Wednesday, August 27, 2008

بؤس الديموقراطية وديموقراطية البؤس



تجتاح مدننا وقرانا العربية حمى شديدة الارتفاع هي حمى الانتخابات المحلية. وهي ككل حمى مرضية مرتفعة تنقل المصاب بها الى حالة من الهذيان والهلوسة بالاضافة الى اعراض اخرى عديدة مثل الصداع والاسهال والغثيان. حمى الانتخابات المحلية تصيب أول من تصيب معظم المرشحين لرئاسة البلديات والمجالس المحلية الذين يتوهمون ويوهمون بأنهم المسيح المنتظر الذين سوف يحولوا بلداتهم الى جنة عدن على الارض وسرعان ما يبدؤون بالهذيان حول مقدراتهم الخارقة وبطولاتهم الوهمية ويصابون بالاسهال الشديد في الشعارات الرنانة والخطابات الحماسية الملتهبة، ومن ثم ينتقل هذا الفيروس الى باقي الناس حيث تسود حالة عامة من الصداع والآلام الشاملة تصل عند بعض المرهفين حسيا الى حالة من الغثيان والتقيوء.
من يتابع المواقع الاخبارية الالكترونية والجرائد المحلية، او من يمشي في الشوارع في هذه الايام ويدخل الدواوين المتزايدة على قارعة الطرقات لا بد أن يصاب بعدوى هذه الحمى خصوصا اذا كانت المناعة عنده ضعيفة، ويسمع أمورا تصدق وأخرى لا تصدق.
فهذه العائلة الكبيرة، من تلك المدينة العامرة، تدعو أفرادها الى إجتماع عام لإختيار أو انتخاب مرشحها للرئاسة (برايمريز عائلي) وتتصرف وكأنها حزب سياسي لكل شي. في اليوم التالي نقرا الخبر في احد المواقع الاخبارية أو يوم الجمعة في احدى الصحف، تحت العنوان التالي: "عقد مساء أمس الاربعاء إجتماع تحضيري أولي لعائلة "فلان" في "اسم البلد" والذي اجتمع من خلاله كبار العائلة والشباب والنساء". وكثيرا ما يتم إنتخاب الدكتور فلان أو المهندس علان. ولكن هذا ليس شرطا فقد يتم إختيار شخص أمي أو شبه أمي إذا كان يملك القليل من الطموح والكثير من الفلوس. وهذا يعني أن المثقف وغير المثقف في الهوا سوا وجميعهم يصابون بنفس الحمى ويعانون من الاعراض نفسها.
بالمقابل نرى الاحزاب السياسية التي تحمل اسما طويلا مشبعا بالمصطلحات السياسية من ديموقراطية ووطنية وتقدمية ودينية، تلهث وراء العائلات المختلفة باحثة عن حفنة من الاصوات حتى ولو باعت هذه المصطلحات التي تزين اسم احزابها بأبخس الاثمان.
