصحيح. أولا، انا لا احبذ الفصل بين الكلام والفعل إلا لضرورة التقصي والتحليل وفي الواقع من المستحيل الفصل بينهما. فالكلام عندما يسود الصمت يصبح عملا. والعمل قد يكون أسوأ من الكلام عندما يكون خاطئا من حيث المبدأ. إذن قبل أن نتبنى شعار: كلام أقل وفعل أكثر، ينبغي أن نحدد أي كلام نقصد وأي فعل نعني. اذا كان الكلام عقلانيا، تحليليا، هادفا وتثقيفيا فهو ضروري جدا ويسبق العمل النضالي وذلك ينسجم مع قول لينين: لا حركة ثورية بدون نظرية ثورية. النظرية الثورية ليست طق حنك وتصفيط كلام كما هي عليه اليوم بل هي دليل ومرشد للعمل وبدونها يصبح العمل عشوائيا.
في معظم محاورات أفلاطون كان سقراط يطالب محاوريه الكف عن إلقاء خطابات طويلة ومنمقة ويطلب منهم أن يكون الحوار قصيرا على شكل أسئلة وأجوبة حتى لا يضيع موضوع الحوار. فكان غالبا ما يقاطع الخطباء ويوجه لهم الأسئلة المباشرة والمحرجة. ولكن سقراط نفسه وخصوصا في الحوارات المتأخرة كان يلجأ إلى صيغة الخطاب المطول حتى يعطي الفكرة المطروحة للنقاش حقها. لم يكن هناك تناقض في موقف سقراط هذا كما يبدو من الوهلة الأولى، فهو ضد الخطابات عندما تكون فارغة والتي كان يبرع بها السفسطائيون وغيرهم. ولكنه كان مع الخطاب الهادف الصادر عن معرفة.
كان لا بد من هذه المقدمة الطويلة كمدخل لتناول موضوع الكلام والفعل على ساحتنا السياسية المحلية. نحن نتكلم كثيرا وغالبا ما تكون خطاباتنا "ثرثرة ثورية" خالية من أي مضمون ثوري حقيقي وتكون أفعالنا قليلة ونادرا ما ترتقي إلى مستوى الحدث. بالرغم من أننا ندرك هذه الحقيقة المرة ونتناولها في جلساتنا الخاصة ودوائرنا المغلقة إلا أننا لا نعترف بها علنا ولا نحاول تغييرها. في كل مناسبة وطنية يطلب من المتحدثين الإيجاز والتقيد بالوقت ولكنهم سرعان ما يحررون ألسنتهم من لجامها وتنطلق بدون توقف. وعندما يقررون تقليص قائمة المتكلمين في إحدى المناسبات نرى القائمة تطول بعفوية لا يعرف سببها أحد. وقد يعترف هؤلاء الخطباء وخصوصا الديماغوجيين منهم بالتقصير في العمل ولكنه عندما يتعرض لبعض النقد نراه ينتفخ زهوا بما قدمه من أفعال ويتهم منتقديه بالتجني عليه وعلى أفعاله.
لقد أصبح من المتعارف عليه أن جماهيرنا تحيي سنويا ثلاث مناسبات وطنية مركزية: يوم الارض في 30 آذار، هبة القدس في الأول من تشرين الأول، ومسيرة العودة في يوم احتفال الإسرائيليين باستقلالهم. وفي كل مناسبة من هذه المناسبات تراودني التساؤلات نفسها: هل نقول في خطاباتنا شيئا جديدا لم نقله من قبل؟ هل نفعل شيئا جديدا لم نفعله من قبل؟ وللاسف الشديد يكون الجواب دائما: لا جديد تحت الشمس. السؤال الذي يقلقني دائما ولا أجد الجواب الشافي عليه هو: لماذا إذن نستمر في إحياء هذه المناسبات سنة بعد سنة؟ هل هي العادة التي تريحنا بسحرها وتخفف عنا تأنيب الضمير والشعور بالذنب لعجزنا عن تحقيق أهدافنا؟ أم هي قوة الدفع التي  أنتجتها صدمة المناسبة الأولى؟ أم هي الاستمرارية التي ترافق الحياة في كل الأحوال؟ نعم، لقد أصبحت مناسباتنا هذه تقليدية ليس بالمعنى الإيجابي للكلمة أي أنها تتكرر سنويا وتحافظ على نوع من زخمها فحسب بل أيضا تقليدية بمعنى خلوها من الإبداع والتجديد والانتقال ولو خطوة إلى الأمام.
لنذكر مثلين على ذلك نعيش أجواءهما هذه الأيام. الأول: تضامننا ودعمنا للحركة الأسيرة المضربة عن الطعام، حيث يتفق الجميع بما فيهم الشخصيات والمؤسسات صاحبة القرار بهذا الشأن بأن هذا التضامن وهذا الدعم أبعد ما يكون على أن يشكل ضغطا على الحكومة الاسرائيلية لكي تلبي مطالب الأسرى الحياتية والانسانية ولا اقول السياسية.
المثل الثاني: مسيرة العودة التي تقف على الأبواب وتستقطب كل سنة الآلاف من كافة ربوع فلسطين وتنتقل كل سنة من قرية مهجرة إلى أخرى ولكنها تحافظ على شكلها التقليدي الصارم، رافضة كل فكرة إبداعية جديدة قد تضفي بعدا مختلفا على حق العودة. إحدى هذه الأفكار التي تطرح، خارج الاطار، كل سنة ويتم تجاهلها تماما واقصائها حتى عن النقاش هي إعادة بناء قرية واحدة من ال 530 قرية مهجرة ولو بشكل رمزي بدل زيارتها والبكاء على أطلالها.
لقد آن الأوان لإعادة التوازن بين القول والفعل في نشاطاتنا كشرط أولي لاستمرارية نضالنا الوطني العادل.

