Thursday, December 14, 2017

كلاب الصيد وكلاب التسلية

كلاب الصيد وكلاب التسلية
علي زبيدات - سخنين

عندما كنت صغيرا كنت كثير الشقاوة. ولكني في الوقت نفسه كنت نحيل البنية ضئيل القوة. وكم عدت إلى البيت باكيا من ضرب الاولاد الاقوى والاكبر مني. وكانت جدتي تزجرني عن الخروج للعب في حواكير الحارة مع الاولاد الكبار ولكني كنت أصر على الخروج لأعود مرة أخرى باكيا واحمل على جسدي أو وجهي علامات الضرب والكدمات. وكانت جدتي تقول لي دائما: "كلاب الصيد مخرمشة الوجوه". كبرت وبقيت هذه الجملة التي ظننتها مثلا شعبيا شائعا مع اني لم اسمعها فيما بعد من  أي شخص آخر، محفورة في ذاكرتي. عرفت ما تعنيه جدتي: فليس كل كلب يصلح للصيد. فكلب الصيد يجب أن يتمتع بالجرأة والقوة فيقتحم الادغال الشائكة ويركض وراء الفريسة حتى يمسك بها وغالبا بعد صراع معها أو مع الكلاب الاخرى، وكان يعود إلى صاحبة ووجهه مليء بالخرمشات. بالمقابل يوجد هناك الكلاب التي يقتنيها بعض الناس في بيوتهم للتسلية واللعب وهي لا تصلح للصيد.
عادت جملة جدتي تستحوذ على تفكيري بعد قرار دونالد ترامب الأخير حول القدس. وكنت اردد بيني وبين نفسي: كم نحن بحاجة إلى كلاب صيد تهجم على ترامب، تنقض عليه وتحكم فكيها على عنقه وتجره ذليلا إلى القدس، حتى ولو عادت ووجوهها مخرمشة وتنزف دم. ولكن تبين إننا لا نملك سوى كلاب للتسلية واللعب.
لنبدأ من النهاية: في مؤتمر القمة الإسلامي الذي عقد مؤخرا في اسطنبول وضم زعماء من 50 دولة إسلامية يمثلون أكثر من مليار ونصف نسمة، لم يكن بينهم كلب صيد واحد (طبعا كلمة كلب صيد هنا لا يقصد منها اي شكل من اشكال المسبة أو الهجاء، بالعكس). كانت القاعة تعج بكلاب للتسلية والترفيه وهذا ما اتعكس في بيانهم الختامي الذي تمخض عن قرارات هزيلة منها:
1- "الاعلان عن القدس الشرقية عاصمة للدولة الفلسطينية ودعوة باقي الدول للاعتراف بدولة فلسطين وبالقدس الشرقية المحتلة عاصمة لها".على حد علمي عدد الدول التي تعترف بدولة فلسطين يفوق عدد الدول التي تعترف بإسرائيل ولكنه إعتراف لا يساوي جناح ذبابة. وسيكون اعترافهم بالقدس عاصمة لمثل هذه الدولة الوهمية هو الآخر بالقيمة نفسها. حيث صفر + صفر = صفر.
2- " قرار ترامب هو تقويض متعمد للجهود المبذولة لتحقيق السلام ويصب في مصلحة التطرف والإرهاب". جميل جدا، وكأن ترامب ومن سبقه من رؤساء أمريكيين بذلوا حقا جهودا جبارة لتحقيق السلام. وكأنهم بعيدون كل البعد عن التطرف والإرهاب.
3- "القرار بمثابة إعلان انسحاب الإدارة الأمريكية من ممارسة دورها كوسيط وراعية للسلام" طبعا، إذ كانت دوما وسيطا نزيها وغير منحاز: تسليح الجيش الاسرائيلي من رأسه إلى أخمص قدميه بأعتى الأسلحة الفتاكة، مساعدات سنوية بمقدار 4 مليار دولار، استعمال الفيتو لصالح إسرائيل عشرات المرات، هذا كله وغيره الكثير يخولها لأن تكون وسيطا نزيها وراعية لتحقيق السلام العادل!!.
4- " القرار تشجيع لإسرائيل لمواصلة سياسة الاستيطان و الابرتهايد". صح النوم، متى توقف الاستيطان؟ وهل كان الاستيطان ممكنا أصلا لولا الدعم الامريكي المادي والسياسي؟
آسف، قرارات كهذه لا تصدر عن كلاب صيد بل عن كلاب للتسلية والترفيه. هل أدلكم على بعض القرارات التي تليق بكلاب الصيد؟ هل فكرت دولة واحدة من الدول الخمسين المشاركة في مؤتمر القمة قطع علاقتها بأمريكا أو بإسرائيل؟ أو التهديد بقطع العلاقات؟ أو أن تدعو السفير الأمريكي وتحمله رسالة احتجاج مباشرة؟ أو على الأقل أن تقوم بإعادة سفيرها من واشنطن للتشاور؟ ولماذا بلع اردوغان كلامه؟ ألم يهدد بقطع علاقاته مع إسرائيل؟ لماذا لم يعلن ذلك في المؤتمر ويدعو المؤتمرين الآخرين أن يحذوا  حذوه؟ وهل فكرت الدول العربية التي تقيم علاقات دبلوماسية مع إسرائيل بإغلاق سفاراتها أو طرد السفراء؟ هل أوقفت سلطة أوسلو التنسيق الأمني مع إسرائيل؟ وما هو سر هذا التمسك الغريب بجثة اتفاقيات أوسلو خصوصا وأن إسرائيل ضربت بها بعرض الحائط منذ سنوات طويلة؟
قبل مؤتمر القمة الإسلامي كان هناك مؤتمرا لوزراء الخارجية العرب في جامعة الدول العربية وكانت كلاب التسلية تسرح وتمرح في الأروقة وخرجت ببيان ختامي أهزل من بيان القمة الاسلامية لم يتعد الإدانة اللفظية المهذبة بكلمة واحدة. أما عن زعامتنا المحلية فحدث ولا حرج: نواب الكنيست العرب يعملون من قلب "العاصمة الابدية" لدولة لدولة إسرائيل وفي أهم مؤسسة سياسية تابعة لها، هل فكروا بمغادرة هذه المؤسسة وهذه العاصمة كشكل من أشكال الرفض والاحتجاج؟ نراهم يستنكرون زيارة الوفد التطبيعي البحريني بينما هم غارقون حتى اذانهم بالتطبيع. وكل عتبهم على ترامب أنه لم يقل: القدس الغربية فقط، لصفقوا له وأراحهم من عناء الإدانات الكلامية ومشقة وقفات الاحتجاج العقيمة.
إسرائيل تمارس سيادتها على القدس الغربية وتعتبرها عاصمتها منذ عام 1948 وقبل أن يجف حبر قرار الامم المتحدة الذي اعتبرها منطقة تحت الإدارة الدولية. ولم تنتظر أحدا  ليعترف بالقدس عاصمة لها. وقبل 50 سنة احتلت القدس الشرقية وضمتها إلى القدس الغربية وأعلنت عنها عاصمتها الموحدة والأبدية بالرغم من أن معظم دول العالم ما زالت تعتبرها مدينة محتلة. خلال هذه الفترة وقعت إسرائيل اتفاقيات سلام مع مصر والأردن ومنظمة التحرير الفلسطينية التي لم تزعجها حقيقة اعتبار إسرائيل للقدس عاصمتها الابدية، حتى أن المنظمة وافقت على ترك القدس لنهاية المفاوضات التي لم تنته بعد ربع قرن، بل في الحقيقة المفاوضات التي لم تبدأ بعد. المنطق يقول عندما يتفاوض طرفان متخاصمان حول قضية معينة يبدآن بحل القضايا الجوهرية بينما تستطيع القضايا الجانبية أن تجد حلولا فيما بعد. أما منظمة التحرير في اتفاقيات أوسلو فقد عكست هذا المنطق رأسا على عقب. فبدأت المفاوضات حول القضايا الجانبية التي استغرقت ربع قرن وارجأت القضايا الجوهرية وهي حق العودة والقدس والحدود إلى أجل غير مسمى.
يبدو أن جدتي رحمها الله قد كانت على علاقة وثيقة مع مالكوم إكس من غير أن تعرف اسمه فهو قد تكلم عن عبيد الحقل مقابل عبيد البيت، أما هي فقد اكتفت بالكلام عن كلاب الصيد وكلاب البيت للزينة والتسلية.

Thursday, November 30, 2017

فلسطين لا تقبل القسمة إلا على نفسها

فلسطين لا تقبل القسمة إلا على نفسها
علي زبيدات - سخنين

قبل كتابة هذه السطور بمناسبة الذكرى السبعين لقرار الجمعية العامة للأمم المتحدة بتقسيم فلسطين قرأت بعض المقالات التي نشرت حول هذه المناسبة على صفحات المواقع الالكترونية. انطباعي العام هو أن جل ما كتب هو تكرار واجترار لما كتب على مر السنوات إن كان مؤيدا لقرار التقسيم أو معارضا له. ولكن بالرغم من ذلك لفت نظري إفتتاحية موقع الجبهة الديمقراطية للسلام والمساواة ومقال نشره عصام مخول تحت عنوان "قرار التقسيم والخيارات المعقدة". كلا المقالين تكرار واجترار من جهة ولكن مع غلاف متجدد من الإنكار، رد التهم، الدفاع عن النفس واختلاق شتى أنواع التبريرات.
للايضاح فقط، هذه المقالة لا تدور حول موقف الحزب الشيوعي الفلسطيني (الإسرائيلي فيما بعد) ولا حول تبريراته (تحليلاته) الجديدة والقديمة من قرار التقسيم. وسيتم التطرق لها ولنتائجها فقط لأهميتها بالنسبة لنا كجزء من الشعب الفلسطيني. ولكن قبل ذلك أود أن أعود خطوة إلى الوراء وأسأل: أين اختفت كل الأصوات التي علت قبل اقل من شهر تطالب بريطانيا بالاعتذار على إصدار وعد بلفور؟ لماذا لم تطالب الأمم المتحدة أو على الأقل جمعيتها العامة بالاعتذار عن تبني قرار التقسيم؟ هل وعد بلفور مشؤوم وقرار التقسيم ميمون؟ وهل بريطانيا منحت أرضا لا تملكها لمن لا يستحقها بينما الجمعية العامة للأمم المتحدة منحت أرضا تملكها لمن يستحق؟ هذا السؤال ليس موجها لتجار سلطة أوسلو الذين قادوا حملة الاعتذار فحسب بل لكل الاطراف الاخرى التي انضمت لهذه القافلة وبعضها محسوب على المعسكر الوطني والمقاوم.
يقول عصام مخول في منشوره المذكور" كان موقف الشيوعيين المبدئي والصحيح يرفض التقسيم وبحدة" وكبرهان على هذا الموقف المبدئي والصحيح يذكر بعض ما كتب في جريدة "كول هعام" والاتحاد ويقتبس مقطعا طويلا من خطاب لمائير فلنر يقول فيه أن الطريق الوحيد للحل يكمن في إقامة دولة عربية - يهودية ديمقراطية ومستقلة. وكأن هذا الحل في ذلك الوقت كان يعبر عن موقف مبدئي وصحيح، ولكن لنترك ذلك جانبا. إذن، السؤال الذي يطرح نفسه هنا: لماذا تخلى الشيوعيون عن موقفهم المبدئي والصحيح؟ ويجيب مخول: أولا، لم يكن للاتحاد السوفياتي دخل في هذا التغيير، والخطاب "الصهيوني" (هذه الإضافة مني) الذي ألقاه غروميكو في الأمم المتحدة لم يكن السبب، تصويت الاتحاد السوفياتي مع الولايات المتحدة ومع ال33 دولة لصالح التقسيم هو أيضا لم يلعب دورا. السبب الوحيد حسب رأي عصام مخول لتغيير هذا الموقف المبدئي والصحيح هو أنه مع تطور الأحداث واختلال ميزان القوى لم يعد مبدئيا ولا صحيحا، وحل مكانه موقف مبدئي وصحيح آخر (ديالكتيك يا أخي!) وتم تبني الموقف الجديد بفضل الرؤية الواضحة وبعيدة المدى للحزب الشيوعي. فقد اكتشف أن الرجعية العربية كانت متواطئة مع الصهيونية والامبريالية وهي لم ترسل جنودها لمنع إقامة الدولة اليهودية بل لمنع إقامة الدولة العربية وقد نجحت بذلك، ورأى الحزب بنظرته الثاقبة أن الخيار لم يعد بين تقسيم فلسطين وبين الدولة ثنائية القومية الديمقراطية المستقلة. بل أصبح الخيار بين تقسيم فلسطين إلى دولتين يهودية وعربية وبين نكبة فلسطين. وهكذا تمت الموافقة على قرار التقسيم لتفادي النكبة ولكنها يا فرحة ما تمت.
التاريخ وما أدراك ما التاريخ وكتابة التاريخ. كان بودي أن أصدق كل ما كتب لولا أن ذاكرتي ليست قصيرة إلى هذا الحد: فما زلت اذكر عندما انصاعت منظمة التحرير الفلسطينية للضغوطات الدولية والإقليمية وخضوع التيار المهيمن عليها واعترفت بدولة إسرائيل التي قامت على أساس قرار التقسيم المحسن بزيادة ربع فلسطين، كيف قامت أبواق الحزب الشيوعي بالطبطبة على ظهر مكسوري الظهر من زعماء المنظمة الذين تبنوا أخيرا موقفهم واصبح "الحجر الذي رفضه البناؤون حجر الزاوية" وأهم من الحجر الأسود.  

