Wednesday, January 25, 2012

أين اختفى اليسار العربي؟

أين اختفى اليسار العربي؟
علي زبيدات – سخنين

في خضم العواصف التي عصفت بالعالم العربي في السنة الأخيرة على الأقل، هناك أمر لم أستطع أن أستوعبه أو أهضمه: أين اليسار العربي؟ لماذا لم نسمع صوته؟ لماذا لم نرى جحافله تملأ الشوارع والميادين؟ لماذا لم نقرأ ولم نطلع على برامجه؟ وعندما أتكلم عن اليسار العربي أقصد كل من سولت له نفسه وسماها يسارا بغض النظر إن كان قوميا أو اشتراكيا أو شيوعيا أو لبراليا. وبغض النظر إن كان ثوريا أو إصلاحيا، جذريا أو انتهازيا. أين ذهبت الشعارات الرنانة ولكن الخاوية، والتي نعرف منذ زمن بعيد إنها خاوية، ولكننا تربينا عليها وترعرعنا معها منذ كنا أطفالا؟ لماذا اختفت؟ لماذا ملأ هذا اليسار فمه ماء فسكت؟ وثقلت قدماه فربض وشلت يداه فهمد؟
وبالمقابل لماذا يعوج العالم العربي ويموج بمن دمغناهم بالرجعية والتخلف؟ من جماعات الأخوان المسلمين على مختلف أشكالهم إلى الأحزاب السلفية وشيوخ وأمراء وملوك النفط؟ هل معقول أن يكون هذا اليسار هو الرجعي وهو المتخلف ولكنه لا يعلم ذلك؟. لقد آن الأوان أن ينظر اليسار العربي إلى نفسه بالمرآة ويرى صورته على حقيقتها كما هي بدون ماكياج وبدون تجميل وليس كما يحب أن يراها. لقد آن الأوان أن يكف عن إطلاق سهام نقده على الآخرين ويبدأ باستعمال سلاح النقد الذاتي على جسده الحي، هذا إذا بقي لديه ثمة جسد حي.
لست هنا بصدد تحليل الانتصارات التي حققتها أحزاب الإسلام السياسي في تونس ومصر وفي غيرها من البلدان بالرغم من أنها كانت أكثر الأطراف قابلية للمساومة والتهادن مع الأنظمة البائدة وبالرغم من إنها لم تخض أية معركة بناء على برنامج سياسي واضح. كل ما أريد قوله بهذا الصدد أن أحزاب الإسلام السياسي قد حققت نجاحا باهرا تحويل الدين إلى أيديولوجية سياسية وتسويقها على أفضل وجه. بينما نجحت الأحزاب والحركات التي تعتبر نفسها يسارية من تحويل الايديولوجية السياسية إلى دين ولكن إلى دين جامد لا روح فيه.
لقد نال اليساريون على مختلف مشاربهم من قوميين واشتراكيين وليبراليين فرصتهم الذهبية طوال القرن الماضي، القرن العشرين أو معظمه، وبالتحديد منذ نهاية الحرب العالمية الأولى. لكنهم أخفقوا أيما إخفاق، حيث قادوا شعوبهم من هزيمة إلى أخرى ومن تخلف إلى مزيد من التخلف ومن فساد إلى مزيد من الفساد حتى انتهوا إلى أنظمة فاشية أو شبه فاشية. ما زرعوه خلال القرن المنصرم. ما يلاقونه اليوم من نبذ وازدراء ليس سوى جزء من عقاب الجماهير لهم. وكما قال كارل ماركس الذي يعتبره اليساريون الأكثر جذرية مرجعا لهم: "نحن لا نحكم على الأشخاص أو على الأحزاب السياسية من خلال ما يقولونه عن أنفسهم بل من خلال أفكارهم وممارساتهم العملية".
