Thursday, October 25, 2018

هذه هي الديمقراطية الفلسطينية!

هذه هي الديمقراطية الفلسطينية
علي زبيدات - سخنين

من يظن أن إسرائيل هي الدولة الديمقراطية الوحيدة في المنطقة فهو مخطئ. يوجد هناك دولة أخرى تنافسها بالديمقراطية وهي دولة فلسطين. نعم يوجد هناك من يصر على تسميتها دولة بينما يكتفي البعض بتسميتها سلطة وطنية أو سلطة فلسطينية، إما تواضعا وإما تشكيكا. عن "الديمقراطية" الاسرائيلية نحن نعرف كل شيء أو تقريبا كل شيء: فهي دولة قانون ودولة مؤسسات. لها برلمان يسمى الكنيست منتخب بشكل ديمقراطي كل اربع سنوات أو كلما دعت الحاجة لذلك. وهو مفتوح أمام الجميع بمن فيهم نواب يمثلون من يطلقون على أنفسهم الاقلية الاصلانية الفلسطينية مواطني الدولة. وهناك سلطة تنفيذية تسمى الحكومة مسؤولة أمام البرلمان الذي يستطيع أن يحجب عنها الثقة ويسقطها. وهناك جهاز قضائي "مستقل" يستطيع أن يضع البرلمان والحكومة عند حدهما إذا تجاوزا القوانين الأساسية. وهذه الدولة تملك جيشا يعتبر من أقوى جيوش العالم، ولكن هذه الصفة ليست أهم صفاته. ما يميزه عن باقي جيوش العالم هو كونه الأكثر أخلاقية حتى أصبحت ابشع الجرائم التي يقترفها تخرج من تحت يديه نعمة على المقتولين بسبب "طهارة" سلاحه. ويمارس احتلالا متنورا لا مثيل له في العالم إلى درجة أن الذين يعيشون تحت هذا الاحتلال لا يموتون من أجل دحره والتخلص منه بل على العكس يموتون حرصا عليه وعلى بقائه ويعشقون الحواجز والجدران العازلة والاغتيالات. أصلا لا يوجد هناك احتلال وبالتالي لا يوجد جيش احتلال إذ هل يعقل أن يحتل جيش أرضه؟ هذا غيض من فيض من سمات "الديمقراطية" الاسرائيلية. ومن يريد أن يتنور أكثر في هذا المجال سوف يجد الجواب عند معتوهي الأرض وأشدهم عنصرية ليزودوه بما يريد من معلومات.
ولكن ما هي حكاية الديمقراطية الفلسطينية؟ في هذا الصدد لدي تجربة شخصية مع هذه الديمقراطية تعود إلى ما قبل قيام السلطة، عفوا الدولة، واسمحوا لي أن أقصها عليكم بإختصار: في نهاية عام 1988 قدم ياسر عرفات على رأس وفد فلسطيني رفيع المستوى من أجل إلقاء خطاب في مقر الأمم المتحدة في جنيف. وكان ذلك بناء على إملاءات أمريكية في إطار المساعي للتوصل إلى اتفاقية سلام مع اسرائيل. وقد وصلت هذه المساعي إلى ذروتها شهرا قبل موعد الخطاب المذكور في جنيف، وبالتحديد في الدورة ال19 للمجلس التشريعي في الجزائر حيث تم الإعلان عن " استقلال" فلسطين والاعتراف الضمني بدولة إسرائيل. ولكن التنازلات التي قدمها المجلس الوطني في الجزائر لم تكن كافية بالنسبة للادارة الامريكية حتى تقبل بمنظمة التحرير شريكا رسميا وتبدأ بمفاوضات مباشرة معها. وطالبت ياسر عرفات بالقدوم الى جنيف لكي يلقي خطابا ينص بشكل صريح على الاعتراف بقرار 242 الذي كانت المنظمة بكافة فصائلها ترفضه وإدانة كافة انواع الارهاب والذي يعني نبذ الكفاح الفلسطيني المسلح ضد الكيان الصهيوني. 