قد تحتل فلسطين. وقد احتلت بالفعل في تاريخها عشرات المرات. وقد يطول الاحتلال قرونا وقد يقتصر على بضع سنوات. وقد يتكالب عليها المستعمرون من كل حدب وصوب وينهشون منها الكثير أو القليل. ولكنها في النهاية تبقى فلسطين هي فلسطين ولا تقبل القسمة إلا على نفسها أو على واحد هو شعبها.

Thursday, November 23, 2017

جامعة أم مفرقة الدول العربية؟

جامعة أم مفرقة الدول العربية؟
علي زبيدات - سخنين

في أعقاب الاجتماع الطارئ الأخير لوزراء الخارجية العرب الذي دعت لعقده المملكة السعودية ومملكة البحرين بادعاء تعرضها للعدوان بعد أن أطلق الحوثيون من اليمن صاروخا بالستيا ايراني الصنع على مطار الرياض، بينما تواجه معظم الدول العربية واقعا أخطر بما لا يقاس من سقوط صاروخ بدون أن يحرك ذلك جامعة الدول العربية، كان من الضروري إلقاء نظرة ولو خاطفة على  نشاطات هذه المنظمة منذ تأسيسها وحتى هذا الاجتماع الاخير.
من المعروف أن المبادرة لإقامة جامعة الدول العربية لم تأت من أي طرف عربي بل جاءت من بريطانيا التي كانت في ذلك الوقت تستعمر معظم البلدان العربية حتى الدول العربية السبع التي كانت تعتبر مستقلة مجازا والتي شكلت مجموعة الدول المؤسسة وهي: مصر، المملكة السعودية، سوريا، الاردن، لبنان، العراق واليمن كانت ترزح تحت الهيمنة البريطانية والفرنسية. ولكن لنتجاوز هذه النقطة ولنسأل: هل حققت جامعة الدول العربية ما جاء في ميثاقها ولو بشكل جزئي؟
أحد أهداف جامعة الدول العربية هو التعاون والتنسيق في الشؤون الاقتصادية بين الأعضاء. في الواقع مثل هذا التعاون والتنسيق يكاد أن يكون معدوما، على عكس منظمات دولية أخرى لا تدعي وحدة الانتماء القومي في أوروبا وأمريكا اللاتينية وجنوب شرق آسيا التي حققت الكثير من التعاون الاقتصادي فيما بينها ونقلت بلدانها نقلة نوعية في طريق التطور والتقدم الاقتصادي. الفوارق بين الدول العربية الغنية والدول الفقيرة تزداد اتساعا. بعض الدول العربية تعاني من المجاعات المزمنة بينما تقوم الدول الغنية باستثمار معظم ثرواتها في الدول الغربية الرأسمالية غالبا ما تكون في مشاريع غير إنتاجية وتعود أرباحها إلى الدول الغربية.
من نافل القول أن نتكلم عن التنسيق المعدوم بين الأعضاء، كما ينص الميثاق، في الشؤون الثقافية، الاجتماعية، التجارية والصحة. يكفي هنا أن نذكر أن نسبة الأمية في البلدان العربية من أعلى النسب في العالم وأن مجتمعاتها ما زالت عشائرية أو قبلية أو إقطاعية بينما تحصد الأمراض حتى تلك التي اندثرت من معظم بلدان العالم حياة الكثيرين مثل انتشار الملاريا في اليمن والموت جوعا في الصومال.
يتعهد أعضاء جامعة الدول العربية بالعمل على حل النزاعات فيما بينهم. بينما في الواقع تاريخ هذه المنظمة هو تاريخ زرع وتأجيج النزاعات إلى حد الحروب التي لا نهاية لها وتخليد العداء فيما بينها، نرى ذلك منذ قيامها وحتى اليوم على سبيل المثال لا الحصر: بين الجزائر والمغرب، بين مصر والسودان، بين سوريا والعراق، بين الأردن وفلسطين وبين دول الخليج المختلفة.
كما تدعي الجامعة من خلال ميثاقها حرصها على التنسيق السياسي بين أعضائها. ولكنها في الحقيقة تنسق مع غيرها وتتآمر على بعضها. ويصل هذا التنسيق مع الغير إلى درجة التحالف لضرب دولة عربية "شقيقة". مثل الوقوف مع أمريكا وبريطانيا لضرب العراق، والتحالف مع الحلف الأطلسي لضرب العراق والانضمام للتحالفات الدولية والإقليمية لتدمير سوريا واليمن. اما التآمر على فلسطين منذ البداية فحدث ولا حرج. فقد شاركت بعض الدول الأعضاء مشاركة فعلية في صنع النكبة وتقديم فلسطين للحركة الصهيونية على طبق من ذهب لإقامة دولتها الكولونيالية العنصرية. واستمر هذا التآمر بتوقيع اتفاقية كامب ديفيد بين مصر وإسرائيل اتفاقية وادي عربة بين الأردن وإسرائيل واخيرا رعاية اتفاقيات أوسلو بين منظمة التحرير الفلسطينية وإسرائيل. حتى عندما كانت تدعي الوقوف إلى جانب الشعب الفلسطيني في نضاله لاسترداد حقوقه المشروعة كانت في الحقيقة تحيك المؤامرات ضده. ويكفي أن نذكر هنا، بينما كانت إسرائيل تعيد احتلال الضفة الغربية وتحاصر ياسر عرفات كانت جامعة الدول العربية تجتمع في بيروت لتقدم لإسرائيل جائزة سمتها "مبادرة السلام العربية" والتي ألقتها هذه بدورها في سلة المهملات لانها عرفت منذ ذلك الوقت انها تستطيع التحالف مع معظم دول الجامعة العربية من غير أن تقدم أي تنازل مهما كان بسيطا. وها نحن نرى التحالف السعودي- الاسرائيلي كيف يتطور أمام أعيننا.
لا تتسع هذه المقالة لسرد كافة الكوارث التي جلبتها هذه المنظمة ليس فقط لدولها بل لشعوبها أيضا. باختصار، ماذا تتوقع من22 دولة فاشلة أن تنتج سوى منظمة أشد فشلا؟
لقد آن الأوان لطي صفحة جامعة الدول العربية مرة واحدة وإلى الأبد وبدأ العمل لإقامة منظمة شعبية مهمتها الأولى التخلص من هذه الأنظمة الفاسدة ومحاربة الهيمنة الامبريالية والصهيونية وتعمل على تحرير الشعوب العربية للحاق بركب الحضارة من جديد.

Thursday, November 09, 2017

بيريسترويكا في السعودية

بيريسترويكا في السعودية
علي زبيدات - سخنين

قال آخر رئيس للاتحاد السوفياتي، ميخائيل غورباتشوف، عندما بدأ بتطبيق سياسة البيريسترويكا(إعادة البناء) في منتصف سنوات الثمانين من القرن الماضي، إن هدفه هو إنقاذ البلاد من الانهيار وبعد خمس سنوات احتفل غورباتشوف وحوله زعماء العالم الغربي الذين دعموه وعلى رأسهم الرئيس الأمريكي رونالد ريغن بالانهيار التام للاتحاد السوفياتي. وتبين فيما بعد أن البيريسترويكا (والغلاسنوست) ليس فقط أنها لم تنقذ الاتحاد السوفياتي بل سارعت في انهياره. هل سينجح محمد بن سلمان بما فشل فيه غورباتشوف؟ هل يستطيع أن ينقذ المملكة السعودية من الانهيار؟
قد يتساءل البعض: ولكن ما العلاقة بين الاتحاد السوفياتي السابق والمملكة السعودية؟ حيث لا يوجد هناك مجال للمقارنة ولا يوجد أي وجه للشبه بين الشخصين أو بين النظاميين. طبعا لكل شخص ولكل نظام خصوصياته وللوهلة الأولى يبدو أن الفرق بينهما شاسع إلى درجة حتى الخيال الجامح يعجز عن الربط بينهما. ولكن الحقيقة أن المشترك بين الحالتين أكثر وأعظم مما تظنون. فجوهر الصراع بين الأنظمة أو داخل النظام الواحد، وليس بالضرورة في الاتحاد السوفياتي السابق والسعودية، هو على الثروة والسلطة: من الذي يسيطر على ثروة البلد وما هو شكل السلطة التي تحقق وتضمن هذه السيطرة؟.
طبعا، لست هنا بصدد دراسة أو تحليل أو حتى الكتابة عما جرى في الاتحاد السوفياتي في تلك المرحلة التي انتهت بإنهياره التام، فهذا موضوع قائم بذاته وقد كتب حوله الكم الكثير وله مناسبته. وفي الوقت نفسه لست بصدد دراسة أو تحليل ما يجري حاليا في السعودية، كل ما هنالك هو كتابة مقالة صحفية متواضعة تتناول الأحداث المتسارعة وتشير إلى جوانبها الأساسية بشكل عام.
المملكة العربية السعودية، وهذا اسمها الرسمي، هي دولة حديثة نسبيا تأسست في عام 1932 ولكنها في الواقع ما زالت تعيش في ظلمات القرون الوسطى من كافة النواحي: من حيث التركيبة العشائرية للمجتمع والنظام السياسي والاقتصادي الإقطاعي بل وفي بعض جوانبه يعود إلى ما قبل الإقطاع، أي إلى العصر العبودي. هذا بالإضافة للتشبث بعادات وتقاليد وتراث ومعتقدات تعود هي الأخرى إلى القرون الوسطى تأبى التغيير، ولكن هبوط الثروة عليها بلا حساب من السماء أو على الأصح تفجرها من باطن الأرض على شكل نفط نقل هذه المملكة الصحراوية خلال سنوات قصيرة إلى القرن العشرين والواحد والعشرين حاملة معها مجتمعها القبلي بعاداته وتقاليده البالية. وهنا يكمن التناقض الرئيسي في السعودية. وقد تفاقم هذا التناقض مؤخرا حتى وصل إلى مرحلة الصدام وأصبح غير ممكن إلا بأساليب عنيفة.  
ما يجري في السعودية ابعد ما يكون عن "مكافحة الفساد" كما صرح ولي العهد بل هو صراع بين الفاسدين داخل العائلة المالكة. فالفاسدون الذين تم اعتقالهم من أمراء ووزراء ورجال أعمال تبلغ ثروتهم أكثر من 2 تريليون دولار مما جعل الملك وولي عهده يشعران بالظلم والاجحاف خصوصا وأن تورط المملكة في النزاعات الإقليمية وخصوصا في سوريا واليمن قد استنزف خزينة الدولة هذا بالإضافة إلى سباق التسلح الذي فرضته المواجهة مع إيران والذي كلف في السنة الأخيرة لوحدها أكثر من 100 مليار دولار ثمنا للاسلحة الامريكية. في ظل هذه الظروف ليس غريبا أن يكون الهاجس الذي يستحوذ على عقلية الطغمة الحاكمة هو كيف يمكن إنقاذ المملكة من الانهيار القادم بخطوات سريعة؟. عندما بدأ ما سمي بالربيع العربي في تونس وقفت السعودية ضده وقدمت الدعم من لزين العابدين بن علي وعندما فشلت في مسعاها استقبلته هاربا. كما وقفت إلى جانب حسني  مبارك في وعارضت إسقاط حكمه، ولكنها مرة أخرى لم تستطع انقاذه. ولكنها دعمت بأموالها إنقلاب السيسي الذي أجهض تطور الثورة في مصر وأعاد نظام مبارك بدون مبارك. وعندما وصل الربيع العربي إلى سوريا غيرت السعودية استراتيجيتها وادعت أنها تقف إلى جانب الثورة السورية ضد النظام، ولكنها في الحقيقة أنقذت النظام السوري من خلال عملها الدؤوب على حرف الثورة عن مسارها الشعبي التحرري  من خلال تقديم الدعم للتنظيمات التكفيرية. وكان هدفها من وراء كل ذلك هو إبعاد رياح التغيير عن المملكة بكل ثمن.

