Wednesday, March 24, 2010

من أجل إنقاذ الارض من يوم الارض

من أجل إنقاذ الأرض من يوم الأرض
علي زبيدات - سخنين

لم يعد من السهل الكتابة عن يوم الأرض. خلال 34 سنة منذ يوم الأرض الأول وحتى هذا اليوم كتبنا كل ما يمكن أن يكتب حول هذه الذكرى من كافة أشكال المدح والتقييم والتحليل ولنقد. لذلك ترددت كثيرا قبل أن أكتب هذه السطور خصوصا وأنني كنت قد كتبت السنة الماضية في هذه الذكرى مقالا بعنوان: "ماذا تبقى من يوم الأرض" ووجدت أن ما كتبته في السنة الماضية يصلح لهذه السنة أيضا، وكأننا لم نتحرك قيد أنملة. وخشيت من اجترار كلماتي وأفكاري تماما كما كنت أنتقد خطباء يوم الأرض الذين يعتلون المنصات في المهرجانات القطرية والندوات المحلية ويتحفوننا بخطاباتهم المجترة التي تفيض بالشعارات الرنانة وكأن الثورة على الأبواب أو وكأنها في مراحل انتصارها الأخيرة.
للوهلة الأولى، هذا الواقع يدفع الشخص إلى الإحباط والحزن. ويطرح السؤال نفسه: متى نتعلم من التاريخ؟ ومتى نتحرر من هذه العقلية التي تقودنا دائما إلى الهزيمة؟ كما كتب نزار قباني قبل أكثر من 40 سنة في أعقاب هزيمة حزيران 1967:
" إذا خسرنا الحرب لا غرابة
لأننا ندخلها
بكل ما يملك الشرقي من مواهب الخطابة
بالعنتريات التي ما قتلت ذبابة
لأننا ندخلها بمنطق الطبلة والربابة"
فهل من غرابة أننا خسرنا الأرض أيضا؟ مع أننا نحقق انتصارات باهرة في خطاباتنا من على المنصات؟. الجميع يعلم أن 97% من أراضينا قد صودرت منذ قيام هذه الدولة وحتى اليوم ونحن ما زلنا نتغنى بصمودنا وبتشبثنا بالأرض . يقول بيان لجنة المتابعة بأن ذكرى يوم الأرض هي مناسبة وطنية نضالية وكفاحية وحدوية. وأنا أتساءل: بعد أن افرغ يوم الأرض من مضمونه النضالي والكفاحي ماذا تبقى غير الخطابات الملتهبة من على المنصات؟
ويواصل البيان، بعد ذكر سياسة الحكومة في ملاحقة القيادات العربية وتنامي مظاهر العنصرية والفاشية ومواصلة سياسة التمييز العنصري وتصعيد مشاريع التهويد وخصوصا في القدس والمساس بالمقدسات ومواصلة حصار غزة-وكأن هذه السياسة حصرا على الحكومة الراهنة وليست صادرة عن طبيعة الدولة ككل: تناشد لجنة المتابعة الجماهير العربية: "بالمشاركة الواسعة لتكون على مستوى الإحداث والتحديات..." كان حري بهذه اللجنة أن تكون قدوة للجماهير وأن ترتقي هي أولا إلى مستوى الأحداث والتحديات. ولكنها هذه السنة كما في السنوات الماضية كانت غارقة في الجدل البيزنطي هل يجب إعلان الإضراب العام في يوم الأرض أم لا؟ وكان القرار كما هو معروف إسقاط خيار الإضراب وعلينا أن نكتفي بما تجود به قريحة الخطباء من جواهر نضالية.
وهكذا، كلما ابتعدنا عن روح يوم الأرض النضالية كلما ارتفع صراخنا ودوت شعاراتنا الثورية. وبقينا مع ذكرى يوم الأرض ولكن بدون الأرض. وأصابنا ما أصاب النظام المصري المرتمي في أحضان الامبريالية والصهيونية الذي يحتفل سنويا بثورة يوليو ولكن بدون ثورة، أو كما أصاب السلطة الفلسطينية التي تحتفل بالانطلاقة بعد أن أجهضتها وأخمدت أنفاسها.
مما لا شك فيه أن قيادات لجنة المتابعة وخصوصا أعضاء الكنيست العرب والزعامات الحزبية المختلفة سوف يشاركون في فعاليات يوم الأرض وسوف نراهم كتفا إلى كتف في الصف الأول من المسيرة وسوف يتهافتون على الكاميرات ووسائل الإعلام ويحتفظون بخطاباتهم الملتهبة في جيوبهم لكي يفجروها من على المنصات. وفي النهاية سوف يعودون إلى مواقعهم سالمين ولسان حالهم يقول: لقد حققنا نصرا باهرا جديدا. ولكن السؤال يبقى: أين الأرض؟؟
لكي لا تتكرر المأساة، لكي لا نحقق هزيمة جديدة مغلفة بقشور انتصار وهمي، لكي لا نحول يوم الأرض إلى ذكرى ونخسر الأرض، علينا أن نتخلص من العقلية التي تكلم عنها نزار قباني في قصيدته، علينا أن نعيد التفكير في هذه الإستراتيجية العقيمة التي تحول بشكل بهلواني الهزيمة إلى انتصار.
النضال من أجل الأرض هو جزء من النضال من أجل الوطن وكلاهما لا يمكن أن يتم من خلال مؤسسات مخترقة حتى النخاع من قبل الدولة الصهيونية.

