Tuesday, June 23, 2009

عندما يكون الفكر عقيما تكون السياسة عاقرا



نشر د. عمر سعيد مقالا مطولا بعنوان: "عندما يحدث طلاق السياسة من الفكر" تناول فيه علاقة العمل السياسي وخصوصا على ساحتنا المحلية بالفكر النقدي. وتوصل إلى نتيجة مفادها أنه يوجد طلاق بين الاثنين. مما لا شك فيه أن موضوع المقال على درجة عالية من الأهمية وكان من المفروض فتح هذا الملف منذ وقت بعيد على ضوء الأوضاع المزرية للفكر العربي وللسياسة العربية على الساحة المحلية والقومية. المشكلة في مقال د. عمر سعيد، كما سأحاول أن أوضح لاحقا أنه لم يتجرأ على وضع الإصبع على الجرح واكتفى بخدش الموضوع من الخارج ولاعتبارات حزبية ضيقة تقاعس عن المضي قدما بما اقترحه هو ذاته.
يبدأ الخلل بالعنوان. لكي يكون هناك طلاق يجب أن يسبق ذلك زواج. وأنا ازعم أن السياسة والفكر في عالمنا العربي لم تربطهما هذه العلاقة ابدآ. وأكثر من ذلك، حتى علاقة حب غير شرعية عابرة لم تكن بينهما.
يصف الكاتب في بداية المقال بأن الثقافة العربية تعاني من تصلب في العروق وانسداد في الشرايين وذلك بسبب غياب الممارسات الفكرية النقدية الجريئة التي تتصدى للبنى الاجتماعية والثقافية المتهتكة. يبدو الكاتب من خلال هذا الوصف متفائلا بعض الشيء، فالتصلب في العروق وانسداد الشرايين لم يعد ذلك المرض الخطير مع تطور الطب الحديث. ما تعاني منه السياسة العربية والفكر العربي أخطر من ذلك بكثير. إنهما بدون مبالغة يعانيان من فقدان المناعة المكتسبة.
أوافق الكاتب انه يوجد هناك تضخم مشوه لقيمة وفعالية العقل السياسي النفعي على حساب الفكري والمعرفي. ولكن هذا لا ينبع من الفوضى الفكرية العارمة ومن الاضطراب الأخلاقي لمصطلحاتها حيث أن هذه الأمور ذاتها ليست سوى أشكال ونتاج للسياسة النفعية وعلينا أن نبحث عن أسبابها في انعدام الفكر النقدي الخلاق.
يذكر الكاتب ثلاثة أمور تميز ساحتنا الثقافية والسياسية المحلية ويحاول أن يجد تبريرا لبعضها. أولا: مقاومة الطمس والاحتواء الصهيوني. ثانيا: القطيعة الثقافية مع الامتداد العربي. ثالثا: الصراع بين الحداثة والأصالة.
من غير الاستخفاف بأهمية وخطورة هذه الأمور إلا أن استعمالها كمبررات لوضعنا البائس ما زالت الطريق طويلة وإلقاء المسؤولية على طرف معين وإعفاء الآخرين منها هو في حده الأدنى يفتقد للمصداقية وبعيد عن الجرأة الفكرية التي يطالب الكاتب نفسه بها.
هيمنة خطاب حزبي واحد على ساحتنا المحلية على الصعيدين السياسي والثقافي، والمقصود هنا الحزب الشيوعي الإسرائيلي، كان له دور فعال في الاحتواء الصهيوني. فقد ظهر هذا الحزب وكأنه مصاب بنوع من انفصام الشخصية. فمن جهة هو يعرف نفسه بأنه" حزب الوطنية الإسرائيلية" ومن جهة أخرى يعتبر نفسه جزء من الحركة الوطنية الفلسطينية. وهو يقبل بإسرائيل كتجسيد لحق الشعب اليهودي في تقرير مصيره ويحتفل بذكرى استقلال هذا الكيان ومن جهة أخرى يشارك في إحياء النكبة الفلسطينية. هذه السياسة وهذه الممارسات غير مبنية على ايدولوجيا "علمية" وعلى تحليل "تاريخي" كما يسخر الكاتب مشيرا إلى النظرية الماركسية، بل على العكس من ذلك: هذه السياسة والممارسات مبنية على تخلي الحزب عن الايدولوجيا العلمية وعن التحليل التاريخي للواقع. التحريفية سيطرت على هذا الحزب قبل عام النكبة بوقت طويل.
السؤال الذي يطرح نفسه هنا ويضع مصداقية الكاتب على المحك هو: بعد كسر هيمنة الخطاب الحزبي الواحد هل أصبح وضعنا أحسن؟ وهل الحزب الذي ينتمي إليه الكاتب شكل البديل المطلوب؟