كل ذلك لم يطمئن محمد بن سلمان ووالده على سلامة المملكة والاستحواذ على ثروات البلاد، لذلك نراه يرتمي في أحضان المحور الأمريكي- الصهيوني لعله يوفر لهما سبل النجاة. انهيار المملكة السعودية قادم لا محالة، المسألة مسألة وقت لا أكثر ورياح الحرية سوف تجتاح الجزيرة العربية وتنقل البلاد إلى العصر الحديث.  

Wednesday, October 25, 2017

وعد بلفور - مائة عام من الضياع

وعد بلفور - مائة عام من الضياع
علي زبيدات - سخنين

تمر علينا هذه الايام الذكرى المئوية لوعد بلفور. في هذه الذكرى سوف نكرر للمرة المليون عبارتين اصبحتا عماد أدبنا السياسي ولا غنى عنهما عند الكتابة حول هذا الموضوع. الأولى: وعد بلفور المشؤوم، والثانية: وعد من لا يملك لمن لا يستحق. وكل ما نكتبه ونقوله عدا ذلك ليس سوى تفاصيل. بعد قرن من الزمن وغزارة ما كتب عنه فلسطينيا وعربيا لا يوجد أحد يجرؤ على تجاوز أو انتقاد هذين المصطلحين. ماذا تقول المعاجم العربية عن معنى كلمة مشؤوم؟؟ المشؤوم هو المنحوس، سيء الحظ، المنكود، وباختصار كل ما يجلب الشؤم. كل هذه المعاني ومشتقاتها تشترك بصفة واحدة: التملص من المسؤولية عنها، فهي غيبية، ميتافيزيقية: لسوء حظنا صدر هذا الوعد.. كان شؤما علينا إذ سلخ جزءا عزيزا من بلادنا ومنعنا من الاستقلال والوحدة. المهم، في نهاية المطاف، لا أحد يتحمل مسؤولية الشؤم.
أما العبارة الثانية: "من لا يملك يعد من لا يستحق"، فإننا ننسى أنه في فترة تاريخية معينة كانت الشمس لا تغيب عن ممتلكات الإمبراطورية البريطانية. وأن الحرب العالمية الأولى، التي صدر هذا الوعد في أوجها، كان سببها وهدفها إعادة تقسيم العالم بين الدول الاستعمارية خصوصا وأن ألمانيا انضم إلى نادي الدول الاستعمارية متأخرة وبادرت بالحرب لتضمن "حقها" من السوق العالمية والأراضي التي استولت عليها بريطانيا وفرنسا. وبالرغم من أن فلسطين ودول المشرق العربي كانت في ذلك الوقت تحت السيطرة العثمانية إلا أن بريطانيا كانت تتربص الفرص للاستيلاء عليها وكانت تتعامل معها وكأنها تملكها بالفعل وهذا ما أكدته اتفاقية سايكس- بيكو قبل صدور وعد بلفور بسنة. إذن، كانت بريطانيا "تملك" فلسطين قبل صدور وعد بلفور بسنوات. أصلا أحد أسباب دخولها الحرب العالمية الأولى عام 1914 وشن الحرب على الدولة العثمانية هو الاستيلاء على فلسطين ودول عربية أخرى. وقد حققت غايتها هذه في نهاية الحرب عام 1918. وجاء صك الانتداب ليمنح بريطانيا شرعية دولية لاحتلال فلسطين تحت مسمى لطيف لكن مزيف هو الانتداب، وذلك لكي تستطيع أن تفي بوعدها الذي قطعته للحركة الصهيونية.
هكذا تسلسلت الأحداث باختصار: وضعت بريطانيا عينها على ممتلكات الرجل المريض في تركيا، اتفقت مع شريكتها فرنسا لتقاسمها هذه الممتلكات، أصدرت وعدا لحليفتها الاستراتيجية الواعدة، الحركة الصهيونية، بإقامة وطن قومي لليهود. وفي المقابل منحت حلفاءها العرب الذين حاربوا تركيا إلى جانبها وعودا ضبابية بالاستقلال. عرفت الزعامة العربية برئاسة الشريف حسين وأولاده كل هذه المعطيات حتى السرية منها بعد أن كشفتها الثورة الروسية قبيل نهاية الحرب. إختارت هذه الزعامة، بدلا من مقاومة هذه المخططات واحباطها، طريق المساومة والعمالة. فقد حاولت طوال الوقت أن تقنع بريطانيا بأنها سوف تخدمها أفضل من الحركة الصهيونية. إلا أن بريطانيا لم تقتنع لانها تعرف تركيبة الحركة الصهيونية وتركيبة الزعامة العربية وقد ثبت ذلك فيما بعد، حيث خدمت الصهيونية ومن ثم دولة إسرائيل الاستعمار القديم والاستعمار الجديد على أفضل وجه.
تابعت الزعامة الفلسطينية طوال الحكم البريطاني سياسة الزعامة العربية، التي سميت مجازا بالثورة العربية الكبرى، أي إقناع بريطانيا بأنها سوف تخدمها بشكل أفضل من الحركة الصهيونية،  و كبادرة حسن نية لم تخض مقاومة تذكر ضد وعد بلفور وضد صك الانتداب وضد السياسة الانجليزية التي عملت على قدم وساق لتعبيد الطريق أمام الحركة الصهيونية لإقامة دولتها الموعودة. وبقيت المقاومة محصورة بالاحتجاجات والتمردات الشعبية العفوية. استمرت هذه السياسة حتى قدوم عز الدين القسام في بداية الثلاثينات وقال ما معناه: لا يمكن الفصل بين الحركة الصهيونية والاستعمار البريطاني ولا يمكن مقاومة الأولى والتحالف مع الثانية. غير أن التيار الرئيسي في الحركة القومية الفلسطينية بزعامة أمين الحسيني راهن على بريطانيا حتى اللحظة الأخيرة، حتى نشوب الحرب العالمية الثانية، عندها فقط نقل ولاءه لألمانيا النازية والنتائج معروفة.
اليوم يطالب رئيس السلطة الفلسطينية، محمود عباس بريطانيا بالاعتذار عن هذا الوعد "المشؤوم". أما بريطانيا فقد صرحت أنه ليس بنيتها أن تعتذر فحسب بل على العكس من ذلك سوف تحتفل بمشاركة إسرائيل بهذه الذكرى. لا أدري بأي عين يطالب رئيس السلطة بريطانيا بالاعتذار وإذا كان جديا بذلك بعد أن قبل بأقل مما ينص عليه وعد بلفور بما لا يقاس. أية مصداقية لمطلبه هذا وهو قد أجهض تقارير متواضعة لإدانة اسرائيل كتقرير غولدستون على سبيل المثال؟ قد يكون هذا المطلب من ناحيته خطوة جيدة للدعاية والاستهلاك المحلي ودغدغة مشاعر الجماهير الفلسطينية، وفي أحسن الحالات نوع من العتب على بريطانيا كيف تعترف بدولة اسرائيل وترفض الاعتراف بدولة فلسطينية على 22% من فلسطين.

رفض وعد بلفور يجب ألا ينفصل عن رفض صك الانتداب، قرار التقسيم، قبول إسرائيل في الأمم المتحدة، قرار 242 و338 واتفاقيات أوسلو وعواقبها. رفض وعد بلفور يجب أن يكون جزءا من رفض الهيمنة الإمبريالية بكل أشكالها القديمة والحديثة. وإذا كان وعد بلفور مشؤوما فإن الزعامة العربية من المحيط للخليج أشد شؤما.

Thursday, October 12, 2017

ما قبل الانقسام وما بعد المصالحة

ما قبل الانقسام وما بعد المصالحة
علي زبيدات - سخنين

الكذبة التي يتم الترويج لها منذ فترة طويلة وكان النزاع بين حركة فتح وحركة حماس يقوم على خلفية ايديولوجية بين حركة علمانية ديمقراطية وحركة دينية/اسلامية هي ابعد ما تكون عن الحقيقة. تاريخيا، علاقة فتح بحركة الإخوان المسلمين لا تقل من حيث أواصرها وعمقها عن علاقة حماس بهذه الحركة إن لم تكن تفوقها، مع فرق واحد وهو أن حركة فتح قد سبقت حماس بحوالي ثلث قرن. من المعروف أن ياسر عرفات مؤسس حركة فتح كان في شبابه وأثناء مكوثه في مصر منتميا لإحدى خلايا الإخوان وكذلك كان خليل الوزير(ابو جهاد) وآخرين من جيل المؤسسين. فيما بعد وخصوصا بعد أن استولت فتح على زعامة منظمة التحرير الفلسطينية في أعقاب هزيمة الجيوش العربية عام 1967 بدأت تبتعد تنظيميا وسياسيا عن حركة الإخوان المسلمين ولكنها بقيت متمسكة بنظرتها الدينية للصراع العربي - الصهيوني. ما زال التيار الديني داخل حركة فتح هو التيار الرئيسي حتى يومنا هذا. الانتقال من مرحلة النضال المسلح إلى طريق المفاوضات والتسويات السلمية وقبول كل ما تمليه عليها هذه الطريق من تنازلات ورضوخ للضغوطات الإقليمية والدولية لم يغير شيء في جوهر هذه الحقيقة. كما أن انضمام فئات ليبرالية وصفت بأنها يسارية وعلمانية لم يؤثر هو الآخر على هذا الجوهر.
الصراع بين فتح وحماس هو صراع سياسي يدور بين جناحين مختلفين داخل الطبقة البرجوازية الفلسطينية، التي أطلق عليها اليسار المصاب بجمود عقائدي اسم "البرجوازية الوطنية" وقبل بمحض إرادته أن تقوده في المرحلة التي أطلق عليها مرحلة "التحرر الوطني". قد يقول البعض أن هذا القول يجافي الواقع ويتجنى بالأساس على حماس التي تسمي نفسها منذ تأسيسها وحتى هذا اليوم: حركة المقاومة الإسلامية. هذا صحيح، انها تسمي نفسها كذلك، ولكن هل يتم الحكم على حركة سياسية من خلال تعريفها لنفسها؟ أم من خلال سياساتها وممارساتها العملية على أرض الواقع؟ اليوم يوجد هناك حركات دينية/إسلامية أخرى تشكك ولا تعترف بالطابع الإسلامي لحركة حماس. ومن يضمن ألا تتحول حماس تدريجيا كما تحولت فتح من قبلها تدريجيا في خضم الصراع على السلطة وخصوصا عندما تكون سلطة وهمية كما هي حال سلطة أوسلو؟
المصالحة الأخيرة بين فتح وحماس، كما كانت سنوات الصراع الدامي والانقسام، يجب أن توضع في هذا الإطار. وهي ظاهرة طبيعية، ولا أقل ظاهرة صحية، أبتليت بها معظم الشعوب والحركات الوطنية التي ناضلت من أجل حريتها واستقلالها. ما أريد أن أقوله هنا أن الانشقاق أو الانقسام بحد ذاته ليس الشر مجسدا وأن المصالحة بحد ذاتها ليست الخير كله. السؤال الذي يطرح نفسه بإلحاح هنا: أين المشروع الوطني بكل ما يحدث؟ وبعبارة أكثر تبسيطا: على ماذا كان النزاع وعلى ماذا تمت المصالحة؟ هل ما زال هناك فلسطيني واحد يصدق أن الخلاف كان بين خط المقاومة والتمسك بالحقوق المشروعة والثوابت الوطنية وبين خط التفريط والمساومة؟ وهل هناك من يصدق، فعلا لا قولا، أن المصالحة جاءت لإنقاذ المشروع الوطني؟

ولكي لا أفهم خطأ أنا لست مع الانقسام الذي حصل في الماضي وفي الوقت نفسه لست ضد المصالحة التي تحاك حاليا، ولكني بصراحة ضد الحالة بمجملها قبل الانقسام وبعد المصالحة، هذه الحالة التي أنتجت الانقسام وهي نفسها الحالة التي فرضت هذه المصالحة التراجي-كوميدية. لا اريد الخوض بتفاصيل المصالحة الأخيرة فقد كتب الكثير عنها بين مؤيد ورافض وناقد ومتحفظ، وسوف تكشف الايام القريبة القادمة المزيد من التفاصيل في هذا المجال. ما أود التأكيد عليه هنا هو أن  الطريق التي نسلكها ورسم خارطتها أعداء الشعب الفلسطيني لن تؤدي إلى أي تحرير وإلى أية عودة لهذا الشعب. جميعنا نعي ونعرف هذه الحقيقة ومع ذلك نواصل المسير في هذه الطريق المسدودة. ما أحوجنا اليوم إلى وقفة تأملية، إلى رؤيا جديدة واضحة، إلى أفق واسع، ومن ثم إلى انطلاقة جديدة. ونحن قادرون على ذلك. الشعب الذي صمد أمام النكبة العاتية، ومن صمد أمام قوى الظلم التي تكالبت عليه من كافة الاتجاهات واستمر متشبثا بالحياة تحت أقسى واحلك الظروف، يستطيع أن يصحح مساره ويجترح طريقه القويمة التي تقوده إلى الحرية.