Wednesday, March 17, 2010

الخلافات الوهمية بين أمريكا وإسرائيل

الخلافات الوهمية بين أمريكا وإسرائيل

علي زبيدات – سخنين

الخلاف الإسرائيلي الأمريكي الذي طبلت له مؤخرا وزمرت وسائل الإعلام وخصوصا في العالم العربي لا يعدو كونه أكثر من زوبعة في فنجان. منذ قيامها وحتى هذا اليوم اقترفت إسرائيل، وما زالت تقترف، على مرأى ومسمع من العالم وخصوصا ما يسمى "العالم الحر" وعلى رأسه الولايات المتحدة الأمريكية، جرائم تفوق بما لا يقاس من حيث بشاعتها ما تقوم به حاليا في القدس. لنذكر على سبيل المثال لا الحصر جرائم التطهير العرقي في عام النكبة، سلب الأراضي ونهب الممتلكات واحتلال ما تبقى من الأراضي الفلسطينية والمجازر العديدة التي لم تتوقف حتى يومنا هذا. كانت جميع هذه الجرائم تحظى بدعم وتأييد الولايات المتحدة الأمريكية ومن خلفها عالمها الحر بشكل صريح ومفضوح غالبا وبشكل مبطن أحيانا. واليوم يريدون أن يقنعوننا بأن الخلاف الإسرائيلي – الأمريكي غير مسبوق، وعلى ماذا؟ لأن الحكومة الإسرائيلية أعلنت عن نواياها لبناء 160 وحدة سكن في القدس أثناء زيارة نائب الرئيس الأمريكي. وماذا سيحدث لو أعلنت إسرائيل عن مخططها هذا قبل الزيارة أو بعدها فهل سيتغير من الأمر شيء؟ العالم بأسره يعرف إن إسرائيل بدأت استيطانها في القدس الشرقية منذ اليوم الأول من احتلالها في الخامس من حزيران عام 1967، حتى وصل عدد المستوطنين إلى أكثر من 350 ألف مستوطن ( طبعا هذا لا يشمل الاستيطان في القدس الغربية العربية أصلا). هذا الاستيطان لم يكن لينجح لولا الدعم السياسي والاقتصادي الذي قدمته أمريكا وأوروبا لإسرائيل. الخلاصة: هل من المعقول أن يسبب بناء بعض الوحدات السكنية أزمة في العلاقات الأمريكية – الإسرائيلية؟ طبعا ليس هذا من المعقول.

إذن ما هو السر في تطبيل وسائل الإعلام العربية، من حيث الأساس، لهذا الخلاف المفتعل؟ الذي انتهى أصلا بكلمة "اعتذار" قدمها رئيس الحكومة الإسرائيلية رد عليها بايدن، نائب الرئيس الأمريكي بفيض من مشاعر الحب للدولة الصهيونية. في الحقيقة لا يوجد هناك سر ولا يحزنون اللهم إلا في أعين الأغبياء أو إذا لطفنا الكلمات في أعين السذج من الناس. الإعلام العربي الرسمي يريد أن يبرر موافقة دول الجامعة العربية العودة إلى طاولة المفاوضات غير المباشرة هذه المرة. وقد بلغ استخفاف هذا الإعلام الرسمي بعقول الشعوب العربية ذروته: ترى، 20 عاما من المفاوضات المباشرة لم تحقق شيئا يذكر فهل المفاوضات غير المباشرة قادرة على ذلك؟ الإعلام العربي الرسمي مفلس وهذا أمر طبيعي لأنه يروج لأنظمة مفلسة.