لقد كنا نعيش في وهم المعرفة وما زلنا نعيش في وهم المعرفة. كل ما فعلناه هو تغيير وهم بوهم آخر. بماذا يختلف الكلام عن حل الدولتين عن الكلام عن الدولة ثنائية القومية أو دولة جميع مواطنيها إذا كانت الكنيست الصهيوني هي الطريق لجميع هذه الحلول. هل يوجد حقا فرق بين عضو كنيست ينتمي للحزب الشيوعي الإسرائيلي وللأحزاب العربية الأخرى؟ كلهم في الاسرلة سواء ولا يغير هذه الحقيقة كبر العلم الفلسطيني المرفوع في المظاهرات ولا الكلام المنتفخ عن القومية العربية. الكنيست توحدكم جميعا.
وعندما أفلست الايدولوجيا "العلمية" و"التاريخية" ودخلنا إلى عصر حوانيت الجمعيات الممولة بسخاء خارجيا هل أصبح واقعنا الثقافي أفضل؟ هل إيديولوجيا "التصور المستقبلي" و "الدستور الديمقراطي" و"وثيقة حيفا" أفضل؟
مصيبتنا لا تكمن فقط بأننا نعيش وهم المعرفة وليس المعرفة نفسها بل نميل دائما إلى تصديق ما هو جاهز والى تقبل الأشياء مسلمة. ما يقوله الحزب هو الصحيح وغيره خاطئ. وطبعا في مشهدنا المحلي يمكن دائما اختزال الحزب بزعيمه.
إذن، كسر هيمنة الحزب الواحد، وهيمنة الخطاب الواحد لم تقودنا إلى التعددية كما نعلل أنفسنا بل إلى الشرذمة والى المزيد من الشرذمة.
الانقطاع الثقافي عن العالم العربي كعامل في أزمة الثقافة المحلية هو موضوع واسع لا مجال للخوض به هنا. ولكنني أكتفي بالقول أن المأزوم لا يستطيع أن يخلص غيره من أزمته. الفكر النقدي العربي في حالة يرثى لها ومعظم من يطلق عليهم "مفكرون" أو يطلقون على أنفسهم هذا الاسم نراهم ليسوا أكثر من موظفين في القنوات الرسمية العربية أو مفكري بلاط على غرار شعراء البلاط القدامى.
وأخيرا أود أن أتطرق باختصار إلى مسالة الحداثة والأصالة والى غرامنا المفرط بالتراث واعتباره المركب الأهم في هويتنا الوطنية في مواجهة الاحتواء الصهيوني. أولا وقبل كل شيء أقول: إذا أردنا اللحاق بركب التاريخ يجب أن نلقي على الأقل ب90% من "تراثنا" إلى مزبلة التاريخ. يجب أن نقبر هذا التراث ونتابع المسير وإلا بقينا خارج الحضارة. فقط من حاضره تعيس ومستقبله أتعس يهرب للجوء إلى ماضيه ويكرر المقولة الممجوجة: من لا ماض له لا مستقبل له. حضارة الشعوب تقاس بالتقدم الذي تنجزه، أي بمدى التغيير الذي تحققه وليس بمدى ركودها وتحجرها. الشعب الذي يتقدم هو الذي يصنع التاريخ والشعب الذي يراوح مكانه سيجد نفسه عرضة للقمع والعبودية. الهوية، ذلك الشعار السحري يجب أن نفككه إلى مركباته الأولية ونتخلى عن كل مركب فقد تاريخ صلاحيته بدون رحمة. أليس ما حدث في شفاعمرو مؤخرا ومن قبل في المغار والناصرة وغيرها هو جزء من تراثنا؟ هو جزء من هويتنا؟ فلماذا نذرف دموع التماسيح الآن.
من أجل النهوض بالفكر النقدي، من أجل الارتقاء بثقافتنا الوطنية من الحضيض ووضعها في مصاف الحضارة الإنسانية التقدمية يجب أن نهزم أولا ذلك الوهم المعرفي الذي نعيش فيه. يجب علينا تحطيم العديد من الأصنام التي نعبدها.
من أجل ذلك نستطيع أن نبدأ بخطوة بسيطة كل واحد في فينا يستطيع أن يخطوها وهي أن نضع كل شيء موضع سؤال من غير أن ننزلق إلى وهم وكأننا نملك أجوبة نهائية. في خضم هذا الصراع الثقافي الشاق والطويل عينا في الوقت نفسه أن نتعلم العيش رغم اختلاف الآراء الأفكار من الخلال الحرص على حرية الفكر من جهة والتسامح من جهة أخرى.