قبل عدة سنوات، عندما كنت محسوبا على إحدى الحركات الوطنية، وبعد جهد جهيد من المداولات والنقاشات حتى استطعنا الاتفاق على قائمة المرشحين، وفي اللحظات الاخيرة قبل تقديم القوائم جاءني بعض القياديين في الحركة وقالوا: اسمع يا رفيق، صحيح نحن حركة وطنية، تقدمية ومبدئية ولكن في صناديق الانتخابات لا يوجد هناك اوراق وطنية ومبدئية بل يوجد أوراق عائلية لذلك قررنا تغيير قائمة المرشحين لأن العائلة الفلانية وعدتنا بمنحنا اصواتهم اذا وضعنا ابنهم في مكان متقدم من القائمة.
عندها تذكرت مقولة ذلك الزعيم الصيني (الذي كان يتصدر الاخبار في ذلك الوقت) الذي اعاد الرأسمالية للصين الشعبية: "لا يهم إذا كان القط أحمر أم أسود ما دام يصطاد الفئران".
في الانتخابات الاخيرة، بعدما أعلنت كفري بجميع الاحزاب والتنظيمات والقوائم الانتخابية مهما كان لونها وشكلها، جائني بعض المثقفين من الحارة لاقناعي بالتصويت لأحد المرشحين من الحارة وفي أفواههم الحجة التالية: "يا أخي أنت تعلم أن حارتنا مهملة منذ سنوات ولا أحد منذ إقامة البلدية وحتى اليوم كلف خاطره والتفت الينا، وها هو "فلان" إبن الحارة قد وعدنا بأن يعمل على خدمة الحارة وتقدمها، فواجب علينا أن نمنحه أصواتنا".
لا أدري من أين تأتينا الوقاحة لنطالب العالم بأن يعترف بنا كشعب، ونحن نحمل في رؤوسنا عقلية الحارة ولا نعترف بأنفسنا حتى كقرية او مدينة.
هذا هو العرس الديموقراطي إذن. انه يشرذمنا الى حارات وطوائف وحمايل. هذا العرس الذي يزوجنا زواج متعة مبني على المصالح الخاصة.
اما الانتخابات الراهنة، فقد قدم اعرق واكبر حزب على الساحة المحلية والوطنية افضل مسرحية في الادب السياسي التجريدي أو الرمزي أو اللامعقول، إختارو ما تشاءون، عندما إختار مرشحه لرئاسة البلدية بالاجماع في عملية ديموقراطية سوف تدرس قريبا في الكليات والجامعات. ولا أريد أن أدخل في التفاصيل، فهي متوفرة في كل مكان.
هذه الديموقراطية التعيسة التي تختزل جميع القيم كل أربع سنوات في ورقة صفراء مهما وصل ثمنها تبقى رخيصة. هذه الديموقراطية التي تجرف المثقفين والشباب، والمفروض أن يكونوا هم عماد المجتمع وضمان تقدمه، الى مستنقع المصالح الشخصية الضيقة، والفساد والرشوات.
نبقى نحن، بؤساء هذه الامة، من يدفع ثمن هذه الديموقراطية البائسة.