ماذا تعني مثلا أن تكون ليبيا جماهيرية اشتراكية عظمى وتدار كمزرعة خاصة لعائلة واحدة؟ ماذا تعني أن تكون سوريا لنصف قرن دولة اشتراكية ويتم احتكارها من قبل نخبة فاسدة وكأنها حانوت خاص؟. ماذا تعني الوحدة عندما يقوم القيمون عليها بتقطيع أوصالها؟ ماذا تعني الحرية عندما يصبح العالم العربي بأسره سجن كبير؟ هل نحن بحاجة إلى اشتراكية أخرى على طريقة شاوشيسكو؟ وعندما نراها تنهار أمام أعيننا نصرخ: مؤامرة مؤامرة؟
دعونا نأخذ اليسار الفلسطيني نموذجا. ألم يكن منذ البداية ذنبا لليمين الفلسطيني؟ ألم يشكل منذ البداية احتياطا لهذا اليمين بل وفي كثير من الأحيان شاهد زور له؟ هل كان من الممكن تمرير اتفاقيات أوسلو المجحفة لولا دعم هذا اليسار؟ هل كان من الممكن أن تصمد سلطة أوسلو عشرين يوما، وليس عشرين عاما، لولا المساهمة التي قدمها هذا اليسار على كافة الأصعدة وفي جميع المجالات؟ لقد أخذت بعض الفصائل "اليسارية" جدا جدا على عاتقها مهمة التنظير لإتفاقيات وسلطة أوسلو. إذن، أين المفاجأة إذا ما نهض هذا اليسار ذات صباح ووجد نفسه وحيدا عاريا ورأى الجماهير تلتف إما حول حركة فتح حيث السلطة والمال وإما حول حماس حيث المقاومة أو على الأقل الحلم بالمقاومة.
ولنأخذ اليسار الفلسطيني في الداخل كنموذج آخر: بصراحة، لا أدري أي تعريف لليسار ينطبق عليه. فإذا كان اليسار يعني أولا وقبل كل شيء القدرة على التغيير الفكري والاجتماعي والسياسي وقيادة هذا التغيير نحو واقع أفضل فإن يسارنا مصاب بجمود عقائدي وتخلف اجتماعي وشلل سياسي، وإلا كيف نفسر العائلية والطائفية والفساد التي تطفو على السطح أيام الانتخابات ولكنها في الحقيقة موجودة طوال الوقت؟
الحقيقة المرة هي أن اليسار العربي يمثل ذلك النظام الذي تنادي الجماهير بإسقاطه، النظام الذي يجب أن يرحل. فالقطيعة بين هذا اليسار وبين الجماهير تكاد أن تكون مطلقة.
لن تكون، حسب رأيي، أحزاب الإسلام السياسي بديلا أفضل للأنظمة المنهارة أو للأحزاب العلمانية. ولكن هذه هي فرصتها وقد أبدعت حتى الآن في استغلالها. لم تخيب أمل الجماهير المتلهفة للتغيير بعد. ولكن حسب رأيي سوف تقوم بذلك سريعا. فإذا أخذنا السودان كمثل استولت فيه أحزاب الإسلام السياسي على السلطة لرئينا كيف قامت هذه الأحزاب خلال فترة وجيزة بتقسيم البلد والزج به في حروب أهلية متواصلة هذا بالإضافة إلى الفقر والمجاعات، ولاستطعنا أن نتخيل مصير باقي البلدان.
إذا أراد اليسار العربي المنهك أن يسترد عافيته ودوره التاريخي فعليه أن يحترق كالعنقاء ويصبح رمادا لعل من هذا الرماد يخرج طائر عنقاء جديد.

