Wednesday, November 24, 2010

نهاية الوهم الفلسطيني

نهاية الوهم الفلسطيني

علي زبيدات – سخنين

في الماضي، كنا نعلل أنفسنا بأننا حركة تحرر وطني تخوض نضالا ضد الصهيونية والامبريالية والرجعية العربية أطلقنا عليها مجازا اسم "الثورة الفلسطينية". وكنا ندعي بكل صلف وغرور بأن حركتنا الوطنية هذه هي طليعة حركة التحرر العربية وطالبنا الشعوب العربية وأنظمتها أن تحشد جميع طاقاتها لخدمة قضية العرب الأولى ألا وهي تحرير فلسطين من براثن الصهيونية.
بعد مرور فترة قصيرة من ضياع فلسطين تبين إننا لا نملك حركة تحرر وطني ولا يحزنون. وإن الثورة التي طبلنا لها وزمرنا لم تكن في أحسن الحالات أكثر من مقاومة متواضعة فرضها الواقع المؤلم نتيجة لنهب الأرض والتشريد في عام النكبة. مجرد اعترافنا الرسمي بدولة إسرائيل تخلينا بمحض إرادتنا عن تحرير 78% من فلسطين. أما ال22% المتبقية فيتم التفاوض حولها، وبما إننا كرماء وإسرائيل تستأهل يمكن أن نتنازل عن بعض نسبة مئوية أخرى. أما كلامنا السابق عن النضال ضد المعسكر الامبريالي العالمي فقد لحسناه تماما بع أن حولناه إلى تعاون وتحالف، كيف لا وهذا المعسكر يمللك 99% من أوراق حل القضية؟ وتعبيرا عن حسن نوايانا فقد عينا موظفا من بنك إمبريالي رئيسا لحكومتنا الوطنية. وجلبنا أحد الجنرالات الامبرياليين لكي يدرب " فدائيينا" ولكن هذه المرة ليس من أجل القيام بعمليات فدائية في عمق إسرائيل بل من أجل حمايتها.
أما بالنسبة لاعتبار حركتنا الوطنية طليعة حركة التحرر الوطني فقد كفرنا عنه بانضمامنا إلى معسكر المعتدلين العرب. حلفاؤنا اليوم هم الملوك والرؤساء والأمراء العرب الذين يجثمون على صدور شعوبهم. شطبنا من قاموسنا مصطلح الرجعية العربية واستعضنا عنه بمصطلح "المرجعية العربية" بعد انطلاقة مبادرة السلام العربية التي بالرغم من تفاهتها تدوسها أقدام الإسرائيليين والامبرياليين على مختلف جنسياتهم.
بالرغم من ذلك ما زلنا نعيش وهم حركة التحرر الوطني أو ما يسميه المتفائلون منا بالثورة الفلسطينية. لقد آن الأوان أن نستفيق من هذا الوهم الذي هو ليس أكثر من مزيج من أحلام اليقظة والكوابيس. الاستفاقة من هذا الوهم تحتم تحطيم الأصنام التي نعبدها، ونحر بقراتنا المقدسة على مذبح الحقيقة. الاستفاقة من هذا الوهم تحتم انطلاقة فكرية وسياسية جديدة.
أولا وقبل كل شيء يجب أن نعترف أن فلسطين ليست مركز العالم حتى إنها ليست مركز المنطقة. لم تكن فلسطين على مر العصور أكثر من إقليم، مقاطعة، ولاية، سنجق، من منطقة أوسع كانت تسمى وما زالت تسمى بلاد الشام، وهي بدورها جزء من منطقة أوسع تمتد من الهلال الخصيب حتى وادي النيل. الشعب الفلسطيني الذي عاش في هذا الإقليم كان هو الآخر على مر العصور جزءا لا يتجزأ من شعوب هذه المنطقة. قامت في هذه المنطقة قديما وحديثا حضارات إنسانية عديدة واندثرت، قامت إمبراطوريات وممالك ودول وزالت، بعضها كانت تفرض سيطرتها على المنطقة بكاملها وبعضها كان يستفرد بالسيطرة على هذا الإقليم أو ذاك أو على بعض الأقاليم لفترة من الزمن. حسب معلوماتي لم تكن فلسطين في يوم من الأيام كياننا سياسيا منفردا ومستقلا. مثلها مثل باقي الأقاليم. في العصور القديمة والحديثة كانت جزءا من دولة عاصمتها إما في الحجاز أو دمشق أو بغداد أو مصر أو اسطنبول. بعض المؤرخين يشيرون إلى فترة حكم ظاهر العمر بأنها الفترة الوحيدة التي تمتع فيها هذا الإقليم ببعض الاستقلال السياسي. ولكن هذا أيضا حدث في إطار صراع داخل الدولة العثمانية ومع أقاليم أخرى من صدا وحتى دمشق.
