Wednesday, October 25, 2017

وعد بلفور - مائة عام من الضياع

وعد بلفور - مائة عام من الضياع
علي زبيدات - سخنين

تمر علينا هذه الايام الذكرى المئوية لوعد بلفور. في هذه الذكرى سوف نكرر للمرة المليون عبارتين اصبحتا عماد أدبنا السياسي ولا غنى عنهما عند الكتابة حول هذا الموضوع. الأولى: وعد بلفور المشؤوم، والثانية: وعد من لا يملك لمن لا يستحق. وكل ما نكتبه ونقوله عدا ذلك ليس سوى تفاصيل. بعد قرن من الزمن وغزارة ما كتب عنه فلسطينيا وعربيا لا يوجد أحد يجرؤ على تجاوز أو انتقاد هذين المصطلحين. ماذا تقول المعاجم العربية عن معنى كلمة مشؤوم؟؟ المشؤوم هو المنحوس، سيء الحظ، المنكود، وباختصار كل ما يجلب الشؤم. كل هذه المعاني ومشتقاتها تشترك بصفة واحدة: التملص من المسؤولية عنها، فهي غيبية، ميتافيزيقية: لسوء حظنا صدر هذا الوعد.. كان شؤما علينا إذ سلخ جزءا عزيزا من بلادنا ومنعنا من الاستقلال والوحدة. المهم، في نهاية المطاف، لا أحد يتحمل مسؤولية الشؤم.
أما العبارة الثانية: "من لا يملك يعد من لا يستحق"، فإننا ننسى أنه في فترة تاريخية معينة كانت الشمس لا تغيب عن ممتلكات الإمبراطورية البريطانية. وأن الحرب العالمية الأولى، التي صدر هذا الوعد في أوجها، كان سببها وهدفها إعادة تقسيم العالم بين الدول الاستعمارية خصوصا وأن ألمانيا انضم إلى نادي الدول الاستعمارية متأخرة وبادرت بالحرب لتضمن "حقها" من السوق العالمية والأراضي التي استولت عليها بريطانيا وفرنسا. وبالرغم من أن فلسطين ودول المشرق العربي كانت في ذلك الوقت تحت السيطرة العثمانية إلا أن بريطانيا كانت تتربص الفرص للاستيلاء عليها وكانت تتعامل معها وكأنها تملكها بالفعل وهذا ما أكدته اتفاقية سايكس- بيكو قبل صدور وعد بلفور بسنة. إذن، كانت بريطانيا "تملك" فلسطين قبل صدور وعد بلفور بسنوات. أصلا أحد أسباب دخولها الحرب العالمية الأولى عام 1914 وشن الحرب على الدولة العثمانية هو الاستيلاء على فلسطين ودول عربية أخرى. وقد حققت غايتها هذه في نهاية الحرب عام 1918. وجاء صك الانتداب ليمنح بريطانيا شرعية دولية لاحتلال فلسطين تحت مسمى لطيف لكن مزيف هو الانتداب، وذلك لكي تستطيع أن تفي بوعدها الذي قطعته للحركة الصهيونية.