Wednesday, January 18, 2012

ديمقراطية سيربيروس - الكلب ذو الرؤوس الثلاثة

ديمقراطية سيربيروس - الكلب ذو الرؤوس الثلاثة
علي زبيدات – سخنين

يحكى كما جاء في الميثولوجيا الإغريقية أنه كان هناك كلب مشوه شرس يسيطر عليه الحقد يسمى سيربيروس. وكان لهذا الكلب ثلاثة رؤوس في غاية القبح والمسخ وجسد واحد. وكان هذا الكلب حارس المدخل الوحيد لعالم الموت وخادم بوابة العالم السفلي وكانت مهمته منع خروج الأرواح التي دخلت العالم السفلي وفي الوقت نفسه منع أي شخص من عالم الأحياء الدخول إليه. وكل من كانت تسول له نفسه الدخول كان سيربيروس يمزقه إربا إربا ويفترسه.
في بلادنا، سيربيروس هو جهاز "الدولة اليهودية الديمقراطية" ذو الرؤوس الثلاثة والجسد الواحد.
الرأس الأول: السلطة التشريعية أي الكنيست حيث يتكاتف رجال عصابات يسمون أنفسهم ممثلي الجمهور، يشكلون أغلبية ويسنون القوانين التي تعبر عن أحقادهم الدفينة.
الرأس الثاني: السلطة التنفيذية، أي الحكومة التي تنفذ القوانين على أرض الواقع بالعنف تارة وبالإكراه تارة أخرى. والرأس الثالث: السلطة القضائية أي المحاكم على أنواعها ودرجاتها والتي مهمتها أن تضفي الشرعية على القوانين الصادرة عن الرأس الأول وتؤمن الحماية القانونية للرأس الثاني عندما يبطش بالشعب الأعزل. ويقولون أن هذه السلطات مستقلة ومنفصلة عن بعضها البعض حسب النظريات الكلاسيكية في الفكر السياسي الديمقراطي من جون لوك وجان جاك روسو إلى مونتسكيه والبعض يعود بهذا الفصل إلى منبع الفلسفة الإغريقية نفسها إلى أفلاطون وأرسطو.
ثلاثة رؤوس وجسد واحد هذا ما أكدته مرة أخرى المحكمة العليا عندما صادقت على قانون المواطنة: الكنيست تشرع، الحكومة تنفذ والمحكمة تصادق. عاشت ديمقراطية سيربيروس المجيدة.
نحن لا نتكلم هنا عن وعران احتضنهم حزب "يسرائيل بيتينو" العنصري جاؤوا من بارات وشوارع روسيا سعيا وراء حياة أفضل بل نتكلم عن زبدة المجتمع الإسرائيلي، عن النخبة، عن جهابذة القضاء، عن ضمائر الدولة العبرية. فهذا القاضي أشر غرونيس الذي سوف يصبح قريبا رئيس المحكمة العليا يقول" حقوق الإنسان ليست وصفة للانتحار القومي" ويضيف: " لا يوجد في العالم دولة تسمح بدخول مواطنين أعداء إليها في ساعة حرب. ولا يوجد محكمة في العالم تسمح بدخول مواطنين أعداء إلى دولتها". لقد نسي "سعادة" القاضي أن هؤلاء الأعداء هم سكان البلد الأصليين. وآخر يقول: رفض القانون يعني التفريط بأمن الدولة. ويضيف آخر: رفض القانون يعني الاعتراف بحق عودة اللاجئين. أما الصحفي العنصري في جريدة معاريف بن درور يميني فيقول: " لقد أنقذت المحكمة نفسها من نفسها، فلو سقط القانون لحصلت هزة أرضية وكانت خطوة صغيرة في طريق طويل لإلغاء دولة إسرائيل كدولة قومية للشعب اليهودي".
قد يقول البعض: ولكن خمسة قضاة ومن ضمنهم رئيسة المحكمة نفسها صوتوا ضد القانون. أولا، هذا جزء من اللعبة التي تفترض تقسيم الأدوار. لكي تنجح اللعبة لا بد من وجود معارضة. وفي هذه الحالة دور المعارضين لا بقل من حيث الأهمية عن دور الموافقين. ثانيا، الخلافات بين القضاة المعارضين والقضاة المؤيدين للقانون لم تكن مبدئية أو كيفية أصلا، بل كانت حول التفاصيل وشمولية القانون.
تصوروا أن مثل هذا القانون كان قد سن وصادقت عليه المحاكم العليا في الولايات المتحدة الأمريكية أو في إحدى الدول الأوروبية وكان موجها بشكل خاص ضد اليهود فماذا ستكون النتيجة؟ أظن لا حاجة هنا للإسهاب فالجواب معروف. المأساة هي أن بعض مؤسساتنا القيادية من أحزاب سياسية ومنظمات أهلية مهتمة بحقوق الإنسان كانت (وما زالت) تظن أن المحاكم الإسرائيلية من حيث المبدأ هي محاكم نزيهة وعادلة خصوصا إذا ما قورنت بالكنيست أو الحكومة.وكانوا إذا ما حصل لهم أي غبن من الكنيست أو الحكومة يهرولون إلى المحكمة طلبا للعدالة. وأن ما يحصل حاليا في أروقة المحاكم من أحكام جائرة وعنصرية هو من التأثير الخارجي السلبي. ونرى هذه المؤسسات تدين بكل ما لديها من عبارات وصراخ القوانين العنصرية الصادرة عن الكنيست والسياسة الحكومية التي تنفذ هذه القوانين ولكن إدانتها تصبح قريبة من العتاب عندما يتعلق الأمر بالسلطة القضائية.
نعود إلى قصة سيربيروس في المتولوجيا الإغريقية: فقط البطل هرقل استطاع أن يصارع هذا الكلب المشوه وينتصر عليه، فهل ما زال هناك أبطال من هذا النوع؟