Thursday, September 28, 2017

من فلسطين إلى كردستان مع الحب وخيبة الامل

من فلسطين إلى كردستان مع الحب وخيبة الأمل
علي زبيدات - سخنين

طالما آمنت بوجود قضيتين عادلتين في منطقتنا: القضية الفلسطينية والقضية الكردية. هناك أوجه شبه عديدة وجوهرية بين القضيتين ولكن في الوقت نفسه هناك أيضا أوجه اختلاف عديدة وجوهرية. ولعل وجه الشبه الأساسي هو نضال الشعبين الفلسطيني والكردي من أجل حريتهما في ظروف صعبة تكاد أن تكون مستحيلة في ظل اختلال في موازين القوى. ولعل الاختلاف الأساسي هو أن نصف الشعب الفلسطيني مشرد عن أرضه والنصف الآخر يرزح تحت الاحتلال بينما يسكن الشعب الكردي على أرضه وإن كانت موزعة على أربعة بلدان. على الصعيد الشخصي أصبت بخيبة أمل عميقة من كلتا القضيتين بسبب فقدان البوصلة وما آلت إليه من تناقض مستعصي بين عدالتها وبين انتهازية ورجعية قيادتها. وكما يقول المثل: خيبة الأمل تأتي على قدر المحبة.
لقد كتب الكثير عن القضية الفلسطينية وعن القضية الكردية ولا أظن أن مقالة صحفية متواضعة تستطيع أن تأتي بشيء جديد في هذا المجال. لذا سوف أكتفي بمحاولة شرح موقفي الشخصي من مسألة الاستفتاء على استقلال (انفصال)اقليم كردستان العراق لعله يحمل بين سطوره بعض الفائدة في هذا الموضوع من خلال تقبل أو رفض هذا الموقف.
الأحداث الأخيرة فيما يتعلق بالقضية الكردية وخصوصا في العراق أعادتني إلى أكثر من أربعين سنة للوراء. في منتصف سنوات السبعين دخلت سجن الرملة المركزي حيث أمضيت ست سنوات متتالية. لا ادري اذا كان يسمى سجن الرملة المركزي لكونه السجن الأكبر في البلاد في ذلك الوقت، بالنسبة لي لا اعتراض على هذه التسمية ولكن لسبب آخر: لأنه كان يضم نخبة من قيادة أسرى الفصائل الفلسطينية ومن الأجانب الذين ناضلوا في صفوفها. كان من بين الأسرى الأجانب أسير كردي - تركي تم اختطافه من أحد المخيمات الفلسطينية في لبنان حيث كان يتلقى تدريبات عسكرية وكان ينتمي الى احد الاحزاب التركية الماوية الملاحقة من قبل الجيش التركي خلال فترة الانقلاب العسكري في تركيا. في الوقت نفسه كان هناك أسيران ينتميان للحزب الشيوعي العراقي تم اختطافهما من إحدى الدول الإفريقية لمشاركتهما مجموعة ألمانية -  فلسطينية تابعة للجبهة الشعبية لاختطاف طائرة إسرائيلية، هذا إلى جانب نخبة من كوادر الجبهة الشعبية لتحرير فلسطين والجبهة الديمقراطية. وفي تلك الفترة بالذات تصدر تجدد المعارك بين الحكومة العراقية والاحزاب الكردية الأحداث وذلك في أعقاب اتفاق الجزائر بين صدام حسين نائب رئيس مجلس الثورة آنذاك وشاه إيران حيث اوقفت ايران دعمها للأكراد مقابل تنازل العراق عن مساحات واسعة في شط العرب.
في ظل هذه الظروف كان الأسرى "اليساريون" وكنت على ما أظن من اصغرهم، يجلسون ويناقشون من وجهة نظر الماركسية - اللينينية حق الأمم في تقرير مصيرها بشكل عام وحق الشعب الكردي بشكل خاص. بالرغم من خلافاتهم التنظيمية والأيديولوجية والسياسية إلا أنهم جميعا اتفقوا على حق الشعب الكردي في تقرير مصيره. فقد كان الأسير الكردي - التركي الماوي شبه مقاطع من قبل باقي اليساريين لانه كان يطلق على الاتحاد السوفياتي بالامبريالية الصاعدة (بعد إطلاق سراحه تخلى عن الماوية و أصبح محللا سياسيا معروفا في اسطنبول) وكانت الخلافات المعهودة بين كوادر الجبهة الشعبية والجبهة الديمقراطية على أشدها. ولكنهم اجتمعوا كلهم حول كتيب صغير كتبه ستالين كان يعتبر القول الفصل في المسألة القومية بعنوان:" الماركسية والمسألة القومية" وكانت قيمة وأهمية هذا الكتيب تفوق كل ما كتبه لينين وماركس حول المسالة القومية والتي كانت شحيحة في السجن. على كل حال اعتقد الأسرى اليساريون أن ستالين ينقل ما قاله لينين وماركس بكل أمانة في هذا المجال. يعرف ستالين الأمة كالتالي:" جماعة ثابتة من الناس تألفت تاريخيا على أساس جامعة اللغة والأرض والحياة الاقتصادية والتكوين النفسي المشترك الذي يجد تعبيرا عنه في الثقافة المشتركة".  وبالتالي كل جماعة ينطبق عليها هذا التعريف تصبح أمة لها الحق في تقرير مصيرها. السؤال الذي يبقى مفتوحا ما هو الشكل السياسي الذي يتخذه هذا الحق؟ لقد أكد لينين في كتابه "حق الأمم في تقرير مصيرها" أن المقصود هو حرية تقرير المصير السياسي، أي الاستقلال كدولة، أي إنشاء دولة قومية إلى حد الانفصال التام. نظريا تبنى الحزب الشيوعي العراقي، والأحزاب الشيوعية العربية والتنظيمات اليسارية الفلسطينية، هذا التعريف بحذافيره ولكن عمليا وافق على صيغة الحكم الذاتي أو الفيدرالية كشكل من أشكال حق تقرير المصير. ففي بداية سنوات السبعين عندما اتفقت الحكومة العراقية والاحزاب الكردية على الحكم الذاتي وافق عليها الحزب الشيوعي العراقي. إلا أن هذه الاتفاقية لم تدم طويلا وبعد مواجهات عنيفة فرضت الحكومة العراقية على الأكراد حكما ذاتيا من طرف واحد رفضه الأكراد فما كان أمام الحزب الشيوعي إلا أن يرفضه أيضا. واليوم يطالب الاكراد بالانفصال التام وإقامة دولة قومية كردية ولا يسع الحزب الشيوعي العراقي، أو ما تبقى منه، إلا أن يوافق إذا ما أراد أن يبقى مخلصا لمبدأ حق "الأمم في تقرير مصيرها" الماركسي (الستاليني).
كنت، في تلك الفترة، واحدا من الذين تقبلوا هذه النظرية كأمر مسلم به. بعد خروجي من السجن وبعد تعمقي في المصادر الماركسية تبين لي أن ستالين لم ينقل أفكار لينين حول المسألة القومية بإخلاص، وأن لينين بدوره لم ينقل أفكار ماركس في ذات الموضوع بإخلاص وأن ماركس نفسه كان مشغولا بمسائل أخرى ولم يعر مسألة القوميات وخصوصا في البلدان النامية كامل الاهتمام. أعدت قراءة كراس لينين:"حق الأمم في تقرير مصيرها" ومجموعة من المقالات والخطب نشرت تحت اسم:"حركة شعوب الشرق التحررية الوطنية" فوجدت أن لينين يدافع عن أفكار كارل كاوتسكي الذي يدافع بدوره عن ضرورة قيام الدولة القومية البرجوازية كمرحلة لا بد منها تسبق الثورة البروليتارية، كارل كاوتسكي نفسه الذي وصفه لينين فيما بعد بالمرتد وخيانة الثورة، وفي الوقت نفسه يهاجم روزا لوكسمبورغ التي شككت بمقدرة البرجوازية في البلدان النامية إنجاز ثورة وطنية ديمقراطية والتخلص من التبعية للامبريالية.
من هنا توصلت إلى قناعة تامة وتبلور لدي موقف واضح يرفض اعتبار شعار "حق الأمم في تقرير مصيرها" حقا مطلقا أو حقا مقدسا على العكس من ذلك هو حق نسبي ومشروط.  يقول لينين: " من منطلق ماركسي عند تحليل قضية اجتماعية يجب وضع القضية في نطاق تاريخي معين وتبيين الخصائص الملموسة التي تميز هذا البلد عن سواه في حدود حقبة تاريخية واحدة". وهذا بالضبط ما تجاهلته الأحزاب والحركات اليسارية. في ذلك الوقت، نهاية القرن التاسع عشر وبداية القرن العشرين، كان هناك وهم وجود حركات قومية برجوازية ديمقراطية دعا لينين إلى تأييدها. اليوم هذا الوهم قد تبخر نهائيا. ماركس نفسه كان متعاطفا مع الحركة القومية الأيرلندية لأنها في نهاية المطاف تساعد البروليتاريا الانجليزية للتخلص من شوفينيتها ولكنه في الوقت نفسه كان ضد بعض الحركات القومية السلافية لانها كانت تخدم القيصرية الروسية الرجعية ولا تقدم أي شيء تقدمي للبروليتاريا.
هل قيام دولة كردية مستقلة في شمال العراق كترجمة لحق تقرير المصير يحتوي على شيء تقدمي للثورة؟ أم العكس هو الصحيح؟ أم أنه يعزز النظام الإقطاعي العشائري السياسي للبرزاني؟ ويزيد التبعية للامبريالية الامريكية واسرائيل؟ هل هذا الاستقلال أو الانفصال، سمه كما شئت، يمنح حقا الحرية للشعب الكردي؟ هذا لا يعني أن النظام العراقي افضل وليس دفاعا عنه من أي منطلق كان. الحالة نفسها في فلسطين حيث يتكلم الجميع عن الدولة الفلسطينية المستقلة، هل يجب أن نقبل بدولة هزيلة تحكمها طغمة طفيلية تبقى تابعة لامريكا واسرائيل بحجة التخلص من الاحتلال أو كتطبيق لحق تقرير المصير؟

بالإضافة إلى كل ذلك، لا يعقل أن تنادي بالقضاء على الدولة كدولة بصفتها جهاز قمعي يخدم الطبقة الحاكمة وفي الوقت نفسه تدعم قيام دولة تعرف مسبقا أنها ستكون رجعية وعميلة. نعم، أنا ضد قيام دولة عميلة بزعامة البرزاني في كردستان العراق كما انني ضد قيام دولة فلسطينية عميلة بزعامة محمود عباس ومن على شاكلته. في الوقت نفسه يجب أن يستمر النضال ضد كافة أشكال الاضطهاد القومي  ومن أجل وحدة وحرية الشعوب.