إذا كان الخلاف الإسرائيلي – الأمريكي زوبعة في فنجان فإن الأنظمة العربية تطيش على شبر من الماء. العلاقة بين كيان الاستيطان الصهيوني في فلسطين وبين الامبريالية الأمريكية هي علاقة عضوية لا تتأثر بهذا الرئيس أو ذاك، برئيس الحكومة هذا أو ذاك. أنها علاقة تربط نظام امبريالي عالمي واحد متعدد الأذرع. من يراهن على خلاف إسرائيلي – أمريكي تكون نتيجته أن تتخلى أمريكا عن إسرائيل أو أن تمارس ضغطا حقيقيا عليها فرهانه خاسر.

عندما كان لدينا في الماضي تنظيمات يسارية، مهما كانت تعني هذه الكلمة الفضفاضة، ومهما كانت هذه التنظيمات تعاني من جمود عقائدي ومن قطيعة شبه كاملة بين النظرية والممارسة، كانت على الأقل ترفع بعض الشعارات الصحيحة. وأحد هذه الشعارات التي يجب العودة إليها ورفعها عاليا هو الشعار الذي يقول أن النضال من أجل الحرية والتحرير يجب أن يكون ضد العدو المشترك المكون من الصهيونية والامبريالية العالمية والرجعية العربية.

اليوم أصبحت الصورة واضحة تمام الوضوح وأكثر من أي وقت مضى، هناك معسكر واحد موحد، يمارس سياسة واحدة، كل طرف من مكوناته يقوم بدوره على أتم وجه. لا يمكن الانفراد بطرف والتغاضي عن طرف آخر. إذا كان هذا المعسكر يضم الامبريالية العالمية والصهيونية والرجعية العربية وكافة الأنظمة الرجعية في العالم، فلا بد من مواجهته بمعسكر آخر مكون من الشعوب والطبقات المضطهدة في العالم. يجب مواجهة العولمة الامبريالية الرجعية بأممية إنسانية تقدمية. هذا ليس شعارا أكل الدهر عليه وشرب كما قد يظن البعض بل هو حقيقة واقعة ويصبح أمرا واقعيا كل يوم أكثر من اليوم الذي سبقه. إذا كان العالم قد أصبح بالنسبة للنظام الرأسمالي العالمي قرية صغيرة فلماذا ندع هذا النظام يسرح ويمرح بها؟ أليست هي قريتنا أيضا.

ليس من الضروري أن يكون المرء ماركسيا أو إسلاميا لكي يرى كيف تتحول قضايا محلية إلى قضايا عالمية وكيف تتطور التناقضات وتتغير التحالفات وتتحول الظواهر إلى نقيضها.

لقد آن الأوان، في هذه البقعة من الأرض، أن ندرك أن نضالنا من أجل الحرية هو جزأ لا يتجزأ من النضال التحرري الذي تخوضه الشعوب الأخرى في جميع أرجاء العالم لأن معسكر الأعداء واحد. يجب إلا نخدع بالذين يضعون الأقنعة الوطنية والقومية على وجوههم ولكنهم في الحقيقة يخدمون الامبرياليين.