Wednesday, January 11, 2012

عملية "كوب الماء المسكوب"

عملية "كوب الماء المسكوب"
علي زبيدات – سخنين

الموضوع بحد ذاته لا يستحق التعقيب أو التعليق: زميلان في بيت دافئ واحد وفي لجنة موقرة واحدة اختلفا فرفع أحدهما صوته بما لا يعجب الأخرى مما أثار عصبيتها فسكبت عليه كوبا من الماء. البعض يقول لكي تبرد من عصبيتها والبعض الآخر يقول لكي يبرد هو حماسه قليلا ومن ثم يهدأ. عادي، مثل هذه الأمور تحدث في أحسن العائلات وفي حالتنا هذه في أحسن البرلمانات. هذه السطور ليست دفاعا عن أحد وليست تشفيا بأحد. وعلى كل حال فقد عادت المياه إلى مجاريها بسرعة حيث قامت لجنة التأديب التابعة للكنيست بمعاقبة هذه الفاشية الصغيرة بإبعادها لشهر عن اجتماعات الكنيست الأمر الذي وصف بالعقوبة القاسية، وقامت هي بتقديم بعض عبارات الاعتذار للعضو المعتدى عليه الذي أسرع بالتعبير عن سروره بالعقاب الذي نالته المعتدية.
السؤال الذي يعود ويطرح نفسه بعناد: هل تشكل الكنيست ولجانها ونقاشاتها حقا حلبة جيدة وضرورية للنضال من أجل الدفاع وتحصيل حقوق الجماهير الفلسطينية في هذه البلاد؟ للوهلة الأولى يبدو الجواب قاطعا: نعم، طبعا. لو لم يكن كذلك فلماذا يتعرض النواب العرب بغض النظر عن انتماءاتهم الحزبية والإيديولوجية إلى كل هذه الاهانات والمضايقات؟ النائب غالب مجادلة الذي ينتمي إلى حزب صهيوني عريق لم يكن الأول ولن يكون الأخير الذي يتعرض لمثل هذه المعاملة. فقد سبقه نواب ينتمون إلى أحزاب "قومية" و"تقدمية" وفي بعض الحالات من قبل النائبة الفاشية الصغيرة نفسها التي جاءتنا قبل سنوات معدودة من روسيا واليوم تريد أن تتحكم بمصائرنا.
ولكن هل تصرفات نواب اليمين المتطرف وغير المتطرف تجاه النواب العرب سبب كاف ومقنع لوجود نواب عرب بحجة النضال من أجل حقوقنا المشروعة من على منبر الكنيست؟ سمعت أحد الشباب الظرفاء يقول لأحد النواب العرب في إحدى المظاهرات التي انتهت بمواجهات طفيفة مع قوات الشرطة: في البلدان الأخرى يقوم نواب البرلمان عادة بحماية الجماهير من هراوات الشرطة ما عدا هنا حيث تقوم الجماهير بحماية نواب الكنيست العرب.
لسنا هنا بصدد تاريخ الكنيست الحافل بالجرائم ضد الشعب الفلسطيني ولسنا بصدد مكانتها ودورها في الدولة الصهيونية. فكل هذه الأمور أصبحت معروفة لكافة قطاعات الشعب. واليوم لسنا في أجواء انتخابات لكي ندعو للمقاطعة. يكفي أن نتذكر القوانين التي سنتها الكنيست في الفترة الأخيرة فقط: من قانون المواطنة والنكبة ولجان القبول مرورا بقانون المقاطعة والجمعيات وحتى قانون الولاء والدولة القومية اليهودية والحبل عالجرار.
طبعا سيقول البعض أن النواب العرب يعارضون هذه القوانين ويناضلون ضدها من أروقة الكنيست نفسها وبكل ما يملكونه من صراخ. وهذا صحيح بكل تأكيد: من أجل سن هذه القوانين العنصرية الأغلبية مضمونة ولكن الضرورة الأهم هو تأمين وجود معارضة صاخبة ولكن عقيمة لكي تتم اللعبة "الديمقراطية" وذلك من أجل ترويج الطابع الديمقراطي للدولة العبرية حتى يتم التصفيق لها في أوروبا وأمريكا وأماكن أخرى. هذه هي متعة اللعبة البرلمانية: حيث يخرج الجميع بعد يوم عمل شاق مبسوطين. الائتلاف الحاكم يسن القوانين العنصرية متى يشاء وكيفما يشاء، والمعارضين من النواب وخصوصا العرب منهم يملئون الدنيا ضجيجا ولكن تبقى طواحينهم فارغة.
يبدو أن بعض الناس قد أدمنوا هذه اللعبة البرلمانية ولا يستطيعون تركها ويحاولون إقناع أنفسهم وإقناع الآخرين بضرورة وجودهم وبقائهم في الكنيست هذا بالرغم من كونهم أول من يعرف أضرار هذه اللعبة.
يقول المثل العربي: "من يريد مداعبة القطط عليه أن يتحمل خراميشها". عندما تعرضت النائبة حنين الزعبي إلى هجمة شرسة بسبب مشاركتها في أسطول الحرية هب الجميع يدافعون عنها حتى الذين لا ينتمون لحزبها بصلة. ولكن عندما تعرضت لبعض المضايقات من قبل زملائها في الكنيست ومن بينها الاعتداء عليها من قبل النائبة ميخائيلي نفسها فإن القصة تختلف. وقس على ذلك باقي النواب.
عملية كأس " الماء المسكوب" وعملية"الرصاص المصبوب" هما وجهان لعملة واحدة صكت في الكنيست الصهيوني.