Thursday, September 21, 2017

التحرر عن طريق التسول والاستجداء

التحرر عن طريق التسول والاستجداء
علي زبيدات - سخنين

في خطابه من على منصة الجمعية العامة للأمم المتحدة في دورتها ال72 وأمام رؤساء ووفود الدول الأعضاء وأمام كاميرات وسائل الإعلام العالمية، توقف محمود عباس رئيس السلطة الفلسطينية عدة مرات موجها سؤاله للحضور الذين يمثلون ما يسمى بالمجتمع الدولي قائلا: إلى أين نذهب؟ إلى أين نذهب؟ لو كنت موجودا في القاعة لقلت له بكل بساطة: أفضل شيء هو أن تذهب إلى البيت. فلم يبق من عمرك إلا القليل فلماذا لا تمتع به بين ابنائك واحفادك؟. طبعا أعلم أنه لما سأل: إلى أين نذهب؟ لم يكن يقصد هو وأفراد عائلته بل كان يقصد الشعب الفلسطيني برمته، فهو قد سافر إلى نيويورك خصيصا ليتكلم باسم الشعب الفلسطيني، أليس كذلك؟ صحيح، أنه لم يتكلم باسمنا نحن الفلسطينيين الذين نعيش في المناطق المحتلة عام 1948 حيث تنازل لنتنياهو عن هذا الحق. ولكن لا تقلق يا سيادة الرئيس فالشعب الفلسطيني يعرف إلى أين يذهب بدونك.
ما يحدث في نيويورك في هذه الأيام، أقصد الدورة ال72 للجمعية العمومية التابعة للأمم المتحدة هي مسرحية بالرغم من كثرة النجوم(رؤساء وملوك ووفود تضم النخب من دول العالم)، هي مسرحية هابطة وتافهة باعتراف نجمها الأول دونالد ترامب الذي وصفها بمكان للثرثرة وعدم النجاعة وطالب بإصلاحها. شخصيا، أشد ما أكره هو الاستماع إلى الخطابات المنمقة وغير المنمقة للزعامات بغض النظر عن ألقابها لذلك نادرا ما أجلس أمام التلفاز لاستمع الى هذه الخطابات بالبث المباشر، واكتفي فيما بعد بقراءة بعض التلخيصات أو المقتطفات التي تتناولها وسائل الإعلام لكي أبقى "محتلناً". ولكن لأسباب خاصة من السهل تخمينها كان لدي هذه المرة إستثناءان، فقد استمعت لخطاب محمود عباس وبنيامين نتنياهو كاملين. لست هنا بصدد المقارنة بين الخطابين، اصلا لا يوجد هناك مكان للمقارنة. في خطاب الاول ينضح بالاستجداء والتمسكن وخطاب الثاني يفيض بالوقاحة والتعجرف.
بالإضافة للجملة التي ذكرتها آنفا والتي كررها محمود عباس في خطابه عدة مرات: إلى أين نذهب، إلى أين نذهب؟ وهو يقصد طبعا إذا لم نذهب اليكم (للأمم المتحدة)، فقد كرر جملة أخرى عدة مرات:" لقد قلت لكم ذلك هنا السنة الماضية": قلت أن إسرائيل تواصل الاستيطان ضاربة بعرض الحائط القرارات الصادرة عن الأمم المتحدة. وقلت انها تتراجع عن حل الدولتين، وأنها تماطل في استئناف المفاوضات وتدعي عدم وجود شريك وتضع شروطا تعجيزية وتتهرب من طرح ومناقشة الأمور الجوهرية وتستبدلها بأمور هامشية مثل وقف التحريض. والخلاصة: لقد تبين أن محمود عباس في خطابه الأخير وباعترافه لم يقل شيئا جديدا. فقد قال ما قاله قبل سنة وربما قبل سنتين وقبل 3 سنوات وفي كل دورة للجمعية العمومية.  وتابع: منذ 24 سنة أي منذ التوقيع على اتفاقيات أوسلو اعترفنا بدولة إسرائيل، قبلنا مبادرة السلام العربية التي تضمن تطبيع العلاقات مباشرة مع 57 دولة عربية وإسلامية ولكن اسرائيل رفضتها، اعترفنا بخارطة الطريق الامريكية واسرائيل افشلتها. اعترفنا بالمبادرة الفرنسية ومؤتمر باريس واسرائيل قاطعته، وقبلنا مبادرة بوتين والرئيس الصيني وها نحن نرحب بمساعي دونالد ترامب لعقد صفقة تاريخية. ونحن معكم في محاربة الإرهاب ونريد إنهاء الاحتلال لأن ذلك ضروري لإكمال الجهود لمواجهة الارهاب. ومع اقتراب الخطاب الطويل من نهايته يرفع محمود عباس يديه مستسلما: نحن لا نستطيع حماية أنفسنا، إسرائيل قوية، نطالب بحماية دولية، فإذا لم تحمونا فمن الذي سوف يحمينا؟ كلام الجمعية العمومية لا يمشي وكلام مجلس الأمن لا يمشي... استجداء والمزيد من الاستجداء. تذلل والمزيد من التذلل.
قد يقول البعض إن هذا الكلام فيه الكثير من التجني، فقد هدد الرئيس بالتوجه للمحكمة الجنائية الدولية لتقديم شكوى ضد الاستيطان وضد اعتداءات المستوطنين. آه هدد، أكيد الحكومة الإسرائيلية ترتجف الآن خوفا من هذا التهديد. لم ننس بعد ما صنعتم بتقرير غولدستون وسحب الشكوى بعد الحرب الأخيرة على غزة من المحكمة الجنائية ذاتها.
لا تفهموا الرئيس غلط، فالنضال ضد الاحتلال مستمر ولن يتوقف ولكن فقط بالطرق السلمية، لا عودة للإرهاب مفهوم؟ ولا يهمه نسف مبدأ مقاومة الاحتلال بكل الوسائل من أساسه كما تتبناه الأمم المتحدة نفسها
واخيرا فجر الرئيس قنبلة من العيار الثقيل لم ينتبه إليها أحد وخصوصا في الإعلام المحلي: بما أن السلطة أصبحت دون سلطة والاحتلال دون كلفة، ونحن نقترب من هذه اللحظة تسليم كل شيء من جديد لدولة إسرائيل، كدولة احتلال لكي تتحمل المسؤولية. صحيح أن خياره الأول يبقى حل الدولتين: دولة فلسطينية مستقلة إلى جانب دولة إسرائيل، ولكن بما أن إسرائيل جعلت من هذا الخيار مستحيلا بسياستها الاستيطانية فلتكن دولة واحدة في فلسطين التاريخية يتمتع بها جميع المواطنين بالمساواة. أي أن محمود عباس هو الآخر بدأ يلوح بالدولة الواحدة، ولكن هذه المرة بدولة إسرائيل الواحد’
ألا تشمون رائحة واحدة صادرة عن تصريحات ترامب، نتنياهو وعباس؟؟

Thursday, September 14, 2017

في ذكرى مجزرة صبرا وشاتيلا

في ذكرى مجزرة صبرا وشاتيلا
علي زبيدات - سخنين

ماذا نعني بالضبط عندما نكرر في ذكرى كل مجزرة وما أكثرها منذ عام النكبة وحتى يومنا هذا وبدون كلل أو ملل: " لن ننسى ولن نغفر"؟ هل حقا نقصد ما نقوله أم أن قولنا هذا ليس أكثر من شعار جاف، متحجر وخال من أي محتوى ومضمون نستعمله للتنفيس عن نفسياتنا المنهكة أو كقناع لاخفاء عجزنا وايجاد المبررات لتخاذلنا ورضوخنا؟ وهذا يذكرني بشعار آخر نردده سنويا في مناسبة أخرى يقول: "ثورة ثورة حتى النصر" بينما لم يعد هناك لا ثورة ولا يحزنون.
ماذا يعني عدم النسيان إذا رافقه الصمت والخنوع؟ أليست اضراره في هذه الحالة أكثر من فوائده؟ وما الفائدة من عدم الغفران إذا لم يكن المقصود منه العمل الجاد لمعاقبة المجرمين والانتقام منهم؟ أليس هذا هو حالنا في الذكرى ال35 لمجزرة صبرا وشاتيلا؟. لست هنا بصدد سرد أحداث هذه المجزرة الرهيبة والكلام عن أسبابها ونتائجها. فقد كتب الكثير في هذا المجال من قبل كافة الأطراف المتورطة ومن قبل غيرهم ولم يبق هناك أية معلومة جديدة لاضافتها. ولكن ما زال هناك الكثير ليقال على المستوى الاخلاقي والانساني وعلى الصعيد الشخصي والوطني والعالمي.
لم يعد هناك من ينكر وقوع هذه المجزرة الرهيبة التي راح ضحيتها آلاف المواطنين العزل ومعظمهم من الأطفال والنساء والشيوخ هذا من جهة، ومن جهة أخرى لم أجد في التاريخ الحديث مجزرة أخرى بهذه البشاعة قوبلت بمثل هذه اللامبالاة وعدم الاكتراث حتى من قبل أقرب الناس للضحايا. وللمفارقة، المتهم الرئيسي في ارتكاب هذه المجزرة وهي دولة إسرائيل كانت الطرف الوحيد الذي شكل لجنة تحقيق رسمية بالرغم من كونها أبعد ما تكون عن النزاهة وكان هدفها المعلن هو تبرئة هذا الكيان من المسؤولية، وبالفعل جاءت هذه التبرئة كما كان متوقعا ولكن بطعم الإدانة، وكما عبر عنها رئيس الحكومة الإسرائيلي في ذلك الوقت مناحم بيغن: "عرب يقتلون عربا ويتهمون إسرائيل". وكانت دولة إسرائيل هي الدولة الوحيدة في المنطقة التي شهدت مظاهرة في تل أبيب شارك فيها مئات الآلاف ومن ضمنهم قيادات قاموا هم أنفسهم بمجازر قبل وبعد مجزرة صبرا وشاتيلا ومن ضمنهم شمعون بيريز واسحاق رابين. ولكن بالمقابل لم تقم لبنان التي وقعت على أراضيها هذه المجزرة والتي كان مرتكبي المجزرة المباشرين من مواطنيها، لا على المستوى الرسمي ولا على المستوى الشعبي، بالمطالبة بتشكيل لجنة للتحقيق بما جرى. وما يهمني هنا التشديد على المستوى الشعبي حيث لم تجرؤ لا منظمة التحرير الفلسطينية ولا أحد من حلفائها في المعسكر الوطني اللبناني على المطالبة بذلك. بينما عندما تم اغتيال شخص واحد فيما بعد وهو رفيق الحريري أقاموا الدنيا ولم يقعدوها للمطالبة بلجنة تحقيق دولية ومحاكمة المتورطين حتى عندما كانوا مجهولي الهوية.
جامعة الدول العربية والتي من المفروض أن يكون لها دور ريادي في الموضوع ليس فقط أنها لم تحرك ساكنا واكتفت بالإدانة اللفظية التي لا تكلف شيئا ولا تجدي فتيلا، بل انها وبعد فترة وجيزة أصدرت صك براءة لكل المتورطين في الجرائم بحجة المصالحة الوطنية ووضع حد للحرب الأهلية اللبنانية. وهكذا اصبح المجرم رقم واحد في المجزرة المدعو ايلي حبيقة وزيرا وعضو برلمان يتمتع بالحصانة وتم احتضانه هو وآخرين من قبل النظام السوري"المقاوم". لم يكن حبيقة الوحيد الذي تمت تبرئته بدون أي تحقيق أو محاكمة بل كان هناك أيضا: سمير جعجع، وفادي افرام، ميشال عون، إتيان صقر، كريم بقرادوني، ميشال سماحة، روبرت حاتم، فؤاد ابي ناظر، والقائمة تطول.
الدول العربية مجتمعة في إطار الجامعة العربية كما اسلفت أو كل دولة على حدة لم تقم بأي عمل للتحقيق بما جرى أو لملاحقة المجرمين ومن ضمنهم النظام السوري الذي كانت قواته العسكرية ومخابراته تهيمن على لبنان بموافقة ومباركة أمريكا وإسرائيل. بل أكثر من ذلك، وقبل أن تجف دماء الشهداء في صبرا وشاتيلا قام هذا النظام بواسطة مليشياته العميلة بشن حرب المخيمات سيئة الصيت. موقف ما يسمى المجتمع الدولي كان هو الآخر مخزيا ووصمة عار في جبينه لن تمحى مهما طال الزمن. في الامم المتحدة لم تحرك ساكنا، وأمريكا التي وعدت بحماية المدنيين بعد مغادرة القوات الفلسطينية للأراضي اللبنانية كانت أول من نكثت بتعهداتها وتركت المخيمات فريسة للفاشيين من حلفائها وعملائها إن كان في حزب الكتائب اللبناني وجيش لبنان الجنوبي أو في الكيان الصهيوني.
نعم، العالم أجمع مسؤول عن مجزرة صبرا وشاتيلا وهذا ليس مجرد شعار للمزايدة. العالم أجمع مطالب اليوم وغدا بمحاسبة نفسه أولا ومن ثم محاسبة مرتكبي هذه الجريمة المباشرين. وبما أن جرائم الحرب والجرائم ضد الإنسانية لا تسقط بالتقادم فيجب محاكمة مرتكبي مجزرة صبرا وشاتيلا الاحياء منهم والاموات.