هكذا تسلسلت الأحداث باختصار: وضعت بريطانيا عينها على ممتلكات الرجل المريض في تركيا، اتفقت مع شريكتها فرنسا لتقاسمها هذه الممتلكات، أصدرت وعدا لحليفتها الاستراتيجية الواعدة، الحركة الصهيونية، بإقامة وطن قومي لليهود. وفي المقابل منحت حلفاءها العرب الذين حاربوا تركيا إلى جانبها وعودا ضبابية بالاستقلال. عرفت الزعامة العربية برئاسة الشريف حسين وأولاده كل هذه المعطيات حتى السرية منها بعد أن كشفتها الثورة الروسية قبيل نهاية الحرب. إختارت هذه الزعامة، بدلا من مقاومة هذه المخططات واحباطها، طريق المساومة والعمالة. فقد حاولت طوال الوقت أن تقنع بريطانيا بأنها سوف تخدمها أفضل من الحركة الصهيونية. إلا أن بريطانيا لم تقتنع لانها تعرف تركيبة الحركة الصهيونية وتركيبة الزعامة العربية وقد ثبت ذلك فيما بعد، حيث خدمت الصهيونية ومن ثم دولة إسرائيل الاستعمار القديم والاستعمار الجديد على أفضل وجه.
تابعت الزعامة الفلسطينية طوال الحكم البريطاني سياسة الزعامة العربية، التي سميت مجازا بالثورة العربية الكبرى، أي إقناع بريطانيا بأنها سوف تخدمها بشكل أفضل من الحركة الصهيونية،  و كبادرة حسن نية لم تخض مقاومة تذكر ضد وعد بلفور وضد صك الانتداب وضد السياسة الانجليزية التي عملت على قدم وساق لتعبيد الطريق أمام الحركة الصهيونية لإقامة دولتها الموعودة. وبقيت المقاومة محصورة بالاحتجاجات والتمردات الشعبية العفوية. استمرت هذه السياسة حتى قدوم عز الدين القسام في بداية الثلاثينات وقال ما معناه: لا يمكن الفصل بين الحركة الصهيونية والاستعمار البريطاني ولا يمكن مقاومة الأولى والتحالف مع الثانية. غير أن التيار الرئيسي في الحركة القومية الفلسطينية بزعامة أمين الحسيني راهن على بريطانيا حتى اللحظة الأخيرة، حتى نشوب الحرب العالمية الثانية، عندها فقط نقل ولاءه لألمانيا النازية والنتائج معروفة.
اليوم يطالب رئيس السلطة الفلسطينية، محمود عباس بريطانيا بالاعتذار عن هذا الوعد "المشؤوم". أما بريطانيا فقد صرحت أنه ليس بنيتها أن تعتذر فحسب بل على العكس من ذلك سوف تحتفل بمشاركة إسرائيل بهذه الذكرى. لا أدري بأي عين يطالب رئيس السلطة بريطانيا بالاعتذار وإذا كان جديا بذلك بعد أن قبل بأقل مما ينص عليه وعد بلفور بما لا يقاس. أية مصداقية لمطلبه هذا وهو قد أجهض تقارير متواضعة لإدانة اسرائيل كتقرير غولدستون على سبيل المثال؟ قد يكون هذا المطلب من ناحيته خطوة جيدة للدعاية والاستهلاك المحلي ودغدغة مشاعر الجماهير الفلسطينية، وفي أحسن الحالات نوع من العتب على بريطانيا كيف تعترف بدولة اسرائيل وترفض الاعتراف بدولة فلسطينية على 22% من فلسطين.