Wednesday, June 17, 2009

الخطاب المفقود

في بداية الشهر حبس العالم العربي والإسلامي أنفاسه وهو يستمع إلى خطاب الرئيس الأمريكي الجديد براك أوباما من على منصة جامعة القاهرة أمام حوالي 2500 شخص وببث مباشر إلى الملايين عبر كافة الفضائيات الإخبارية العربية. في هذا الخطاب أراد اوباما أن يفتح صفحة جديدة في العلاقات بين الولايات المتحدة الأمريكية والعالمين العربي والإسلامي. نحن هنا لسنا بصدد تحليل هذا الخطاب أو تقييمه ولكن والحق يقال أن أوباما استطاع من خلال بعض عبارات المجاملة حول تاريخ الإسلام المضيء ودوره ومكانته في أمريكا ومن خلال الاستشهاد بآيات من القرآن الكريم في عدة مواقع من خطابه ومن خلال بعض الأفكار العامة غير الملزمة، أن يكتسح العالم العربي والإسلامي. وتحولت أمريكا بين ليلة وضحاها إلى أعز صديق للعرب وللمسلمين.
قلت قبل وبعد خطاب أوباما في القاهرة أنه إذا أراد أوباما أن يحسن صورة أمريكا عند العرب كان عليه قبل قدومه أن يسحب كافة جنوده من العراق والافغانستان وأن يعوض هذين البلدين عن الخسائر (التي لا تعوض) التي سببها الجيش الأمريكي. وعليه أيضا إغلاق كافة القواعد العسكرية الموجودة في المنطقة وعدم التدخل في شؤون الدول الداخلية ويتوقف عن دعم الأنظمة الفاسدة. وإذا أراد أن يحسن صورته وصورة بلاده عند الشعب الفلسطيني عليه قطع العلاقات الدبلوماسية مع إسرائيل وسحب الاعتراف بها ككيان غير شرعي ومساعدة الشعب الفلسطيني لاسترجاع حقوقه وخصوصا تحرير الأرض والعودة. وعدم الاكتفاء باجترار التزامه بإقامة دولة فلسطينية هلامية لا أحد يعرف حدودها أو مكوناتها.
طبعا أتهمت حتى من قبل أقرب المقربين بالمبالغة والمزاودة إذ لم يخلق حتى الآن الزعيم الأمريكي الذي يحلم بمثل ذلك. ونصحوني أن أرى النصف المليء من الكأس وليس النصف الفارغ. إنها مجرد نقطة ماء عالقة في قاع ألكاس ليس إلا ولكن ما العمل ونحن كما يقول مثلنا الشعبي: نغرق في شبر من الماء.
على كل حال، إذا كان هناك شيء ايجابي في خطاب أوباما فأنه يكمن في الخطاب نفسه، أي بوجود رئيس أمريكي يقوم بدوره.
في منتصف الشهر ذاته، أي في بداية هذا الأسبوع وبالتحديد في 14 يونيو وقف رئيس الحكومة الإسرائيلية بنيامين نتنياهو على منصة جامعة أخرى هي جامعة بار أيلان المعروفة بانتمائها لليمين الإسرائيلي المتطرف وألقى خطابا شرح به موقفه وموقف حكومته ليس فقط من خطاب أوباما بل مما يسمى المسيرة السلمية بشكل عام. مرة أخرى حبس العالم العربي أنفاسه ليستمع الى هذا الخطاب.
بعد المقدمة التي سردها في تزييف التاريخ وإلقاء التهم على الضحية وهو الشعب الفلسطيني أراد أن يظهر بمظهر رجل السلام. فهو يشارك الرئيس اوباما رؤيته ورؤية "العالم الحر" بموافقته على قيام دولة فلسطينية. فهو لا يريد السيطرة على الشعب الفلسطيني، إنه يريد فقط دولة منزوعة السلاح توجد بها شرطة لقمع المواطنين الذين يفكرون بالمقاومة، دولة لا تملك السلطة على أجوائها ولا على حدودها ومعابرها. دولة تتقبل الكتل الاستيطانية وتهويد القدس وتعترف بها كعاصمة أبدية لإسرائيل. وتعترف بها كدولة الشعب اليهودي.
"العالم الحر" وعلى رأسه الولايات المتحدة الأمريكية برئاسة براك أوباما رحبت بهذا الخطاب وإعتبرته خطوة إلى الامام في الطريق السلام المنشود. أحد القادة الأوروبيين صرح بطريقة بائسة تدعي إلى السخرية: "لقد ذكر نتنياهو في خطابه كلمة دولة وهذا أمر إيجابي".
العالم العربي والإسلامي صمت مثل أهل القبور، بعض الأصوات الفلسطينية الهزيلة تحتج هنا وهناك.
أين الخطاب العربي؟؟
العرب، المشهورين بالخطابات منذ العصر الجاهلي مرورا بالعصور الإسلامية المتعاقبة وحتى يومنا هذا لماذا عقد لسانهم؟
للتذكير فقط، كان الخطيب في العصر الجاهلي بمثابة وزير إعلام القبيلة يقدم النصح والإرشاد والمفاخرة ويمثل قبيلته في مقابلة الملوك. وما زلنا حتى اليوم نردد خطب قس بن ساعدة وسهل بن عمر ولبيد بن ربيعة. وجاء الإسلام وجعل من الخطابة فنا ومهنة. فلو لم يكن هناك خطباء لما أنتشر الإسلام في أصقاع الأرض وما زلنا نردد خطبة الوداع وخطب علي بن أبي طالب. وبعد نشوء الأحزاب والحركات الإسلامية كان لكل منها خطيب خاص دخل التاريخ الاسلامي من خلال خطبه فهذا الحسين بن علي والحجاج بن يوسف وزياد بن أبي سفيان والكثيرون غيرهم على مر العصور، بزوا الخطيب الاغريقي باركليس وتركوا الخطيب الروماني شيشرون في الخلف. هذا ناهيك عن خطب الجمعة التي أصبحت جزءا من الصلاة في كافة الجوامع. والآن لا يوجد أحد يرد على خطابي أوباما ونتنياهو بخطاب؟
أين شيخ الأزهر محمد سيد طنطاوي الذي بعث الدعوات للاستماع لخطاب اوباما باسمه وباسم رئيس جامعة القاهرة؟ إذا عجز المرء في مرحلة معينة عن استرداد حقه السليب بالقوة فقد يعذر، ولكن أن يعجز حتى عن الكلام؟ فهذا لا عذر له إلا إذا كان ميتا.