عندما كانت فلسطين أو أي إقليم آخر يقع تحت نير الاحتلال الأجنبي كانت مسؤولية تحريرها تقع على عاتق باقي الأقاليم حسب ميزان قوتها. صلاح الدين الأيوبي هو خير مثال على ذلك عندما حررها من الصليبين.
الدول العربية الحديثة ليست سوى إفرازات للتوافق الانجليزي الفرنسي أطلقنا عليها في حينه: حظائر سايكس – بيكو. لكننا في الواقع تهافتنا عليها وقبلناها بالأحضان نحيي ذكرى "استقلالها" كل عام.
لقد آن الأوان أن نعيد الأمور إلى نصابها الحقيقي، إلى وضعها الطبيعي: فلسطين هي جزء لا يتجزأ من بلاد الشام وارض الكنانة وهي التي كانت دائما تتولى قيادة الحركة الوطنية. سكان فلسطين عاجزون ماديا وتاريخيا عن القيام بمثل هذه المهمة. لا يوجد عندنا عنصر بشري كاف للقيام بهذه المهمة. التحولات الكمية لا يمكن أن تتحول إلى تحولات كيفية، لسبب واحد على الأقل وهو انه لا يوجد هناك كم أصلا. عندما نقول مصر هي أم الدنيا نتكلم عن وجود أكثر من 80 مليون إنسان وهذا بحد ذاته أكبر ضمان لتحول التراكمات الكمية في النضال إلى تحولات كيفية. بلاد الشام هي الأخرى تملك طاقات كمية تستطيع أن تتحول إلى طاقات كيفية تغير وجه المنطقة. جريمتنا التي لا تغتفر هو تمسكنا بالوهم القائل أن حركة التحرر الفلسطينية هي طليعة حركة التحرر العربية وأن "الثورة" الفلسطينية هي طليعة الثورة العربية. كلام فارغ: الثورة في مصر أو في سوريا هي أهم بما لا يقاس من أية أوهام عن ثورة في فلسطين. اليوم تقف مصر أمام انتخابات برلمانية، وهذه الانتخابات بالطبع لن تجلب أية تغييرات كيفية. ما زال الحزب "الوطني" الحاكم قادرا على تزييف إرادة الشعب، لكن مصر حبلى بالتغيرات الثورية. تصوروا ثورة منتصرة في مصر كيف سوف تغير وجه التاريخ؟. الثورة في سوريا هي الأخرى أهم من الثورة في فلسطين بما لا يقاس. والشعب السوري يمتلك الكم الذي قد يتحول إلى كيف. ثورة ظافرة في سوريا لن تطالب بتحرير الجولان المحتل فحسب بل بتحرير كل شبر من بلاد الشام. على المناضلين الفلسطينيين أن يتخلوا عن غرورهم المصطنع ويعودوا إلى الأصل، ينخرطوا بل ينصهروا بحركات التحرر في مصر وسوريا على وجه الخصوص. يجب التخلص نهائيا من سياسة "عدم التدخل في الشؤون العربية الداخلية" التي مارستها منظمة التحرير لفلسطينية لفترة طويلة واستعملتها وسيلة للارتماء في أحضان الامبريالية والرجعية. لعل أكبر خطأ ارتكبه جورج حبش ورفاقه على الساحة الفلسطينية كان إقامة الجبهة الشعبية لتحرير فلسطين بدلا من العمل على تطوير حركة القوميين العرب لكي تصبح نواة لثورة عربية شاملة. هذه الخطوة سببت تشرذم الحركة وسقوطها في مستنقع القطرية حتى انحلالها حتى في الأماكن التي حققت فيها انتصارات كاليمن الجنوبي.
يجب على الوهم الفلسطيني أن يخلي مكانه أمام الحلم العربي.