كانت الجلسة مفتوحة، وقد غصت القاعة بالوفود القادمة من كافة أرجاء العالم. وكان هناك وفد كبير من عرب اسرائيل ( في ذلك الوقت لم تكن هذه التسمية حساسة كما هي عليه اليوم). كنت هناك، جئت بمفردي قادما من دولة أوروبية. بعد عاصفة من التصفيق استمرت لبضع بدأ ياسر عرفات بإلقاء خطابه.دقائق وفي مرحلة ما من الخطاب قال:" إن الشعب الفلسطيني يعترف بقرار مجلس الأمن 242 ويستنكر ويدين كافة أشكال الإرهاب". فلم أجد نفسي الا وأنا واقفا في احد الصفوف الخلفية في القاعة صارخا في وجه عرفات: " هذا الكلام كذب. فالشعب الفلسطيني يرفض قرار 242 المجحف في حقه وقد قدم آلاف الشهداء لاسقاطه، كما أن الكفاح الفلسطيني ليس إرهابا بل ما تقوم به إسرائيل وامريكا هو الارهابي". فما كان من عرفات الا أن صمت للحظة وقد بدت على وجهه الصدمة، اذ كيف يقوم شخص نكرة بمقاطعة الرئيس بهذه الوقاحة.  ومن ثم قال: "هذه هي الديمقراطية الفلسطينية"  وتابع خطابه بعد أن تفجرت عاصفة التصفيق.
وقعت هذه الحادثة قبل 30 سنة. ولكن ما هي مناسبة سرد هذه القصة الآن؟ المناسبة هي أن منظمة هيومن رايتس ووتش أصدرت تقريرا يدين السلطة الفلسطينية في الضفة الغربية (وسلطة حماس في غزة) باعتقال وتعذيب منهجي للمنتقدين والمعارضين السلميين. وأنها شكلت كيانات بوليسية تمارس انتهاك حقوق الانسان. وطالبت الدول المانحة بتعليق مساعداتها للوحدات والاجهزة الامنية الضالعة بمثل هذه الممارسات. وقد كان رد السلطة على هذه الاتهامات عنيفا ملخصه: أن دولة فلسطين هي دولة ديمقراطية، دولة قانون ومؤسسات (لاحظوا، العبارات نفسها التي تستعملها إسرائيل)، تلتزم بتعهداتها وواجباتها، تحترم حقوق الإنسان وتدافع عنها، وتعتمد في ذلك ليس على المعاهدات الدولية بهذا الخصوص فحسب بل على وثيقة الاستقلال الفلسطينية من حيث الاساس، وأن تقرير هيومن رايتس ووتش حول التعذيب الممنهج والاعتقال هو تقرير سياسي يتوافق مع الموقف الأمريكي.
لست هنا بصدد الدفاع عن هذه المنظمة أو مهاجمتها. ولكن اظن اننا لسنا بحاجة الى مثل هذا التقرير لمعرفة ما يدور في دهاليز الأجهزة الامنية  الفلسطينية (في الضفة وفي قطاع غزة على حد سواء) من تعذيب واعتقالات تعسفية. قامت الادارة الامريكية مؤخرا بتقليص مساعداتها للصحة والتعليم في فلسطين وإيقاف مساعداتها لمنظمة الأونروا، الاجهزة الامنية كانت الوحيدة التي استثنيت من هذه التقليصات. على غرار الديمقراطية الاسرائيلية، اعترفت الديمقراطية الفلسطينية بحصول بعض التجاوزات الفردية التي تقوم الاجهزة الامنية بواجبها بالتحقيق في حيثياتها، ولكن النتيجة كانت دائما، كما في الجارة اسرائيل، عندما يقوم جهاز أمني بالتحقيق مع نفسه، انه لم تتم محاسبة او ادانة أي عنصر ارتكب مثل هذه التجاوزات.
خذوا ديمقراطيتكم وانصرفوا. ليست هذه هي الديمقراطية التي يطمح بها ويناضل من أجلها الشعب الفلسطيني. 