Tuesday, June 02, 2009

الانتصار الاخير


علي زبيدات – سخنين

في صباح الخامس من حزيران عام 1967 شنت القوات الإسرائيلية هجوما مفاجئا على 3 دول عربية. خلال ساعات قليلة من اليوم الأول كانت الطائرات الإسرائيلية قد دمرت معظم الطائرات المصرية وأخرجت سلاح الجو المصري من المعركة تماما وأبقت القوات البرية المصرية بدون حماية فريسة للنيران الإسرائيلية المنهمرة من الجو والبر وشقت الطريق السريعة أمام القوات الإسرائيلية للوصول إلى قناة السويس بعد احتلال قطاع غزة وشبه جزيرة سيناء. بعد ذلك وجهت ضربة للجيش الأردني واحتلت القدس الشرقية وباقي الضفة الغربية. وهكذا وقعت فلسطين التاريخية بأكملها تحت الاحتلال الإسرائيلي. وفي الأيام الأخيرة من هذه الحرب الخاطفة استفردت بالقوات السورية وقامت باحتلال هضبة الجولان.
مما لا شك فيه أن هذه الحرب كانت من الناحية العسكرية انتصارا يصعب تصديقه يكاد التاريخ الحديث لا يعرف شبيها له.
قبل هذه الحرب كانت إسرائيل قد حققت انتصارين عسكريين: الأول في حربها عام 1948 حيث استولت على 78% من فلسطين وشردت شعبها ونهبت أرضه والانتصار العسكري الثاني كان في عام 1956 من خلال العدوان الثلاثي على مصر حيث احتلت قطاع غزة وسيناء ولكنها أرغمت على الانسحاب منهما بعد عدة أشهر.
لقد أطلق العرب على هذه الحرب ونتائجها أسم النكسة التي انضمت إلى شقيقتها، النكبة التي ولدت عام 1948. وفي أعقابها تغيرت الإستراتيجية العربية من شعار: إزالة مصدر العدوان، أي القضاء على إسرائيل وتحرير فلسطين إلى شعار: إزالة آثار العدوان أي تحرير المناطق التي احتلتها إسرائيل في هذه الحرب.
في الذكرى ال42 لحرب حزيران، لست بصدد دراسة وتحليل هذه الحرب، فقد كتب الكثير في هذا المجال وسوف يكتب المزيد حاليا ومستقبلا وأكتفي برصد الخطوط العريضة للتحولات التي طرأت على المنطقة في أعقاب هذه الحرب وكنتيجة مباشرة وغير مباشرة لها.
الأمر الأول الذي يلفت النظر أن هذه الحرب كانت بالنسبة لإسرائيل، من الناحية العسكرية انتصارا كبيرا ولكنها في الوقت نفسه كانت الانتصار الأخير. حيث شنت بعدها خمس حروب كبيرة وهي حرب الاستنزاف وحرب أكتوبر 1973 والحرب اللبنانية الأولى عام 1982 والثانية عام 2006 والحرب الأخيرة في غزة عام 2008، هذا بالإضافة إلى العديد من المعارك الأخرى بدءا من معركة الكرامة والاعتداءات المتكررة على لبنان ومحاولات قمع الانتفاضة الأولى والثانية.