لست ضد التمسك بشعار: "لن ننسى ولن نغفر" بشرط أن يكون معنى لن ننسى اننا لن نسكت ولن نصمت، وأن يكون معنى لن نغفر اننا لن نتنازل عن المطالبة بمحاكمة وإنزال العقوبات بالمجرمين.

Thursday, September 07, 2017

هل ما زالت الثورة ممكنة؟

هل ما زالت الثورة ممكنة؟
علي زبيدات - سخنين

على ضوء ما آلت إليه ثورات ما سمي بالربيع العربي في السنوات الأخيرة وعلى ضوء ما آلت إليه الثورة الفلسطينية من قبل وعلى ضوء نتائج وتجارب الثورات العديدة التي تفجرت في بقاع عديدة على وجه الكرة الأرضية طوال القرن الأخير، أصبح من الضروري أن نطرح السؤال الذي اخترته عنوانا لهذه المقالة: هل ما زالت الثورة ممكنة؟ في الحقيقة راودني هذا السؤال منذ فترة طويلة من الزمن حتى أصبح في هذه الأيام هاجسا لا يمكن التخلص منه ومن ارهاصاته. لطالما آمنت بأن نجاح الثورة يحتم وجود حزب ثوري طليعي على الطريقة البلشفية يقوم بتنظيم وتعبئة الطبقة العاملة وحلفائها من الطبقات المسحوقة ويقود نضالها حتى استلام السلطة السياسية في اللحظة المناسبة، أي على غرار ثورة أكتوبر 1917 في روسيا. ولكن، في الوقت نفسه، هذه النظرية قد فشلت في ألمانيا بالرغم من وجود الحزب الثوري الطليعي والطبقة العاملة الأكثر تطورا وتنظيما من روسيا. بالطبع كانت هناك ثمة أسباب عديدة للنجاح هنا وللفشل هناك ولكن ليس هنا المكان المناسب للخوض في غمارها.
وهناك النموذج الصيني للثورة الذي بدى ملائما لبلدان العالم الثالث حيث الإقطاع ما زال مهيمنا وطبقة الفلاحين الفقراء هي الطبقة الأكبر، والذي يمكن تسميته: حرب التحرير الشعبية طويلة الأمد. هذا الأسلوب نجح في الصين وفيتنام ولكنه فشل في الهند مثلا. وهنا أيضا يوجد أسباب عديدة للنجاح والفشل لسنا بصددها. وكان هناك النموذج الكوبي: حرب العصابات التي تبدأ بعدد قليل من الثوار وتجذب اليها اعداد متزايدة من المواطنين التواقين للتغير حتى اسقاط النظام الرجعي القديم. ولكن هذا النموذج الذي نجح في كوبا قد فشل في بوليفيا والسلفادور ونيكاراغوا وغيرها.
في هذه الفترة كان العالم العربي يغط في سبات عميق استمر أربعة قرون من الركود في كافة المجالات هي فترة الحكم العثماني. لذلك لم يكن مستغربا أن نسمي مجرد نقل التبعية والولاء من الدولة العثمانية إلى الاستعمار البريطاني بالثورة العربية الكبرى وما زال البعض يحتفل بها إلى يومنا هذا(في الاردن مثلا). النموذجان الأقرب للثورة في عالمنا العربي هما أولا، الثورة الجزائرية ضد الاستعمار الفرنسي والتي سرعان ما خفت بريقها وخبا جوهرها بالرغم من استمراريتها الشكلية. ثانيا، ثورة الضباط الأحرار بقيادة جمال عبد الناصر والتي تأرجحت بين الثورة والانقلاب وانتهت مع وفاة قائدها.
في فلسطين، وآسف اذا كنت سأصدم بعض الناس، لم يكن لدينا ثورة في يوم من الايام. كان لدينا وهم ثورة. وكان في مرحلة معينة وهما كبيرا إذ شمل كافة النماذج التي ذكرتها أعلاه. بالأحزاب والتنظيمات اليسارية كانت تتوهم بأنها تخوض ثورة بلشفية أو حرب تحرير شعبية على الطريقة الصينية-الفيتنامية. اما التنظيمات الوطنية والقومية فكانت تقتدي بالثورة الجزائرية أو الناصرية. بعضنا ما زال يعيش هذا الوهم، فبعض التنظيمات اليسارية التي استفاقت من وهمها غيرت اسمها أو سياستها أو كليهما والتحقت بركب التسوية السلمية. ومن لم يستفق ما زال يعيش وهم الاتحاد السوفياتي بعد ثلاثة عقود على سقوطه أو وهم اشتراكية الصين وكوبا بالرغم من عودة الرأسمالية إليها. أما التنظيمات "الوطنية" فوضعها كان اصعب، فمن استفاق من وهم الثورة وقع في وهم الدولة وأخذ يقنع نفسه بأن الثورة قد أنجزت أهدافها الأساسية بقيام سلطة أوسلو والمطلوب اليوم بناء الدولة عن طريق المفاوضات والتنسيق الأمني ومساعدات الدول المانحة.
يبدو أننا أمام طريق مسدود. مرة أخرى هل ما زالت الثورة ممكنة؟ وما يهمني هنا أكثر: هل ما زالت الثورة الفلسطينية ممكنة؟ في ظل واقع النكبة والتشريد نحن لا نملك طبقة عاملة منظمة ولا قيادة ثورية، طليعية وواعية، ولا نملك مساحات شاسعة مثل روسيا والصين لنخوض حرب تحرير شعبية طويلة الأمد، نتقدم عندما نستطيع ونتراجع عندما نضطر لذلك، المسيرة الكبرى لن تكون إحدى خياراتنا، ولا يوجد لدينا أدغال مثل فيتنام نختبئ بها ولا يوجد خلفنا هانوي تدعمنا أو دول مواجهة تحتضنا.
تعود بي الذاكرة لبعض الكتب التي قرأتها في السجن وتأثرت بها (بعضها كان مهربا أو منسوخا بخط يد) إلى جانب كتب ماركس ولينين وماو تسي تونغ وتشي جيفارا كان هناك ثلاثة كتب لمفكرين عرب ما زال تأثيرها ماثلا في مخيلتي بالرغم من مرور ما يقارب الأربعة عقود على قراءتها وبالرغم من أن مؤلفيها قد تخلوا عن بعض ما كتبوه. هذه الكتب هي: نقد الفكر الديني والنقد الذاتي بعد الهزيمة لصادق جلال العظم وكتاب مقدمات لدراسة المجتمع العربي لهشام شرابي. وقد شملت هذه الكتب مجتمعة وكل على حدة نقدا ثوريا طال كافة جوانب حياتنا من الفرد إلى الأسرة إلى الطائفة، إلى العشيرة، إلى الحكام، إلى المثقفين بالإضافة إلى نقد طريقة تفكيرنا وسلوكنا وشخصيتنا والتي ليس فقط أنها قادت إلى هزيمتنا بل هي المسؤولة عن تخلفنا وعجزنا عن اللحاق بركب الحضارة.
شاءت الظروف أن يأتي في بداية سنوات الالفين المفكر الفلسطيني هشام شرابي إلى الناصرة حيث قدم محاضرة أمام عدد كبير من المثقفين والأكاديميين، وكانت أفكاره النقدية لا تزال تعشش في ذاكرتي ومخيلتي وخصوصا تلك التي تنسف البنية الأبوية للعائلة العربية وعلاقتها بالمجتمع والتربية التي تقود للاتكالية والعجز والتهرب. لم يتكلم المحاضر عن هذه الأمور بالذات ولكنه تكلم عن أمور أخرى أكثر أهمية. ولكنها صدمتني صدمة لم استوعبها حتى الآن أشعر بهولها كلما خطرت ببالي وعندما كنت أكتب هذه السطور. وبما أن ما سأكتبه ليس اقتباسا دقيقا بل ما علق بذاكرتي من هذه المحاضرة لذا ارجو النظر اليها من هذه الزاوية فقط. قال هشام شرابي في محاضرته ما معناه: إن التغيير في المجتمع العربي عن طريق ثورة أو انقلاب سياسي أو نضال يأتي من خارج النظام أصبح مستحيلا. الامل الوحيد في تغيير المجتمع العربي بشكل جذري ممكن بواسطة النخب الشبابية التي استلمت الحكم مؤخرا. وأعطى مثلا، الملك عبدالله الثاني، الذي استلم العرش في اللحظة الاخيرة، يستطيع أن يقود الأردن نحو الانفتاح والتقدم. والملك محمد السادس في المغرب الذي يستطيع هو الآخر قيادة بلاده للتطور ومنح الشعب المزيد من الحريات. وبشار الأسد الذي تعهد في خطاب القسم وبعد تغيير الدستور خلال ربع ساعة، بافتتاح عهد جديد يختلف جذريا عن عهد والده، حتى أطلق على السنة الأولى من حكمه بربيع دمشق وتميزت بانتشار المنتديات الفكرية والثقافية والسياسية . هؤلاء "الفرسان" الثلاثة من جيل واحد، جيل الشباب، واستلموا الحكم في فترة متقاربة هم وحدهم القادرون على التغيير. لا ادري ما الذي دفع هشام شرابي أن يضرب أفكاره النقدية السابقة بعرض الحائط، هل هو اليأس من إمكانية تغيير بنية العائلة العربية البطركية ومن التربية والعقلية السائدتين في المجتمع العربي؟ أم هل خدعه جيل الشباب الذي استولى على السلطة عن طريق التوريث؟ على كل حال، على أعتاب نهاية العقد الثاني من حكم هؤلاء الشباب: عبدالله الثاني لم ينحرف قيد أنملة عن خطى والده. فما زالت الاردن دولة تابعة بل أكثر تبعية من السابق، ربما حادثة السفارة الإسرائيلية الأخيرة لم تكن لتمر بهذه الطريقة في زمن الملك حسين. وها هو محمد السادس يكمل مسيرة والده الحسن الثاني بحذافيرها. اما بشار الأسد فبعد اقل من سنة من حكمه أعاد الحكم البوليسي-المخابراتي وطوره بدرجات عن عهد والده حتى يتلاءم مع اقتصاد السوق واستشراء الفساد. الأمر الذي أدى إلى تدمير سوريا للحفاظ على كرسيه بمساعدة الاحتلال الأجنبي من جهة ولبس قناع المقاومة من جهة أخرى. وها نحن نقف اليوم أمام المزيد من الحكام الشباب: تميم بن حمد في قطر ومحمد بن سلمان في السعودية فهل سينضم هما أيضا إلى قافلة التغيير؟ لم يعد هشام شرابي بيننا لأسأله عن رأيه في ذلك.
للمرة الاخيرة: هل ما زالت الثورة ممكنة؟ آسف، لا أملك جوابا قاطعا ومن لديه جواب فليدلي بدلوه. كل ما أستطيع أن أقوله: إذا أصبحت الثورة غير ممكنة فلنستعد لحياة أبدية من العبودية.