Thursday, October 11, 2018

ما وراء البرامج الانتخابية

ما وراء البرامج الانتخابية
علي زبيدات - سخنين

للوهلة الاولى، قد يظن القارئ أن هذه المقالة تدور حول الانتخابات المحلية الوشيكة. ولكنها بكل تأكيد ليست كذلك حتى ولو تم ذكر اسمها مرات عديدة. فالقصد منها أبعد ما يكون عن الانتخابات المحلية. موقفي كان ولا يزال مقاطعة هذه الانتخابات أسوة بمقاطعة شقيقتها الكبرى، انتخابات الكنيست. وقد سبق وشرحت الاسباب التي دفعتني لاتخاذ مثل هذا الموقف ولا رغبة لدي لتكرار ما قلته في هذا المجال. أعتقد أننا ظلمنا المرشحين لرئاسة البلديات والمجالس المحلية والمرشحين  لعضوية مجالس هذه البلديات. وأعترف بأنني كنت ممن ظلموا هؤلاء المرشحين في بعض الأمور من أهمها أنه لا يوجد هناك اي مرشح قد طرح برنامجا انتخابيا. ولكني غيرت رأيي تماما في هذه النقطة بالذات بعد أن استمعت إلى خطاباتهم في المهرجانات الداعمة وشاهدت عشرات الفيديوهات ومئات البوستات على شبكات التواصل الاجتماعي وتبين لي أن لجميعهم برامج انتخابية رهيبة تعجز عن تحقيقها الدول طوال عشرات السنوات فكم بالاحرى بلديات محدودة الصلاحيات والميزانيات في خمس سنوات؟ هل صادفتم مرشحا لرئاسة بلدية أو حتى لمجلس محلي متواضع ولم يضع على رأس سلم أولوياته واهتماماته البنود التالية:
التربية والتعليم، بناء المدارس والروضات والمراكز الثقافية، رفع نسبة النجاح في البجروت، وتخصيص المنح للطلاب الجامعيين.
حل مشاكل الازواج الشابة وأزمة السكن من خلال توفير القسائم وبناء الدور والشقق لجميع المحتاجين وباسعار شعبية.
توسيع مناطق النفوذ والمسطحات في كل مدينة وقرية.
محاربة العنف في البيت والمدرسة والشارع والمجتمع.
محاربة الفساد في البلدية وفي كافة المؤسسات التابعة لها.
تمكين المرأة ودمجها بالعمل البلدي هذا بالاضافة الى محاربة العنف والتحرش والتمييز الذي تتعرض له ومحاربة القتل على خلفية ما يسمى ب"شرف العائلة".
بناء المرافق الثقافية والاقتصادية والترفيهية.
ألا تشكل كل هذه البنود برنامجا انتخابيا تعجز عن تحقيقه دولة تتحكم بميزانيات تفوق ميزانيات البلديات مجتمعة وكل على حدة بمئات وربما بآلاف المرات؟ وهذا ليس كل شيء، إذا ما أضفنا "الانجازات" التي يروجها رؤساء البلديات الحاليين والذين يطمحون بالعودة لفترة أخرى والتي لا تقل عن "برامجهم" المستقبلية.
هذا يذكرني ببرامج وانجازات أحزابنا و تنظيماتنا على الصعيد الوطني التي لا تتوقف عن أحصاء انتصاراتها على الكيان الصهيوني الغاصب. فمن يستمع لخطاب رئيس اصغر حزب وحتى خطاب أكبر تنظيم فلسطيني في اي مهرجان أو ذكرى أو مناسبة يخرج بشعور لا يقاوم بأن الاحتلال يلفظ أنفاسه الاخيرة وأن الاعداء من تل أبيب إلى واشنطن على وشك رفع الراية البيضاء والاستسلام من غير قيد أو شرط. برامج براقة شكلا فارغة مضمونا كالطبل الأجوف كلما اتسع حجما ضخم صوته وبقي خاويا.
هذا الكلام الذي أقوله هنا يحاكم صاحبه في كافة الدول العربية بتهمة تخريب معنويات الأمة والمس بالامن القومي وتحطيم مناعة الدولة وقد تصل التهم الى الخيانة ومساعدة العدو.
أظن أنه بعد سبعين عاما من العيش بالاوهام ومن غرس وتربية الأوهام والمتاجرة بها آن الأوان لكي نستفيق ونبحث لنا عن بديل آخر. أن نضع على الاقل رجلا واحدة على الأرض ولتبق الرجل الاخرى مرفوعة في الفضاء. أن نتوقف للحظة واحدة عن عد الانتصارات والانجازات ونتذكر الهزائم والنكبات المستمرة. لنبدأ بتواضع وعلى مهلنا: نعترف أولا بضعفنا وعجزنا، وهذا ليس عيبا، لأنه من غير هذا الاعتراف لن نستطيع قلب الضعف إلى قوة والعجز إلى مقدرة. لنبدأ بتنظيف عقولنا وأفكارنا من الغبار المتراكم طوال قرون عديدة من الركود والتخلف. لتكن بداية جديدة على أسس متينة جديدة نستطيع من خلالها أن نكمل المسيرة. دعونا نبدأ من مدننا وقرانا، نتخلص من تفكيرنا العائلي الضيق العقيم، نتوقف عن اللهث وراء مصالحنا الشخصية وننفض عن وجوهنا وكواهلنا غبار الماضي السحيق. ولا تقلقوا سوف يأتي دور البرامج الطموحة التي سوف تصبح قابلة للتطبيق وليس مرتعا للاوهام كما  هي عليه اليوم.
يقول بعض سياسيينا الذين اتحفونا على مدى عقود بمعاركهم الدونكيشوتية وبعنترياتهم داخل أروقة الكنيست وخارجه، أن قانون القومية الاسرائيلي قد أعاد الصراع إلى المربع الأول. حسنا ما السيء في ذلك؟ هذا يعني أن الطريق الذي سلكتموه قد وصل الى نهايته المسدودة بل أعادنا الى نقطة الانطلاق الأولى. فلماذا لا تكملون معروفكم وتتنحون جانبا وتفسحون المجال لغيركم من الأجيال الشابة أن تجرب حظها وتقود المسيرة بفكر جديد ومعنويات جديدة وأساليب عمل جديدة؟.