Wednesday, January 04, 2012

حكاية "المقاومة الشعبية السلمية"

حكاية "المقاومة الشعبية السلمية"
علي زبيدات – سخنين

في الآونة الأخيرة كثرت التصريحات الصادرة عن أقطاب السلطة الفلسطينية وخصوصا عن رئيسها محمود عباس والتي تدعو للجوء إلى المقاومة الشعبية السلمية في مقاومة الاستيطان والجدار والاحتلال بشكل عام. وقد تزامنت دعوته الأولى أثناء ذهابه إلى الأمم المتحدة لحصاد ما سمي في حينه باستحقاق أيلول للاعتراف بالدولة الفلسطينية. وفي حينه نظمت بعض المسيرات الهزيلة تتناسب مع هذه الخطوة الهزيلة والهزلية في آن واحد وكلنا يعرف ماذا كان مصير هذه الخطوة "التاريخية" وكل ما رافقها من "مقاومة شعبية"، حيث أسدل الستار عليها نهائيا وأصبحت نسيا منسيا.
اليوم، يعود إلينا السيد محمود عباس مرة أخرى لكي يبشرنا أن المصالحة بين فتح وحماس تمت على أساس الاتفاق على نبذ المقاومة "المسلحة" واللجوء فقط إلى "المقاومة الشعبية السلمية" ولتجميلها أضاف:على طريقة الربيع العربي. كما تضمنت اتفاقية المصالحة على ضرورة أن تستمر الهدنة ليس في قطاع غزة وحسب بل يجب أن تشمل الضفة الغربية أيضا. لنتجاوز التناقض الصارخ بين استمرارية "الهدنة" واتساع رقعتها من جهة وبين مفهوم المقاومة من جهة أخرى، ولنتجاوز تصريحات قيادة حماس المتناقضة أيضا بين صحة أو عدم صحة هذه التصريحات ولنتساءل بل نسأل السيد عباس وأركان سلطته: ما الذي منعهم حتى الآن من اللجوء إلى "المقاومة الشعبية السلمية"؟ وكيف يمكن أن نصدق مثل هذه الدعوة وهو يصرح في كل مكان وزمان وفي كل مناسبة ومن غير مناسبة أن الخيار الوحيد هو المفاوضات والمزيد من المفاوضات ولا شيء غير المفاوضات؟ كيف نصدق مثل هذه الدعوة وهو يقول لكل من يريد أن يسمع أنه ما دام رئيسا لهذه السلطة لن تكون هناك انتفاضة ثالثة أو أية انتفاضة من أي نوع كانت؟ وأخيرا كيف نصدق مثل هذه الدعوة وأجهزة أمن السلطة التي دربها دايتون بتمويل أمريكي – أوروبي – عربي تمنع أي تظاهرة ضد الاحتلال بالقرب من المستوطنات أو الحواجز الرئيسية؟
في الحقيقة، ثورات الشعوب والمقاومة بشكل عام ليست من باب الترف أو من باب المتعة. فهي مليئة بالألم والتضحيات والدمار والمصائب. كنا نتمنى ألا يكون هناك حاجة أصلا لأي شكل من أشكال المقاومة أو الثورات أو الحروب التحررية. أي كنا نتمنى ألا يكون أصلا أي احتلال أو اضطهاد أو ظلم وهي الأمور التي تولد المقاومة على أشكالها. ولكن هذا الحلم لا وجود له على أرض الواقع. فلو لم يقدم الشعب الجزائري مليون شهيد لكانت الجزائر حتى اليوم ترزح تحت نير الاستعمار الفرنسي ولولا الحرب طويلة الأمد وبالغة الدمار التي خاضها الشعب الفيتنامي لما نال حريته واستقلاله ولولا ثورة عبد الناصر لما تأممت قناة السويس بالرغم من الثمن الذي تم دفعه خلال العدوان الثلاثي على مصر.