Thursday, August 10, 2017

عندما يصبح مثيرو الحروب رجال سلام!

عندما يصبح مثيرو الحروب رجال سلام
علي زبيدات - سخنين

لماذا تتدخل الدول الكبيرة في الشؤون الداخلية لدول  تبعد عنها عشرات آلاف الكيلومترات؟ لماذا تشن دول قوية وغنية الحروب على دول فقيرة لا تهدد أمنها ومصالحها؟  وبشكل عام لماذا كل هذا الاقتتال وكل هذه الصراعات والنزاعات المتفشية على طول هذا العالم وعرضه بين الدول والشعوب والجماعات والأفراد؟ قد تستغربون من الجواب على هذه التساؤلات وأغلب الظن أنكم لن تصدقوه بالرغم من أننا نسمعه ونقرأه بشكل يومي. فالجواب هو: أولا، من أجل الحفاظ على السلم (العالمي، الإقليمي، المحلي). ثانيا، من أجل محاربة الارهاب بكل اشكاله وفي كل مكان. ثالثا، من أجل الدفاع عن الشرعية أو إعادتها إلى نصابها. رابعا، من أجل الحفاظ على أمن وسلامة المواطنين. خامسا، من أجل حماية حقوق الإنسان وحريته وكرامته. والقائمة تطول. أليست جميعها غايات سامية؟
فها هي أمريكا، الدولة العظمى، التي تعتبر نفسها شرطي العالم، وعلى لسان رئيسها ووزير حربيتها، تهدد بشن حرب نووية ضد كوريا الشمالية وإبادة شعب بكامله، وذلك من أجل الحفاظ على السلم العالمي. فترد كوريا الشمالية بتهديد مماثل يقضي على كوريا الجنوبية واليابان وحتى أمريكا نفسها. ولا ننسى الحروب الأمريكية في أفغانستان، الصومال، السودان، العراق وسوريا وذلك ضد الإرهاب الدولي. وتدخلاتها في باقي الدول كبيرة كانت أم صغيرة، قريبة أم بعيدة. وها هي دولة إسرائيل تشن كل بضعة أعوام حربا تدميرية على غزة بحجة محاربة الإرهاب وتبني الجدران العازلة وتقيم الحواجز وتقتل بدم بارد في الضفة الغربية وذلك حفاظا على سلامة المواطنين (أي مواطنين؟!) وها هو النظام السوري وحلفاؤه يحاربون الإرهاب في كل قرية ومدينة سورية حتى ولو كلف ذلك قتل مئات آلاف المدنيين وتهجير نصف الشعب. أما النظام السعودي فهو يقصف المدنيين في اليمن ويهدم البيوت على رؤوس أصحابها كل ذلك دفاعا عن "الشرعية" والعمل من أجل إعادتها إلى سدة الحكم لكي تسهر على أمن وسلامة المواطنين وترسخ أسس العدالة الاجتماعية وحقوق الانسان. لا يوجد أحد أحسن من أحد، فها هو الطيران الروسي المدجج بالصواريخ  يقصف كل من تسول له نفسه التمرد على "شرعية" نظام الأسد. وها هي دول الخليج المنقسمة على نفسها تتنافس على محاربة الإرهاب والحفاظ على حقوق الإنسان وكرامته ومن أجل ذلك فليتنافس المتنافسون. مثل هذه النماذج التي لا تعد ولا تحصى تشمل العالم من اقصاه الى اقصاه.
السؤال الذي يجب أن يسأل هنا: إذا كان الجميع موحدا خلف شعار الحفاظ على السلم العالمي فلماذا لا يحظى هذا العالم ولو بلحظة سلام واحدة؟ وإذا كان جميعهم موحدين في محاربة الإرهاب فلماذا يزداد الإرهاب انتشارا وشراسة؟ وإذا كان الجميع حريصين إلى هذا الحد على حقوق الانسان فكيف فقد الإنسان إنسانيته؟ وإذا كان الهدف هو الحفاظ على أمن وسلامة المواطنين العزل فكيف أصبحت حياة الإنسان لا تساوي أكثر من رصاصة؟
الجواب بسيط وواضح: لأنهم يكذبون. لأنهم يفعلون عكس ما يقولون. فحروبهم ليست من أجل حفظ السلام بل من أجل الأرباح وتحقيق مصالحهم الخاصة ومن أجل الهيمنة والاستغلال. ولا يحاربون الارهاب لانهم هم الارهاب بعينه. ويفرضون بإمكانياتهم بأسلحة الدمار الشامل التي يملكونها جوا من الرعب والإرهاب على كل شعوب العالم. وكيف يتوقعون أن نصدق شعاراتهم حول حرصهم على حقوق الإنسان وهم يقترفون الجرائم ضد الإنسانية صباح مساء.
الكذبة كبيرة، وبسبب كبرها ما زال الكثيرون للأسف يصدقها. وذلك بسبب أبواق الدعاية من فضائيات وإذاعات وصحف ومواقع إخبارية التي تروجها وتنشرها. هذه الأبواق هي التي تصور الحرب العدوانية على انها سلم وتصور الارهاب الحقيقي وكأنه حرب على الإرهاب وتصور القمع والعنصرية والاستغلال والجرائم ضد المدنيين وكأنها حفاظا على أمنهم وسلامتهم، وتصور انتهاك حقوق الإنسان وكأنها دفاع عن حقوق الإنسان وتقدمه لنا في نشرات الاخبار الصباحية والمسائية.
فضح هذه الكذبة وإسقاط كافة الأقنعة عن وجوه صانعيها ومروجيها هي مهمة كل فرد حريص فعلا على السلم العالمي، حريص فعلا على حقوق الإنسان. هي مهمة كل إنسان متشبث بإنسانيته في وجهة الهمجية الحديثة. وهي المقدمة الأولى لإعادة بناء وترميم التضامن العالمي والأخوة بين الشعوب للنضال من أجل مستقبل أفضل للبشرية جمعاء.


Thursday, August 03, 2017

عندما يصبح "اللاعنف" شكلا من أشكال العنف

عندما يصبح "اللاعنف" شكلا من أشكال العنف
علي زبيدات - سخنين

قرأت، صدفة، مقالا كتبه أحد الناشطين الفلسطينيين في مجال حقوق الإنسان نشرته، ولا اظن صدفة،  إحدى الصحف اليهودية الأمريكية الليبرالية بعنوان:" احتجاجات الأقصى تدل على أن اللاعنف الفلسطيني قد وصل". ظاهر المقال كيل المديح للتحرك السلمي الفلسطيني لرفض بوابات التفتيش الإلكترونية التي وضعها الاحتلال الإسرائيلي على ابواب الاقصى ولكن جوهر المقال يذهب بعيدا إلى إدانة النضال الفلسطيني "العنيف" وإلى السكوت عن عنف وجرائم الاحتلال. حسب الكاتب مقتل الشرطيين الإسرائيليين وعائلة المستوطنين في مستوطنة حلميش هي جريمة مدانة قام بها أفراد لا يمثلون إلا أنفسهم ويعمى الكاتب عن رؤية أسبابها وخلفياتها التاريخية. وكأن الامر مفروغ منه، فالنظام مهما كانت طبيعته ومهما كان شكله يحق له احتكار العنف واستعماله  في كافة سلوكه وخطواته متى يشاء وكيفما يشاء أما ضحايا هذا العنف فيحق لهم في أحسن الحالات "الاحتجاج السلمي" فإذا تعدوه أصبح في عداد العنف المرفوض.
لقد غاب عن بال الكاتب أن "اللاعنف" الفلسطيني كان دائما هناك ولم يصل مؤخرا مع احتجاجات الأقصى الأخيرة. هل كان هناك عنف فلسطيني في عام النكبة 1948؟ هل بعض البنادق التركية القديمة تعد عنفا في مواجهة عصابات منظمة مدججة بالسلاح ومدعومة من قبل دولة استعمارية وتخاذل بل وخيانة دول عربية أخرى؟ فلو كان هناك "عنف" فلسطيني مواز ومساو واجه العنف الصهيوني لما حصلت النكبة اصلا. وهل كان الحجر في ايدي اطفال الانتفاضة الأولى في مواجهة الجنود المدججين بالسلاح والدبابات الإسرائيلية بمثابة "عنف" ممنوع اللجوء إليه؟ وهل استعمال الأسلحة البدائية التي وصفها بعض الفلسطينيين قبل الأجانب بالصواريخ العبثية خلال الحروب المتكررة على غزة  في مواجهة طائرات الاباتشي وأف 16 والقنابل العنقودية والفسفورية وغيرها هي أيضا "عنف"مرفوض ومدان؟ حتى فصائل المقاومة الفلسطينية في عصرها الذهبي لم تمتلك أكثر من كلاشينكوف وعبوة ناسفة بدائية.
فقليلا من التناسب وقليلا من الموضوعية يا فرسان حقوق الإنسان لن يضر أحدا. مأساة الشعب الفلسطيني إنه استعمل "اللاعنف" أكثر من اللازم ودفع مقابل ذلك ثمنا باهظا. المسؤول عن 99% من العنف في العالم هي تلك الدول "المتقدمة" "الديمقراطية" التي تتفنن في صنع كميات هائلة من الأسلحة الفتاكة وأسلحة الدمار الشامل للقتل والدمار وتستعمله ضد الآخرين وتبيع ما تبقى منه للآخرين ليستمروا بالقتل والدمار، ودولة إسرائيل بالرغم من ضآلة حجمها تعد سادس دولة في العالم من هذا الصنف. مثل الذين يسكتون ويتغاضون عن هؤلاء ويقيمون الدنيا ولا يقعدوها على الغلابة الذين لا يملكون سوى بعض مخلفات الجيوش النظامية أو سوى أنفسهم ليفجروها كمثل من يسكت عن غاصب شرس ويلوم المغتصبة التي خدشت وجه مغتصبها أثناء مقاومته والدفاع عن نفسها. وفي نهاية المطاف لا يمت ذلك بحقوق الإنسان بأية صلة.  لو كرس أنصار نظرية "اللاعنف" والنضال السلمي بعض نشاطهم لمواجهة تجار الموت والدمار هؤلاء لاختفى العنف بكافة أنواعه وأشكاله.
القانون الدولي يكفل حق الشعوب المضطهدة التي تناضل من أجل حريتها وتقرير مصيرها استعمال كافة وسائل النضال بما فيها الوسائل "العنيفة". ولكن عندما يمارس شعب حقه هذا ينبري لمعارضته ليس فقط الدول والأنظمة التي تضطهده بل أيضا العديد من المنظمات التي تطلق على نفسها "منظمات حقوق الإنسان". بالمقابل يدين القانون الدولي ويحرم الحروب العدوانية والاستعمار ولكن عندما تشن إحدى الدول حربا عدوانية نرى المفارقة تصرخ حتى السماء في صمت هذه المنظمات وفي بعض الأحيان تواطؤها.
ولكي لا افهم خطأ، أنا لست ضد النضال السلمي واللاعنفي، فكل فرد أو مجموعة تعرف ظروفها وتعرف امكانياتها وتختار على ضوء ذلك وسيلة النضال التي تلائمها في ذلك الوقت وذلك المكان المحددين. كل ما أردت التركيز عليه هنا هو حقها في استعمال الوسائل الأخرى إذا كانت نابعة عن موقف أخلاقي راسخ مساند للحق والعدالة. سلاح النقد هام جدا ولكنه لا ينفي ضرورة النقد بواسطة السلاح حسب الظروف الملموسة. وكما قال لينين:" إن شعبا مضطهدا لا يسعى لتسليح نفسه فإنه يستحق أن يعامل معاملة العبيد".
إن الفرية التي توجهها الدول الإمبريالية والأنظمة الاستبدادية التي تدور في فلكها حول عنف وإرهاب كل من يعارض ويقاوم سياستها وتكررها "منظمات حقوق الإنسان حولت "اللاعنف" شكلا من أشكال العنف الذي يلاحق الثوريين.

سوف يبقى اللاعنف الفلسطيني موجودا بل سوف ينمو ويترعرع أكثر كلما تراجع العنف الإسرائيلي. ومن حق الشعب الفلسطيني ممارسة كافة اشكال النضال الشرعية لتحقيق هذا التراجع حتى إزالته نهائيا.  