Wednesday, November 10, 2010

في الذكرى السادسة لاستشهاد ياسر عرفات

في الذكرى السادسة لاستشهاد ياسر عرفات – هل بكيتم على عمرو؟؟
علي زبيدات – سخنين

لقد كتب الكثير عن الشهيد ياسر عرفات، عن حياته، نضاله واستشهاده. ومما لا شك فيه أن المزيد سوف يكتب عنه خصوصا وأنه أخذ من الإسرار في مماته أكثر مما أبقاه في حياته. لم أكن في يوم من الأيام من أنصار ياسر عرفات. لم أعتبره رمزا، مع انه كان رمزا رغما عن أنفي وأنوف جميع من عارضوه. ولم أعتبره أب الأمة مع أنه في الحقيقة كان الجد والأب والأخ في شخص واحد، وإلا كيف أصبحنا بعد رحيله أشبه بالأيتام على طاولة اللئام.
ولكني في هذه المناسبة أجد نفسي أردد القول العربي المأثور: دعوت على عمرو فمات فسرني وعاشرت أقواما بكيت على عمرو.
هل بكيتم أنتم أيضا على عمرو؟؟
كان ياسر عرفات أول من فرض نهج التسوية الذي بدأ يتدحرج ككرة ثلج صغيرة حتى أصبح اليوم كتلة مخيفة سحقتنا جميعا. الولادة الرسمية لهذا النهج خرجت إلى الحياة مع تبني ما يسمى بالبرنامج المرحلي لمنظمة التحرير الفلسطينية التي تم تبنيه في الدورة الثانية عشرة للمجلس الوطني الفلسطيني عام 1974. شكل هذا البرنامج نقطة تحول في القضية الفلسطينية من مشروع التحرير لكامل التراب الفلسطيني إلى مشروع إقامة الدولة على أية بقعة يتم "تحريرها" المقصود انسحاب الاحتلال منها عن طريق المفاوضات. لم يكن تبني مثل هذا البرنامج في تلك الفترة من باب الصدفة، حيث دخلت المنطقة بأسرها بعد حرب 1973 التحريكية إلى حمى المفاوضات المباشرة مع اسرائيل. فكان مؤتمر جنيف، وكانت جولات كيسنجر المكوكية. بينما جلس أبو عمار ينتظر الدعوة للمشاركة في هذا المؤتمر، وكان لا بد من قرار فلسطيني يفتح بابا للمشاركة فجاء هذا البرنامج ليلبي الطلب. غير أن الدعوة لم تأت. لأن الطرف الإسرائيلي – الأمريكي لم يكن معنيا والطرف العربي "المنتصر" هو الآخر لم يكن معنيا. النتيجة كانت إنفراد السادات بالمفاوضات والتوصل إلى اتفاقية كامب ديفيد التي أخرجت مصر من معادلة الصراع.
أفرز البرنامج المرحلي، على الساحة الفلسطينية، تشكيل جبهة الرفض المثيرة للشفقة. والتي بدلا من إيقاف كرة الثلج عملت على تسريعها وذلك بقبولها قيادة اليمين الفلسطيني وهيمنته على منظمة التحرير.
عندما أعلن أنور السادات أمام أعضاء مجلس الشعب المصري عن عزمه زيارة القدس المحتلة بحثا عن "السلام" كان أبو عمار يجلس في الصف الأول من المجلس وكان من بين المصفقين للرئيس. ولكن كما هو معروف، خذل السادات أبا عمار مرة أخرى. فبعد أن تخلى السادات عن دور مصر التاريخي مقابل الحصول المشروط على سيناء، لم يستطع أن يقدم لأبي عمار أكثر من حكما ذاتيا هزيلا لا يغني من جوع ولا يؤمن من خوف.