Tuesday, March 09, 2010

ماذا سيكون مصير اليهود بعد زوال دولة إسرائيل؟


علي زبيدات – سخنين

نشر احد الصحفيين الصهاينة مقالا حول هذا الموضوع مؤخرا في جريدة هآرتس تحت عنوان:"ماذا سيحدث لو هزمنا؟". يعد هذا المقال نموذجا كلاسيكيا للدعاية الصهيونية التي نصب أعينها تحقيق غايتين، الأولى: نشر الخوف والرعب في قلوب اليهود أنفسهم وكأن كارثة جديدة على الأبواب والثانية: التحريض المنفلت على الفلسطينيين والعرب.
من جهة أخرى يلاقي هذا الموضوع إهمالا عاما ومريبا من قبل وسائل الإعلام العربية مما يترك الساحة فاضية أمام الدعاية الصهيونية تصرح وتمرح بها حيثي تقوم ببث سمومها وبعملية مسح دماغ واسعة تشمل كافة أرجاء المعمورة.
يفهم من المقال المذكور للصحفي الصهيوني أن هناك رأيان أو تياران بين اليهود حول هذه المسألة ولكليهما حسب رأيي لا أساس من الصحة. الرأي الأول تتبناه وتنادي به الأوساط الإسرائيلية الليبرالية التي تعتقد بإمكانية التوصل إلى اتفاقية سلام مع الفلسطينيين والعرب. وهذا الرأي يقول أنه في حالة هزيمة إسرائيل من قبل تحالف إيراني عربي أو أي تحالف آخر فإنه سوف يتم احتلال إسرائيل وسيكون مصيرها ومصير سكانها كما هو مصير المناطق الفلسطينية المحتلة وسكانها اليوم. أي سيكون هناك حكم عسكري وحواجز وأنظمة طوارئ وقمع لكافة أشكال المقاومة. ويستنتج أصحاب هذا الرأي أنه لتفادي مثل هذه النتيجة يجب التخلي عن الأراضي المحتلة أو عن غالبيتها على الأقل ودعم إقامة دولة فلسطينية تعيش بسلام مع جارتها إسرائيل.
الرأي الآخر الذي تحمله وتدافع عنه الأوساط اليمينية الإسرائيلية يقول انه من الوهم الاعتقاد بأن العرب والفلسطينيين في حالة انتصارهم على إسرائيل سوف يكتفون بالاحتلال والحكم العسكري وقمع المقاومة وما شابه ذلك من إجراءات بل ستكون هناك مجازر شنيعة وبوغرومات، أي أن الشعب اليهودي سوف يتعرض مرة أخرى إلى هولوكوست. لذلك يجب أن تبقى إسرائيل أقوى من كافة خصومها مجتمعين وتستبعد حتى التفكير بإمكانية التعرض إلى هزيمة.
أمام هذه الدعاية المغرضة والهدامة لا بد من توضيح بعض النقاط: قيام دولة إسرائيل كتتويج لنشاط الحركة الصهيونية لم يسفر عن تهجير الشعب الفلسطيني وسلب أرضه ونهب ممتلكاته فحسب بل أسفر عن اقتلاع جاليات يهودية عريقة من أوطانها والزج بها في صراع دامي ومستمر مع سكان البلد الأصليين أيضا. أسفر عن تسميم هذه الجاليات بأيديولوجية عنصرية جعلها غريبة في أوطانها وغير مرغوب بها. زوال دولة إسرائيل كدولة كولونيالية تتبنى أيديولوجية عنصرية لن يجلب الحرية للشعب الفلسطيني فحسب بل سوف يحرر الجماهير اليهودية من الغيتو المفروض عليها ألان ومن ضيق الأفق والقيود التي فرضتها الأيديولوجية الصهيونية أيضا.
لن تهزم إسرائيل عن طريق حرب رسمية تشنها عليها هذه الدولة أو تلك، هذا التحالف أو ذاك. ولكنها سوف تهزم عن طريق ثورة شعبية تتضافر بها كافة القوى المظلومة ومن ضمنها أوساط واسعة من ضحايا الصهيونية اليهود أنفسهم. ألثورة لن تؤدي بأي حال من الأحوال إلى احتلال أو إلى حكم عسكري وحواجز وأنظمة طوارئ وأعمال قمع وانتقام، بل على العكس من ذلك تماما سوف تجلب التحرير والحرية والاستقلال الحقيقي والسلام العادل وسوف تعيد للإنسان كرامته الإنسانية بغض النظر عن انتمائه العرقي أو الديني أو السياسي.
إذا زالت دولة إسرائيل لن تكون في هذه البلاد أية مجازر ضد اليهود وأكبر دليل على ذلك أنه قبل قيام دولة إسرائيل لم تتعرض أية جالية يهودية في الشرق إلي مجزرة أو إلى أي شكل من أشكال القمع بسبب كونها جالية يهودية. المجازر ضد اليهود وضد غيرهم من الشعوب والأقليات والطوائف كانت نتيجة لتطور الرأسمالية الشرسة إلى إمبريالية اشد شراسة في أوروبا من حيث الأساس. إذا كان هناك عداء ضد الجماهير اليهودية في هذه المنطقة فالمسؤولية الوحيدة عنه هو دولة إسرائيل وسياستها العنصرية.
يجب ألا ننسى أن الحركة الصهيونية بجميع مركباتها وجميع تياراتها هي أولا وقبل كل شيء حركة سياسية. ويمكن أن يكون اليهودي ويبقى يهوديا جيدا وأن يكون في الوقت نفسه مناهضا للصهيونية رافضا لمبادئها ولغاياتها وممارساتها. بل في هذه المرحلة رفض اليهودي للصهيونية هو شرط أساسي من أجل محافظته على طابعه الإنساني.
عندما تزول دولة إسرائيل لن يتم إلقاء اليهود في البحر كما تروج له الدعاية الصهيونية، بل سيتم قبولهم كمواطنين عاديين للمرة الأولى في حياتهم. سوف تفتح الحدود أمام الجاليات التي اقتلعت من بيئتها الطبيعية أن تعود وتبني حضارتها في المغرب والعراق واليمن وفي كل مكان ترتبط به عاطفيا وثقافيا وحضاريا. سوف تتحطم جدران الجيتو مرة واحدة والى الأبد. الوحيدون الذين سوف يدفعون الثمن هم مجرمو الحرب الذين زجوا المنطقة في حروب لا أول لها ولا آخر. لن تكون هناك مجازر. المجازر الوحيدة التي حدثت في هذه البلاد كانت من صنع الحركة الصهيونية من دير ياسين إلى كفر قاسم مرورا بصبرا وشاتيلا وقانا حتى جنين وغزة.
الحروب تدمر وتهدم وتقتل الأبرياء أما الثورة فإنها تحرر.