Thursday, July 13, 2017

عندما يتحول الكابوس إلى حياة

عندما يتحول الكابوس إلى حياة
علي زبيدات - سخنين

قد يظن البعض اني تلخبطت بترتيب الكلمات واقصد: عندما تتحول الحياة إلى كابوس. وهذه عبارة متداولة ومفهومة للجميع على ضوء ما يجري في بلداننا العربية من قتل مجاني ودمار شامل وسقوط القيم والمبادئ وهيمنة الظلم والاستبداد والتخلف. ولكن لا فقد اخترت هذا الترتيب عن قصد، لأشير إلى إرهاصات حالة أشد وطأة بما لا يقاس مما هو متعارف عليه: عندما يصبح الكابوس هو الحياة ذاتها. في هذه الحالة يصبح الكابوس ابديا لا صحوة منه لأنه يصبح هو حياتنا اليومية، نستيقظ معه، نتناول فطورنا معه، نقضي ساعات نهارنا معه، نتناول عشاءنا معه، نسهر معه وناخذه معنا إلى فراشنا. فالكابوس أصبح حياتنا بكل ما تعنيه كلمة حياة من معنى. في الماضي غير البعيد عشنا تجربة"الحياة تتحول إلى كابوس" وكان شعار تلك المرحلة الذي طالما رددناه متفائلين: إشتدي أزمة تنفرجي. وكنا نظن أن اشتداد أزمتنا وصل إلى أبعد الحدود وقد احترقت كل المسافات حتى لم يعد هناك أي حيز على الأرض أو فضاء في السماء لتشتد أكثر. وآمنا بكل جوارحنا أنه جاء دور الفرج. ولكن كم كنا مخطئين. اتضح أن حيز وفضاء الأزمة مطلق بينما استيعابنا لها وتمنياتنا بالفرج كانت نسبية. ما حدث أن المطلق سحق النسبي من غير رحمة. كلما اشتدت الأزمة كلما ابتعد الفرج حتى تلاشى واندثر.
لم نكن دائما نعيش في هذه الحالة العبثية. هذا لا يعني أنه لم يكن لدينا أزمات عويصة ومستعصية بالعكس فقد كانت لا تعد ولا تحصى، فعلى الصعيد الفلسطيني تعرضنا لنكبة ندر مثيلها في التاريخ المعاصر من دمار وتشريد واحتلال، ولكننا لم نفقد الحلم بالتحرير والعودة والحرية والكرامة، وعلى الصعيد العربي عانينا من هيمنة الاستعمار ومن ثم من سيطرة أنظمة استبدادية متخلفة، ولكن إلى جانب ذلك كان الحلم بالاستقلال الحقيقي والعدالة الاجتماعية واللحاق بركب الحضارة طاغيا وقويا. مع تطور الأحداث أخذ الحلم يتحول إلى كابوس بدل أن يتحقق ويتحول إلى واقع. العودة اصبحت تهجير ثاني وثالث ورابع. مع كل هزيمة عربية كان هناك تهجير جديد، ومع كل أزمة عربية جاء تهجير جديد: هكذا حصل في الأردن في عام 1970 وفي لبنان عام 1982 وفي الكويت عام 1990 وفي العراق بعد عام 2003 وفي سوريا في هذه الأيام ولا أحد يعرف ماذا يخبئ لنا الغد. حلم العودة تحول إلى كابوس العودة. وهذا الكابوس أصبح هو الحياة اليومية للاجئين. أما المصطلحات الأخرى مثل التحرير والحرية والحياة الكريمة فقد مسخت بشكل لا يمكن تصوره واصبح الانسان العادي يخجل من ذكرها في ظل اتفاقيات "السلام" والتنسيق الأمني والمفاوضات التي يعجز اللسان عن تعريفها وتصنيفها واستشراس الخصومة بين الفرقاء على سلطة وهمية وعلى بعض الفتات المتساقط عن موائد الاعداء. لم يكن وضع العالم العربي أفضل من الوضع الفلسطيني بل في بعض الحالات كان أسوأ بما لا يقاس. فالشعوب التي كانت تحلم بالحرية والاستقلال قمعت بوحشية من قبل تحالف دولي - إقليمي - محلي. وها هي قوى التخلف والاستبداد تحتفل بانتصاراتها على جثث وجماجم الشعوب.
هذا الوصف، حسب رأيي، لا علاقة له بالتفاؤل والتشاؤم، بالامل واليأس، بالصمود والاستسلام، بل هو وصف جاف وربما كان ناقصا للواقع، للحياة كما نعيشها يوميا ومن لا يشعر بذلك إما لأنه ينعم بجلد أقسى من جلود التماسيح أو أنه يعيش حالة من الإنكار المرضية. لم يعد هناك مكان لمقولة جبران خليل جبران المعروفة: " يقولون لي أذا رأيت عبدا نائما فلا تنبهه لعله يحلم بحريته، وأنا أقول لهم أذا رايت عبدا نائما نبهته وحدثته عن الحرية". أولا، لم يعد هناك حلم بل كابوس مزمن لا يقظة منه. ثانيا، حتى لوكان حلما لما نبهته، دعه يحلم ويتمتع قليلا بحلمه، فمما لا شك فيه أنه سمع الكثير من النظريات والخطابات والشعارات عن الحرية حتى سئم من السمع.

الخلاصة، نحن نعيش في ورطة، معضلة، مأزق، لا ادري ماهي الكلمة الأدق لوصف حالتنا هذه، ويبدو التحرر منها مستحيلا. ولكن الشعوب إذا ما تحدت نفسها أولا والعالم بأسره ثانية فإنها قادرة على صنع المستحيل. لقد آن الأوان للقضاء على هذا الكابوس وتخليص الحياة من جوفه.

Thursday, June 22, 2017

القتل الحلال والقتل الحرام

القتل الحلال والقتل الحرام
علي زبيدات -سخنين

هل أصبح قتل العربي للعربي حلالا وقتل اللاعربي للعربي حراما؟
عندما دهس رجل انجليزي متعمدا بعض المصلين المسلمين في لندن مسببا مقتل شخص واحد وجرح عشرة آخرين نعتناه بالقاتل العنصري، مجرم ومسكون بكراهية العرب والمسلمين. وطالبنا العالم بإدانة واستنكار هذه الجريمة  بكل عبارات الإدانة والاستنكار. وبالفعل جاءت الإدانات من كل حدب وصوب ومن البعيد قبل القريب.
وعندما قامت الشرطة الاسرائيلية بقتل محمد طه ابن كفر قاسم بدم بارد ومن قبله قامت بإعدام يعقوب أبو القيعان من قرية أم الحيران بدم بارد هو الآخر، أقمنا الدنيا ولم نقعدها ضد هذه الشرطة التي تسرع بالضغط على الزناد عندما يكون الذي أمامها عربيا. هكذا فعلنا عندما أطلق أفراد الشرطة النار على خير الدين حمدان من كفر كنا وعشرات الشباب الفلسطينيين ومن ضمنهم شهداء هبة القدس والاقصى ويوم الارض. واتهمنا جهاز الشرطة الاسرائيلية وبحق بأنه جهاز قمعي عنصري ينفذ سياسة الحكومة العنصرية. وطالبنا العالم كله بإدانة هذه الجرائم.
وعندما قام المستوطنون بارتكاب جرائمهم الشنيعة في حق أبناء شعبنا ومنها على سبيل المثال لا الحصر خطف وحرق الشهيد محمد ابو خضير وحرق عائلة الدوابشة قلنا إن هؤلاء الاوباش، قطعان الفاشية لا مكان لهم في المجتمع البشري وعملنا ما نستطيعه، أو هكذا خيل لنا مع أننا نستطيع أن نعمل أكثر من ذلك بكثير، لمحاسبتهم.
وعندما قام الجيش الإسرائيلي قبل عدة ايام بقتل ثلاثة شباب فلسطينيين في القدس ضمن مسلسل لا ينتهي من حرب استنزاف مستمرة منذ سنوات طويلة يشنها جيش الاحتلال حصدت في جولتها الاخيرة منذ اكتوبر 2015 حسب بعض الاحصائيات حياة 272 مواطن فلسطيني، كنا دائما ندين ونستنكر هذه الجرائم وأحيانا نتحرك ولو على حياء لمعارضتها والتظاهر ضدها.
على كل حال، كل هذه الجرائم المذكورة صدرت من أطراف معادية ولا نتوقع منها أفضل من ذلك. كل هذه الجرائم مجتمعة وكل جريمة على حدة، تبدو شاحبة اللون بل تبدو لعب أطفال إذا ما قارناها بالجرائم التي يقترفها العرب والمسلمون في حق بعضهم البعض. نحن هنا لا نتكلم  عن شخص دهس هنا وآخر حرق هناك أو 272 استشهدوا خلال سنة ونصف أو حتى إذا ما قارناها بالحرب الأخيرة على غزة واستمرت 50 يوما وأسفرت عن استشهاد 2147 شهيدا، أو بالحرب التي سبقتها. بل نحن نتكلم عن مقتل مئات الآلاف وربما الملايين ولا نتكلم عن دمار بيت أو قرية أو مدينة بل نتكلم عن دمار بلدان بأكملها. و أعود لأتساءل: هل قتل المسلم للمسلم والعربي للعربي حلال بينما قتل الأجانب للعرب والمسلمين هو وحده حرام؟ العراقيون قتلوا من بعضهم البعض أكثر مما قتله الامريكان أيام الغزو والاحتلال. أما في سوريا فالذين قتلوا أضعاف ما قتله الاستعمار الفرنسي والكيان الصهيوني مجتمعين على مدى عصور. وكذلك الأمر في اليمن والسودان والصومال ومصر وليبيا و إن ننسى فلن ننسى الماضي غير البعيد في الأردن ولبنان والجزائر.
وكما يبدو، هذا الوضع لن ينتهي قريبا. فالتناقضات تتفاقم وتبشر بانفجارات جديدة. المنطقة بأسرها أصبحت عبارة عن كومة من البارود والديناميت وكل القوى المحلية والإقليمية والدولية تتزاحم لتنفخ لاشعالها كل من جهة. شرارة واحدة تكفي لإشعال المنطقة بأسرها. لم تعد إسرائيل وحدها المدججة بالسلاح. فها هي السعودية تسابقها بعد شراء أسلحة أمريكية بـ 112 مليار دولار وليس بقصد خوض الصراع ضدها بل بقصد تكوين تحالف جديد ضد ايران المدججة هي الأخرى بالسلاح. وها هي قطر الصغيرة يصل السلاح حتى أسنان كل فرد من سكانها. أصبح السلاح في الدول الغنية والفقيرة على حد سواء أكثر من الخبز. أمريكا وروسيا مستعدتان لإغراق المنطقة بالاسلحة، ما دامت الحرب لا تتجاوز التدمير الذاتي وما دامت تدر الأرباح على صانعي ومصدري الموت، فلماذا لا تستمر إلى ما لا نهاية؟.
المصيبة لا تتوقف عند أرقام القتلى والجرحى ولا عند الدمار الشامل والأرض المحروقة، المصيبة الحقيقية أن كل ما يحصل يذهب سدى، قتل عبثي ودمار عبثي. لا يمكن أن تبقى الشعوب العربية وقودا للمدافع. لا يمكن أن تستمر الأنظمة العربية بارتكاب المجازر وتخرج من غير حساب. إذا كنا عاجزين عن وقف هذه الحروب التدميرية فعلينا أن نعمل على تحويلها  لثورات تحررية. ما زالت تجارب الشعوب تؤكد أن الحروب الرجعية لا تصنع القتل والدمار فحسب بل تخلق أيضا الظروف الملائمة لانفجار الثورات التحررية. وأن هذه الثورات بدورها هي وحدها القادرة على القضاء على الحروب الرجعية.

إن مثيري الحروب مهما بدوا وكأنهم خصوم وأعداء ومهما تفاقمت تناقضاتهم إلا أنهم في نهاية المطاف ينتمون إلى معسكر واحد. يغيرون تحالفاتهم حسب مصالحهم ولكنهم سوف يتحدون إذا ما قررت الشعوب التخلص من نير الظلم والاستغلال. وقد آن الأوان أن يخرج قرار الشعوب إلى حيز التنفيذ.