رفض أبو عمار الحكم الذاتي على طريقة كامب ديفيد، ولكنه لم يفقد الأمل من خيار التسوية. وشن حملة سلمية ترأسها أشخاص من الصف الثاني وبعض ممثلي منظمة التحرير في العواصم الأوروبية: عصام سرطاوي، سعيد حمامي، عز الدين قلق. وقوى يسارية إسرائيلية: أوري أفنيري، لوبا الياف وغاصوا في حوارات لم يعرف أول من آخر. هذه الحوارات لم تتمخض إلا عن المزيد من البلبلة والتمزق على الساحة الفلسطينية وتوسيع دائرة الفساد. فبينما كانت المخابرات الإسرائيلية منهمكة في اغتيال المناضلين الحقيقيين في أوروبا مثل وائل زعيتر، محمود الهمشري، باسل الكبيسي وفي لبنان: غسان كنفاني، كمال عدوان، كمال ناصر وغيرهم الكثيرين في أماكن أخرى، كان الآخرون في مكاتب منظمة التحرير يعيثون فسادا مثل نمر حماد في روما الذي أصبح مستشارا رفيعا لرئيس السلطة محمود عباس، وعبد الله فرنجي في ألمانيا ألذي كان يتجسس على الطلاب الفلسطينيين لصالح المخابرات الألمانية، كما أكد لي شخصيا في حينه بعض الطلبة الناشطين، بالإضافة إلى حمامي وقلق في لندن وباريس الذين قتلا بسبب علاقتهما مع الإسرائيليين.
هذه الفترة توجت بخطاب ياسر عرفات في الأمم المتحدة في جنيف عام 1988، حيث وعد إذا ما لبى الشروط الأمريكية بفتح حوار مباشر مع الإدارة الأمريكية. وقد كانت عدة وفود تمثل الأحزاب العربية الإسرائيلية حاضرة إثناء الخطاب وكنت أنا أيضا موجودا ولكن بصفة شخصية. في هذا الخطاب قام أبو عمار ولأول مرة بتلبية الشروط الأمريكية وهي الاعتراف بفرار 242 وإدانة جميع أشكال الإرهاب وسط تصفيق مدوي من جميع الحاضرين الأمر الذي أفقدني أعصابي فصرخت بوقاحة أذهلت الحاضرين عندما وصفت أقوال عرفات بالكذب وأن الشعب الفلسطيني يرفض قرار 242 وقد قدم آلاف الشهداء لإحباط هذا القرار وأن النضال الفلسطيني ليس إرهابا.
في أعقاب هذا الخطاب وافقت الإدارة الأمريكية برئاسة رونالد ريغان بفتح حوار مباشر مع منظمة التحرير. وهذا الحوار بدوره عزز نهج التسوية وأصبح الرجوع إلى إستراتيجية المقاومة والتحرير مستحيلا. وكان إعلان "الاستقلال" في الجزائر محطة على طريق التسوية والتفريط بالثوابت وليس كما يظن البعض، انتصارا وطنيا وانجازا سياسيا.
وصلت مسيرة التسوية والتفريط التي قادها أبو عمار ذروتها في اتفاقيات أوسلو. ولكنه هنا لم يكن وحيدا وربما لم يكن اللاعب الأساسي أصلا في هذه الصفقة، فقد كان محمود عباس هو المهندس الرئيسي لهذه الاتفاقيات. مجريات الأحداث فيما بعد تعزز صحة هذه الفرضية.
بعد 7 سنوات من التوقيع على اتفاقيات أوسلو وبعد تقديم التنازلات الواحد تلو الآخر والتفريط بالثوابت الوطنية. فاجأنا أبو عمار بأنه ما زالت لديه خطوطا حمراء لا يمكن تجاوزها وأنه ما زال يملك فرامل تعمل بصورة جيدة. فقام بفضح كذبة العرض السخي جدا الذي قدمه رئيس الحكومة الإسرائيلية إيهود براك في مفاوضات كامب ديفيد الثانية. وانه لن يقبل أن يكون منسقا أمنيا لدى قوات الاحتلال الصهيوني وأكثر من ذلك فقد أكد أن خيار المقاومة لم يدفن نهائيا وإن كلفه ذلك دفع ثمن باهظ. لقد أنقذ أبو عمار في استشهاده، أولا وقبل كل شيء، تاريخه النضالي، تراثه وسمعته الوطنية.
ولكن أخشى أن يكون ذلك قد جاء متأخرا ولم يعد بالإمكان إيقاف كرة الثلج المتدحرجة. وقد بدا واضحا أن الذين إستورثوا أبو عمار لا يملكون أية خطوطا حمراء وفراملهم معطلة تماما.
تستحق يا أبا عمار في الذكرى السادسة على رحيلك أن نذرف دمعة صادقة على ضريحك تختلف عن دموع التماسيح التي سوف يسكبها من يدعون مواصلة مسيرتك.