فلسطين لا تشذ عن هذه القاعدة. لو لم تكن هناك نكبة واقتلاع شعب بأكمله من أرضه، ولو لم يكن هناك احتلال دائم وإذلال دائم وحصار دائم لما كانت هناك ضرورة لأية مقاومة شعبية أو غير شعبية.
يبرر رجالات "المقاومة الشعبية السلمية" طراز آخر زمن دعوتهم هذه أولا: لإحراج دولة إسرائيل أمام العالم: ولكن ما العمل وإسرائيل لا تشعر بأي إحراج؟ فهي ماضية في سياستها تعمل ما تشاء في أي وقت تشاء وكيف تشاء؟. وثانيا: من أجل كسب تعاطف وتأييد الدول الغربية وخصوصا الولايات المتحدة الأمريكية والاتحاد الأوروبي. إلا أن هذا التعاطف حتى الآن لا يساوي قشرة بصل. وأخيرا يبررون هذه الدعوة باختلال موازين القوى لصالح إسرائيل وكأن موازين القوى عندما قررت التنظيمات الفلسطينية خوض تجربة الكفاح المسلح لم تكن مختلة لصالح إسرائيل.
لعل أكثر ما يغيظ في دعاة المقاومة الشعبية السلمية الجدد هو ذلك التناقض الوهمي والتعسفي الذي أدخلوه بين شتى أشكال المقاومة. وكأنه يوجد من يعارض المقاومة الشعبية السلمية، وكأن أشكال المقاومة الأخرى تتناقض مع المقاومة الشعبية السلمية بدل أن تكملها. وهذا ليس فقط تشويها للواقع وللحقيقة بل هو افتراء على مسيرة المقاومة الشعبية نفسها خصوصا على الانتفاضة لأولى والثانية. فالحجر الذي يقاوم دبابة أصبح مقاومة غير سلمية ويجب أدانته ونبذه. وصواريخ القسام البدائية التي تحاول الرد على غارات الطائرات الحربية الإسرائيلية المدججة بالقنابل والصواريخ أصبحت صواريخا عبثية. وربما كانت بالفعل صواريخا عبثية ولكن بما أن الوضع بمجمله عبثي إلى أقصى حدود العبثية فقد أصبحت ألأكثر منطقيا.
إن شعبا مسحوقا، مضطهدا لا يسعى إلى تسليح نفسه وإعداد نفسه لخوض مسيرة طويلة ومؤلمة من التضحيات والنضال إن شعبا كهذا يستحق أن يعامل معاملة العبيد.
لقد منحت جميع الشرائع السماوية والإنسانية الشعب المضطهد الحق في أن يستعمل جميع أشكال النضال من أجل الحصول على حريته. عدالة السلاح تنبع من عدالة القضية التي يستعمل من أجل تحقيقها. من هذا المنطلق نميز بين الحروب الرجعية الاستعمارية المرفوضة مطلقا وبين الحروب الثورية التقدمية. لا يمكن وضع العنف الرجعي الذي تمارسه الأنظمة ضد شعوبها وشعوب غيرها والعنف الثوري التحرري الذي تمارسه هذه الشعوب من أجل الحرية في سلة واحدة.