رفض وعد بلفور يجب ألا ينفصل عن رفض صك الانتداب، قرار التقسيم، قبول إسرائيل في الأمم المتحدة، قرار 242 و338 واتفاقيات أوسلو وعواقبها. رفض وعد بلفور يجب أن يكون جزءا من رفض الهيمنة الإمبريالية بكل أشكالها القديمة والحديثة. وإذا كان وعد بلفور مشؤوما فإن الزعامة العربية من المحيط للخليج أشد شؤما.

Thursday, October 12, 2017

ما قبل الانقسام وما بعد المصالحة

ما قبل الانقسام وما بعد المصالحة
علي زبيدات - سخنين

الكذبة التي يتم الترويج لها منذ فترة طويلة وكان النزاع بين حركة فتح وحركة حماس يقوم على خلفية ايديولوجية بين حركة علمانية ديمقراطية وحركة دينية/اسلامية هي ابعد ما تكون عن الحقيقة. تاريخيا، علاقة فتح بحركة الإخوان المسلمين لا تقل من حيث أواصرها وعمقها عن علاقة حماس بهذه الحركة إن لم تكن تفوقها، مع فرق واحد وهو أن حركة فتح قد سبقت حماس بحوالي ثلث قرن. من المعروف أن ياسر عرفات مؤسس حركة فتح كان في شبابه وأثناء مكوثه في مصر منتميا لإحدى خلايا الإخوان وكذلك كان خليل الوزير(ابو جهاد) وآخرين من جيل المؤسسين. فيما بعد وخصوصا بعد أن استولت فتح على زعامة منظمة التحرير الفلسطينية في أعقاب هزيمة الجيوش العربية عام 1967 بدأت تبتعد تنظيميا وسياسيا عن حركة الإخوان المسلمين ولكنها بقيت متمسكة بنظرتها الدينية للصراع العربي - الصهيوني. ما زال التيار الديني داخل حركة فتح هو التيار الرئيسي حتى يومنا هذا. الانتقال من مرحلة النضال المسلح إلى طريق المفاوضات والتسويات السلمية وقبول كل ما تمليه عليها هذه الطريق من تنازلات ورضوخ للضغوطات الإقليمية والدولية لم يغير شيء في جوهر هذه الحقيقة. كما أن انضمام فئات ليبرالية وصفت بأنها يسارية وعلمانية لم يؤثر هو الآخر على هذا الجوهر.
الصراع بين فتح وحماس هو صراع سياسي يدور بين جناحين مختلفين داخل الطبقة البرجوازية الفلسطينية، التي أطلق عليها اليسار المصاب بجمود عقائدي اسم "البرجوازية الوطنية" وقبل بمحض إرادته أن تقوده في المرحلة التي أطلق عليها مرحلة "التحرر الوطني". قد يقول البعض أن هذا القول يجافي الواقع ويتجنى بالأساس على حماس التي تسمي نفسها منذ تأسيسها وحتى هذا اليوم: حركة المقاومة الإسلامية. هذا صحيح، انها تسمي نفسها كذلك، ولكن هل يتم الحكم على حركة سياسية من خلال تعريفها لنفسها؟ أم من خلال سياساتها وممارساتها العملية على أرض الواقع؟ اليوم يوجد هناك حركات دينية/إسلامية أخرى تشكك ولا تعترف بالطابع الإسلامي لحركة حماس. ومن يضمن ألا تتحول حماس تدريجيا كما تحولت فتح من قبلها تدريجيا في خضم الصراع على السلطة وخصوصا عندما تكون سلطة وهمية كما هي حال سلطة أوسلو؟
المصالحة الأخيرة بين فتح وحماس، كما كانت سنوات الصراع الدامي والانقسام، يجب أن توضع في هذا الإطار. وهي ظاهرة طبيعية، ولا أقل ظاهرة صحية، أبتليت بها معظم الشعوب والحركات الوطنية التي ناضلت من أجل حريتها واستقلالها. ما أريد أن أقوله هنا أن الانشقاق أو الانقسام بحد ذاته ليس الشر مجسدا وأن المصالحة بحد ذاتها ليست الخير كله. السؤال الذي يطرح نفسه بإلحاح هنا: أين المشروع الوطني بكل ما يحدث؟ وبعبارة أكثر تبسيطا: على ماذا كان النزاع وعلى ماذا تمت المصالحة؟ هل ما زال هناك فلسطيني واحد يصدق أن الخلاف كان بين خط المقاومة والتمسك بالحقوق المشروعة والثوابت الوطنية وبين خط التفريط والمساومة؟ وهل هناك من يصدق، فعلا لا قولا، أن المصالحة جاءت لإنقاذ المشروع الوطني؟

ولكي لا أفهم خطأ أنا لست مع الانقسام الذي حصل في الماضي وفي الوقت نفسه لست ضد المصالحة التي تحاك حاليا، ولكني بصراحة ضد الحالة بمجملها قبل الانقسام وبعد المصالحة، هذه الحالة التي أنتجت الانقسام وهي نفسها الحالة التي فرضت هذه المصالحة التراجي-كوميدية. لا اريد الخوض بتفاصيل المصالحة الأخيرة فقد كتب الكثير عنها بين مؤيد ورافض وناقد ومتحفظ، وسوف تكشف الايام القريبة القادمة المزيد من التفاصيل في هذا المجال. ما أود التأكيد عليه هنا هو أن  الطريق التي نسلكها ورسم خارطتها أعداء الشعب الفلسطيني لن تؤدي إلى أي تحرير وإلى أية عودة لهذا الشعب. جميعنا نعي ونعرف هذه الحقيقة ومع ذلك نواصل المسير في هذه الطريق المسدودة. ما أحوجنا اليوم إلى وقفة تأملية، إلى رؤيا جديدة واضحة، إلى أفق واسع، ومن ثم إلى انطلاقة جديدة. ونحن قادرون على ذلك. الشعب الذي صمد أمام النكبة العاتية، ومن صمد أمام قوى الظلم التي تكالبت عليه من كافة الاتجاهات واستمر متشبثا بالحياة تحت أقسى واحلك الظروف، يستطيع أن يصحح مساره ويجترح طريقه القويمة التي تقوده إلى الحرية.