Wednesday, November 03, 2010

صفقات الإدعاء - انتصار على الذات

صفقات الإدعاء – انتصار على الذات
علي زبيدات – سخنين

لست محاميا. ولست خبيرا في القضاء الإسرائيلي أو غيره. ولكني لا أعتبر هذا سببا كافيا لكي أحجم عن الكتابة في هذا الموضوع، الظاهرة الخطيرة التي تسمى في لغة القانون: "صفقات إدعاء". مما شجعني على الكتابة في هذا الموضوع هو علمي أن بعض المحامين الملتزمين والخبراء في القضاء الإسرائيلي ينتقدون هذه الظاهرة التي أصبحت نهجا، طريقة عمل، إستراتيجية يلجأ إليها محامو الدفاع بشكل جارف لإنهاء المحاكمة بصفقة يكون المتهم فيها هو الضحية الأساسية. لكن للأسف لا يعبر هؤلاء المحامون والخبراء في القضاء عادة عن أفكارهم إلا داخل حلقات خاصة ولا يخرجون بها إلى الملأ عبر وسائل الإعلام. هذه المقالة ليست سوى محاولة لطرح هذه المسألة الخطيرة للنقاش على المستوى المهني وعلى المستوى الشعبي.
بالرغم من أن الصفقة التي أعلن عنها مؤخرا بين طاقم دفاع أمير مخول والنيابة العامة كانت السبب المباشر لكتابة هذه السطور، إلا أن الكلام لا يدور عن هذه الصفقة بالذات بل عن الصفقات بشكل عام وعن نتائجها وإسقاطاتها على العمل السياسي الوطني. فقد سبق هذه الصفقة صفقات أخرى تركت طعما مرا في أفواه جميع من تابعوها. أذكر هنا على سبيل المثال لا الحصر بعض الصفقات التي أبرمت في الآونة الأخيرة والتي دفع ثمنها الباهظ مناضلونا : الشاب أنيس صفوري حكم عليه ب14 سنة سجن في إطار صفقة ادعاء. الرفيق حسام كناعنة يدفع 10 سنوات من حياته ثمنا لمثل هذه الصفقة. الشاب راوي سلطاني حكم عليه ب6 سنوات سجن على تهم ما انزل الله بها من سلطان. السبب الأساسي في قبول هذه الصفقات كما عبر عنه مؤخرا المحامي حسين أبو حسين لوسائل الإعلام هو:" القبول بأهون الشرين في ظل الظروف السياسية والقضائية السائدة في إسرائيل". ولكن حسب رأيي السبب هو الرضوخ للابتزاز الذي تمارسه النيابة العامة والجهاز القضائي على المتهم وعلى طاقم دفاعه.
لم أطلع على لائحة التهام الأصلية أو المعدلة لأمير مخول أو باقي المناضلين المذكورين. ولكن الصورة أصبحت واضحة: بعد الحصول على الاعترافات بأساليب غير مشروعة يتم تسليمها للنيابة العامة التي تترجمها إلى لائحة اتهام خطيرة ومبالغ بها إلى حد اللامنطق. فمخالفة بسيطة، ولنفرض المشاركة في مظاهرة شهدت بعض المواجهات بين المتظاهرين والشرطة، يتم ترجمتها في لائحة التهام إلى تسعة أو عشرة بنود منها: 1) مهاجمة شرطي بظروف خطيرة. 