السؤال الذي يطرح نفسه هنا: لماذا حتى هذه الحرب كانت إسرائيل تحقق الانتصارات وبعدها إما أنها لم تحقق نصرا يذكر وإما أنها كانت تهزم؟ هل طرأ انقلاب في موازين القوى العسكرية؟ هل ضعفت إسرائيل عسكريا وبالمقابل ازدادت قوة الجيوش العربية؟ الجواب هو كلا، لا هذا ولا ذاك. ميزان القوى العسكري ما زال في صالح إسرائيل فبالإضافة إلى أنها ما زالت تملك أقوى سلاح جوي في المنطقة وتمتلك أكثر الأسلحة تطورا فأنها تمتلك كمية هائلة من أسلحة الدمار الشامل ومن ضمنها الأسلحة النووية. بالمقابل ما زالت الجيوش العربية الرسمية تعاني من الضعف والتخلف على كافة الأصعدة. إذن ينبغي أن نبحث عن السبب في مكان آخر.
لقد كشفت حرب حزيران 1967 أن الجيوش العربية مجتمعة غير مستعدة وعاجزة عن مواجهة إسرائيل وأكثر من ذلك: كانت تفتقر إلى ابسط الخطط العسكرية هذا بالإضافة إلى نقص بالأسلحة والتدريب والكفاءات والقيادة السليمة. لقد كانت الجيوش العربية مرآة لأنظمتها الفاسدة والمتخلفة. بالمقابل كانت إسرائيل تتمتع بالتفوق العسكري وخصوصا التفوق المطلق لسلاحها الجوى وكانت على تمام الاستعداد لخوض الحرب وامتلاكها للخطط العسكرية هذا بالإضافة إلى الدعم الأجنبي وخصوصا الأمريكي والأوروبي وكذلك استغلالها لحرب إعلامية ونفسية ناجعة. هذه الصورة لم تتغير جذريا حتى الآن وبالرغم من ذلك تعجز إسرائيل من تحقيق النصر، والسؤال لماذا؟
ما عدا الحربين الاولتين اللتان تلتا حرب حزيران، أي حرب الاستنزاف وحرب أكتوبر 1973 لم تخض إسرائيل الحروب ضد الجيوش العربية الرسمية، بل ضد حركات مقاومة تحظى بعمق جماهيري وفي كثير من الحالات كان الجماهير هي القوة الأولى. هذا التحول الجوهري في مضمون الصراع عمل على تحييد قسم كبير من التفوق الإسرائيلي العسكري ومن جهة أخرى أتاح الفرصة لإشكال مختلفة ومتنوعة من النضال.
الأنظمة العربية وجيوشها الرسمية قد خرجت نهائيا من دائرة الصراع خصوصا بعد التوقيع على اتفاقيات كامب ديفيد ووادي عربة وأوسلو وما يسمى بمبادرة السلام العربية. هذه الأنظمة مهزومة عسكريا وسياسيا وما زالت. الصراع اليوم يتمحور بين إسرائيل كدولة كولونيالية وبين الشعب الفلسطيني والشعوب العربية. والشعوب التي تناضل من أجل حريتها واستقلالها قد تتكبد الخسائر الفادحة وتقدم التضحيات الجسيمة وقد تتراجع هنا وهناك ولكنها لا تقهر.
قوة إسرائيل العسكرية قد تفيدها في شن الحروب على الدول المجاورة التي خرجت من دائرة الصراع أصلا بالرغم من الدعاية الاسرائيلية ولكنها لن تفيدها في حرب التحرير الشعبية طويلة الأمد. اليوم تدفع إسرائيل ثمن غطرستها ونشوتها من انتصارها الكبير ولكن الأخير.