Thursday, April 06, 2017

اليسار العربي وداعا!

اليسار العربي وداعا!
علي زبيدات - سخنين

أظن لا يوجد هناك تعريف محدد ومتفق عليه لليسار. فهو مصطلح فضفاض مليء بالتناقضات، يمكن أن تقول عنه الشيء وضده في آن واحد. فهناك اليسار الثوري، الإصلاحي، الجذري، الانتهازي، المعتدل والمتطرف، وهناك اليسار المزيف، المحافظ، العلماني، الاشتراكي والشيوعي وهناك يمين اليسار ويسار اليمين وصفات أخرى يطفح بها القاموس السياسي. بالنسبة لنا، نحن أهل المشرق، هذا المصطلح مستورد أصلا، نما وترعرع في أوروبا في أعقاب الثورات البرجوازية التي بدأت في أواخر القرن الثامن عشر(الثورة الفرنسية) مرورا بالقرن التاسع عشر والقرن العشرين عندما أصبح هناك برلمانات تضم أعضاء ذوي مشارب واتجاهات فكرية وسياسية مختلفة.  وقد أطلق الاسم يسار على الأحزاب والحركات والأفراد الذين سعوا بشكل أو بآخر إلى تغيير الواقع نحو الافضل، من وجهة نظرهم، عن طريق المطالبة بمزيد من المساواة والعدالة الاجتماعية. تبلور هذا المصطلح جنبا إلى جنب مع تطور مصطلح اليمين الذي كان يشمل الأحزاب والحركات والأفراد المحافظين الذين تمسكوا بالواقع وعارضوا تغييره لأنه قد يضر بمصالحهم وامتيازاتهم لأنهم كانوا ينتمون إلى الطبقات الحاكمة أو المقربة من الحكم.
مع تطور الدولة الحديثة وانتقالها من النظام الإقطاعي إلى النظام البرجوازي وفي بعض البلدان إلى الإمبريالية، حيث تحول جزء من الطبقة العاملة والكادحين إلى شريحة ارستقراطية ضمت من حيث الأساس قيادة الأحزاب العمالية والنقابات وبالمقابل إفلاس فئات واسعة من البرجوازية وانضمامها إلى صفوف الكادحين، اختلط الحابل بالنابل واخذت الفوارق بين معسكري اليمين واليسار تنطمس وتتلاشى فأصبحنا نتحدث عن يمين اليسار وعن يسار اليمين ليس داخل المعسكرين فحسب بل داخل الحزب أو الحركة الواحدة. فلو سلمنا جدلا بأن الأحزاب الاشتراكية والشيوعية تشكل قوام معسكر اليسار لوجدنا من يصنف الأحزاب الاشتراكية باليمين والشيوعية باليسار، ولو دخلنا إلى صفوف أحد الأحزاب لوجدنا هناك تيارات وأجنحة تدغم باليسارية  أو اليمينية وذلك من باب أن كل شيء نسبي واي معيار تستعمل. حتى اصبحت الاحزاب والحركات اليسارية الحديثة الأوروبية تقليدا للأحزاب والحركات اليسارية السابقة.
بهذا المعنى تنطبق على الأحزاب والحركات اليسارية العربية التي هي موضوعنا نظرية أفلاطون في المثل: أي انها تقليد التقليد. هذا يعني أن الأحزاب والحركات اليسارية العربية قد ولدت وهي تحمل تشوهات فكرية وعملية عديدة. فالتخبط الذي نراه اليوم في هذه الأحزاب والحركات لم يأت من باب الصدفة بل هو تطور طبيعي. فإذا كان ما يميز اليسار الأوروبي حتى في عصر انحطاطه هو ميله إلى تغيير المجتمع فإن اليسار العربي كان يميل منذ البداية إلى الركود والجمود. اما شعاراته حول العدالة والمساواة فإنها لم تتجاوز معناها اللفظي. فنراها تلتصق بكل نظام يدعي الثورية والتقدمية حتى وان كان في الواقع محافظا ورجعيا. هذا ما حدث في العراق وسوريا ومصر في ظل الملكية واستمر بعد سقوط الملكية ومجيء الجمهوريات التي برهنت خلال فترة وجيزة بأنها لا تختلف من حيث الجوهر عن الأنظمة الملكية البائدة.