2) التسبب بأضرار عن سابق إصرار. 3) هجوم يسبب إصابة ملموسة. 4) عرقلة شرطي في حالة تأدية عمله. 5) مشاغبة ينتج عنها ضرر. 6) تجمهر ممنوع. 7) تخطي الحدود لعمل مخالفة...... الخ. الخ. هذا بالإضافة إلى عشرات الشهود (معظمهم من رجال الشرطة). بينما المتهم المسكين لم يعمل شيء سوى انه شارك في مظاهرة مرخصة في دولة تعتبر نفسها ديمقراطية. وعند بدأ المحاكمة، أو حتى قبلها وخلالها، تبدأ المفاوضات للتوصل إلى صفقة إدعاء. هنا تعرض النيابة العامة كرمها الزائد، فهي على أتم الاستعداد لشطب بعض البنود وحتى معظم البنود، المهم في هذه الحالة الحصول على إدانة. هذا ما تصر عليه النيابة العامة: الإدانة أولا والإدانة أخيرا. العقاب يصبح ثانويا: سنة أكثر سنة أقل، أو بضع سنين أكثر أو بضع سنين أقل، هذا قابل للتفاوض عليه حتى التوصل إلى صفقة ترضي جميع الأطراف، أو تقريبا جميع الأطراف. عادة المتهم، وهو الحلقة الأضعف في هذه المعادلة هو الذي يخرج غير راض. من مصلحة القضاة عادة الموافقة على صفقة الادعاء وذلك لتوفير وقت المحكمة بعد الاعتراف بالتهم التي تم الاتفاق بشأنها. النيابة العامة من جهتها حققت ما تريده وهو الحصول على إدانة. أما طاقم الدفاع، يستطيع أن يخرج إلى الملأ ويقول: لقد حصلنا على عقوبة مخففة. وهكذا يخرج الجميع سعداء. المتهم وحده يدخل السجن بدون محاكمة أصلا. أليست هذه مفارقة غريبة عجيبة؟
حسب وسائل الإعلام، تم شطب البند الأخطر في لائحة أمير مخول حول:"مساعدة العدو أبان الحرب" ولكنها أبقت بنود أخرى لا أدري كم تقل خطورتها عن البند المشطوب مثل: "التآمر لمساعدة العدو أبان الحرب" والتجسس، والتجسس الخطير، والاتصال بعميل أجنبي. فإذا كنا متفائلين سوف يقضي أمير السنوات السبع القادمة في السجن أما إذا كنا متشائمين فإنه سوف يقضي عشر سنوات. أليست هذه مأساة؟
السؤال الذي يطرح نفسه هنا: لو استمرت محاكمة أمير حتى النهابة ولم يتم "توفير" زمن المحكمة بل على العكس تم "تبذيره" إلى أقصى حد لمناقشة التهم الموجهة إليه حتى آخر تفاصيلها، وتمت فضح أساليب المخابرات في التحقيق وانتزاع الاعترافات، وبالتوازي استمرت الحملة الشعبية والدولية للدفاع عنه، هل سيتم فرض عقوبة تزيد عن 10 سنوات؟
لقد نفست هذه الصفقة الهواء من أشرعة سفينة المدافعين، وأنقذت المخابرات من التعرض للكشف والفضائح وأضفت على الجهاز القضائي مسحة من الموضوعية والعدالة الزائفة.
ألا تكفينا الصفقات البائسة على الصعيد السياسي حتى نكملها بصفقات أشد بؤسا على الصعيد القضائي؟