Tuesday, March 02, 2010

الدنيا ما زالت بكل خير


علي زبيدات – سخنين

للوهلة الأولى يبدو وكأن العالم بأسره يقف وراء إسرائيل، يدعم مواقفها، يمدها بالمال والسلاح، يغفر جرائمها ويتجاوز عن خطاياها. فهذه الولايات المتحدة الأمريكية، الدولة العظمى الوحيدة على كرتنا الأرضية في ربع القرن الأخير تلعب دور الأم الحنون التي تضم إلى أحضانها هذه الدولة المارقة وتؤمن لها الحماية التامة، أما دول الاتحاد الأوروبي فلا تتخلف كثيرا وراء الولايات المتحدة الأمريكية، حيث تعامل هي الأخرى دولة إسرائيل برفق ودلال وتمدها بالمساعدات وتتفهم جرائمها وتشاركها في بعضها مثل فرض الحصار الجائر على قطاع غزة. حتى الدول العربية من المحيط الهادر إلى الخليج الثائر تتسابق إلى طلب القرب من إسرائيل إما علنا وعلى رؤوس الشهود وإما سرا وخجلا من التحت الطاولة.
هذا صحيح، العالم يقف داعما ومؤازرا دولة إسرائيل، ولكن أي عالم هذا؟ انه عالم الأنظمة المكون من المادة نفسها، عالم الطبقات الغنية المسيطرة على زمام السلطة، فما الغرابة في ذلك؟ ألا يقول المثل: الطيور على أشكالها تقع؟
ولكن يوجد هناك عالم آخر، عالم إنساني يتحلى بالأخلاق والضمير الحي. عالم لا يملك المال والسلطة والأسلحة ولكنه يملك ما هو أهم من ذلك بكثير، يملك العاطفة الإنسانية النبيلة التي ترفض الظلم والاستبداد وتختار الوقوف إلى جانب المظلومين أينما وجدوا. وهذا العالم يقف داعما للشعب الفلسطيني ولحقه في الحياة الحرة والكريمة.
إذن، العالم، عالم الشعوب ما زال بألف خير. وقد لمست ذلك مؤخرا خلال رحلتي الأخيرة إلى عقر بعض الدول التي تقدم الدعم اللامحدود لدولة إسرائيل مثل فرنسا وهولندا.
كم كنت سعيدا عندما حضرت حفلا موسيقيا لفرقة محلية تقدم الموسيقى التراثية لإقليم بريتونيا عندما تقدم إلي قائد الفرقة بعد أن عرف إني فلسطيني قائلا: انتفاضة، انتفاضة. لم نتبادل أي كلام آخر ذلك لغياب اللغة المشتركة ولكن هاتين الكلمتين كانتا ابلغ من كل اللغات. وكنت أكثر سعادة عندما دعوت إلى "مهرجان المقاومة" حيث اجتمعت عدة فرق موسيقية تمثل شعوبا تعرضت للتطهير العرقي تعزف موسيقاها الشعبية التي تعرضت للقمع على مر الأجيال. من بينها كانت فرقة من سكان أمريكا الأصليين، من قبيلة نافاهو تطلق على نفسها "بلاك فاير" (النار السوداء) وقد اختتمت وصلتها بأغنية مهداة إلى فلسطين والى نضال الشعب الفلسطيني أسمها: "من جبال أريزونا إلى فلسطين" وكانت هناك فرقتان من قبائل الطوارق الآتية من مالي في افر يقيا وكم كانت دهشتي عندما علمت أنهم يتابعون كل ما يجري في فلسطين ويقارنون نضالهم الطويل من أجل الحرية والاستقلال بالنضال الفلسطيني. وعندما اعتلت المنصة فرقة من سكان استراليا الأصليين الذين تعرضوا هم الآخرين إلى حملات الإبادة العرقية وحييت جميع الشعوب المقاومة ومن بينها الشعب الفلسطيني.