فإذا أخذنا الوضع في العراق أثناء الإطاحة بالنظام الملكي عام 1958 حيث كان معسكر اليسار الفضفاض يضم بين طياته  القوميين والاشتراكيين (وعلى الأصح الاشتراكيين القوميين ويمثلهم حزب البعث) والشيوعيين. وهكذا كان ترتيبهم من حيث "اليسارية". فإذا كان الحزب الشيوعي العراقي الأكثر يسارية وكان في ذلك الوقت قوة لا يستهان بها ولعب دورا حاسما في إسقاط الملكية، فقد سلم القيادة طواعية للجناح اليميني ممثلا بعبد الكريم قاسم، الذي بطش بالحزب الشيوعي حالما تمكن من السلطة. فنقل دعمه وولاءه لحزب البعث الأكثر يسارية من الجناح القومي وفي الوقت نفسه اليميني مقارنة بالحزب الشيوعي، ومرة أخرى حالما استتب له الحكم بطش مرة أخرى بالشيوعيين. الأمر نفسه تكرر في سوريا. فحزب البعث كان معدودا على المعسكر اليساري وكان بداخله يمين ويسار، بينما اعتبر الحزب الشيوعي السوري الأكثر يسارية ولكنه خضع هو الآخر لهيمنة اليمين(البعث). الظاهرة نفسها تكررت في مصر واليمن والجزائر مع بعض الاختلافات التي فرضتها الظروف الخاصة في كل بلد.
الوضع في فلسطين جرى أيضا حسب هذه القاعدة. فقد تم تصنيف منظمة التحرير الفلسطينية بكل ما تحويه من تنظيمات بأنها يسارية بالمقارنة مع القيادات العربية المجاورة أو مع القيادة الفلسطينية السابقة ممثلة بالمفتي أمين الحسني، أو حتى بالرئيس الأول للمنظمة أحمد الشقيري. ولكن التصنيفات لم تنته هنا لا، فداخل المنظمة "اليسارية" يوجد هناك يمين ويسار، وكان اليمين ممثلا بفتح واليسار بالجبهة الشعبية والديمقراطية من حيث الأساس. وتجد داخل اليمين (فتح) من يقسمها إلى يسار ويمين، وأكثر يسارا وأكثر يمينا. مثلا: كان ناجي علوش اكثر يسارا من منير شفيق، ومنير شفيق اكثر يسارا من القدومي، والقدومي اكثر يسارا من ابي اياد، وابو اياد اكثر يسارا من أبي جهاد، وهكذا إلى ما لا نهاية. واختلفت التصنيفات في الشق الآخر من أكثر يسارية الجبهة الشعبية لتحرير فلسطين ام الجبهة الديمقراطية؟ النتيجة هو أن التنظيمات الأكثر يسارية مرة أخرى خضعت للتنظيمات الأكثر اليمنية على اعتبار أنها تمثل البرجوازية الوطنية التي تقود النضال في مرحلة التحرر الوطني.
إذن، لمن يتساءل أين اليسار العربي (والفلسطيني، على اعتبار أنه طليعة اليسار العربي) فالجواب واضح: متى كان هذا اليسار حاضرا كيسار مستقل وأين؟ توجد هناك قطيعة شبه كاملة بين اليسار العربي والشعوب العربية التي يدعي تمثيلها والنضال من أجلها. لقد قدمت ثورات الربيع العربي في بداياتها فرصة لهذا اليسار لكي يصحح مساره ويلعب دورا مركزيا بل قياديا في عملية التغيير ولكنه اختار أن يبقى هامشيا تابعا وترك الباب مفتوحا على مصراعية للحركات التكفيرية والرجعية ولتدخلات القوى الإقليمية والامبريالية العالمية. ليس من باب الصدفة أن تقف معظم الأحزاب اليسارية العربية الجذرية والانتهازية على حد سواء إلى جانب النظام السوري بدل أن تقود عملية التغيير، لأنها وبكل بساطة كانت وما زالت تعتبر نفسها جزءا في نفس المعسكر.

لقد آن الأوان لقوى اليسار العربي أن تثبت نفسها أو أن ترحل وتودع المشهد السياسي نهائيا.