ولكن ذروة سعادتي كانت في هولندا، عندما نحوي سيدة متقدمة بالعمر في إحدى المناسبات وقالت لي: "كم كنت غبية، في سنوات السبعين ذهبت مع باقي زميلاتي للعمل تطوعا في إحدى الكيبوتسات، وقد شغلونا يوما كاملا في قطف الثمار ويوما آخرا في كي الملابس بينما كان أعضاء الكيبوتس يتفرجون علينا بغرور ويعاملوننا باستكبار. لقد شعرت فورا بزيف هذا الحلم الاشتراكي الذي جرف هولندا في ذلك الوقت. أما اليوم فقد زرت فلسطين مرتين، قمت في المرة الأولى بغرس أشجار الزيتون التي يقتلعها المستوطنون وفي المرة الثانية ساعدت المزارعين الفلسطينيين في قطف ثمار الزيتون وما زلت أحتفظ بزجاجة من زيت الزيتون الفلسطيني".
وفي مرة أخرى، بعد إلقاء محاضرة عن الأوضاع في فلسطين أمام شبيبة لحزب ليبرالي يشارك في الحكومة الهولندية ويساهم في سياسة دعم إسرائيل، وقف مجموعة من الشباب وقالوا: لن نسكت حتى يغير حزبنا من مواقفه، يجب أن نطرح على الحزب قطع كل علاقاته بإسرائيل ويجب أن ننضم للحملة التي تقاطع البضائع الإسرائيلية.
العالم الرسمي البشع والجشع، المسئول عن الحروب والإمراض والمجاعات وصناعة الموت والأسلحة يدعم دولة إسرائيل، هل يجب أن نحسدها على ذلك؟ أما لعالم الآخر، عالم الجماهير الشعبية التي لم تفقد حسها الإنساني فإنها تدعم القضية الفلسطينية. ألسنا محظوظين؟
تحاول الدعاية الصهيونية اختراق هذه الجبهة أيضا من خلال ابتزازها عاطفيا لما جرى من أحداث خلال الحرب العالمية الثانية وتنمي الشعور بالذنب عند هذه الجماهير وتصور نفسها كضحية تدافع عن نفسها. علينا مضاعفة الجهود لمواجهة هذه الأكاذيب وفضحها. المعركة الإعلامية لا تقل أهمية عن المعركة السياسية. ونحن نعاني من نواقص عديدة في هذا المجال، خصوصا وأن المسئولين عن الإعلام الفلسطيني ينتمون إلى أجهزة السلطة التي تتمرغ تحت غبار أقدام إسرائيل وأمريكا. مكاتب السلطة الفلسطينية والتي تسمى زورا وبهتانا بالسفارات الفلسطينية تكاد لا تهتم لا من قريب ولا من بعيد بالبعد الجماهيري وبالرأي الشعبي العام وتقتصر على المحافل الرسمية فقط. وتنقل الصورة مشوهة إلى الآخرين وكأننا شعب متسول نبحث عن أية تسوية تنهي النزاع وليس كشعب مناضل متمسك بحقوقه الطبيعية التي تنص عليها كافة الأعراف الإنسانية.
قد يقول البعض أن العالم الرسمي الذي يمد دولة إسرائيل بالدعم هو الأقوى والحاسم، بينما العالم الآخر الذي يقف إلى جانب الحق الفلسطيني هو الأضعف. غير أن الحقيقة على عكس ذلك تماما: في نهاية المطاف الموقف الأخلاقي وهو الأقوى وهو المنتصر.