Wednesday, August 20, 2008

النوايا الخبيثة للحكومة الاسرائيلية



منذ التوقيع على إتفاقيات أوسلو واسرئيل تتبع ما يسمى سياسة "النوايا الحسنة" في تعاملها مع قضية الاسرى السياسيين الفلسطينيين. كانت هذه "النوايا الحسنة" دائما وما زالت قناعا شفافا للنوايا الخبيثة الحقيقية للحكومة التي سرعان ما تطفو على السطح بعدة فترة قصيرة. فكلما دخلتا لمفاوضات بين الطرف الاسرائيلي والطرف الفلسطيني الى طريق مسدود، أو كلما إزداد الضغط الدولي على الحكومة الاسرائيلية، أو كلما ارادت الحكومة الاسرائلية تنفيذ خطة معينة تلاقي معارضة فلسطينية او دولية، مثل توسيع الاستيطانن او بناء الجدار العازل او المضي في تهويد القدس، ولذر الرماد في العيون كانت تلجأ الى هذه "النوايا الحسنة" وتطلق سراح بعض الاسرى.
لقد اصبحت هذه اللعبة الاسرائيلية مفضوحة حتى في عيون المفاوضين الفلسطينيين الذين قدموا وما زالوا يقدمون التنازل تلو التنازل لإرضاء الطرف الاسرائيلي. فقد كانت الحكومة الاسرائيلية في جميع نواياها الحسنة تختار عدد ضئيل من الاسرى غالبا من ذوي الاحكام الخفيفة، او الذين شارفوا على انهاء مدة سجنهم ولم يتبق لهم سوى شهور معدودة، وفي كثير من الاحيان لم يكن هؤلاء اسرى سياسيين اصلا، بل سجناء جنائيين. والانكى من ذلك انها كانت وخلال فترة وجيزة تعتقل اضعاف اضعاف عدد المحررين.
ألاخبار الاخيرة عن إطلاق سراح 199 اسيرا فلسطينيا كبادرة "حسن نية" تجاه رئيس السلطة الفلسطينية محمود عباس، لا تحيد عن هذه الاستيراتيجية قيد انملة، اللهم سوى أن النوايا الخبيثة التي تقبع ورائها تزداد خبثا عن سابقاتها.
لقد جاءت هذه البادرة بعد عملية تبادل الاسرى مع حزب الله والتي كانت الحلقة الاخيرة من مسلسل الهزيمة الاسرائيلية في حربها الاخيرة ضد لبنان. وجاءت قبل الوصول الى إتفاقية تبادل الجندي المختطف جلعاد شليط باسرى فلسطينيين. الرسالة التي تريد الحكومة الاسرائيلية نشرها وتعميمها، أنه يمكن إطلاق سراح الاسرى من خلال المفاوضات والنوايا الحسنة للحكومة وليس من خلال إختطاف جنود إسرائيليين وإرغام الحكومة على التبادل. ولكنها في هذه المرة بالذات تريد تمرير رسالة أخرى أشد خبثا، فهي تريد صب الزيت على النار لإذكاء نار الفتنة بين حركتي حماس وفتح وتأجيج النزاع فيما بينهما وذلك بالتعاون مع أوساط متنفذة داخل السلطة التي أبدت إمتعاضها من إمكانية أن تحقق حركة حماس انجازات في اطلاق سراح عدد أكبر من الاسرى التي كانت إسرائيل ترفض على الدوام إطلاق سراحهم. وقد وصل الامر بهذه الاوساط المتنفذة أن تضغط على الحكومة الاسرائيلية لرفض مطالب حماس بإطلاق سراح بعض الاسرى لكي لا يفسر ذلك وكأنه نصر لها وبالتالي يزيد من قوتها وشعبيتها. فالنوايا الخبيثة للحكومة الاسرائلية تلتقي مع النوايا الخبيثة لهذه الاوساط. وجاءت هذه البادرة الاخيرة لتوفر القناع لهذة النوايا الحقيقية.
العقلية الاسرائيلية لم تتغير بتاتا: أكثر من نصف المحررين قد أنهوا القسم الاكبر من محكوميتهم. الاسرى جرى انتقائهم من التنظيم الاكبر الذي ما زال يقود العمية التفاوضية العقيمة، والاعتقالات الاسرائيلية ما زالت تجري على قدم وساق. حسب تقارير رسمية، أعتقلت اسرائيل منذ العودة من مؤتمر آنا بوليس الذي وعد بتحقيق السلام حتى نهاية هذه السنة، 3700 أسيرا فلسطينيا جديدا، 1751 اسيرا منذ بداية هذه السنة، و 313 في الشهر الاخير.
إذن، ما هو الجديد في "بادرة النوايا الحسنة" هذه؟ يقول البعض أن الحكومة الاسرائيلية توافق لأول مرة على إطلاق سراح أسرى "ملطخة ايديهم بالدم الاسرائيلي" من خلال الموافقة على إطلاق سراح اسيرين امضيا حوالي 30 سنة في السجون الاسرائيلية. هل يوجد هناك ضابط او جندي إسرائيلي يديه ليست ملطخة بالدم الفلسطيني؟ أم أنه يجري في عروق الفلسطيني ماء وليس دماء؟ كم جندي ومستوطن تلطخت يديه بالدم الفلسطيني وجرت محاكمته ومعاقبته؟ كم مستوطن سفك دما فلسطينيا وما زال يرتع ويلعب حرا طليقا؟ من المؤسف اننا بدأنا نستعمل المصطلحات الاسرائيلية نفسها. فإذا كان سفك الدماء هو المعيار لدخول السجن، فعلينا أن نزج بنصف المجتمع الاسرائيلي لكي يتعفنوا بالسجون. انه لمن سخرية الاقدرا أن يتكلم براك وموفاز وديختر وغيرهم عن الاسرى الفلسطينيين "الملطخة ايديهم بالدماء" وهم يقطرون بالدم الفلسطيني من رؤوسهم الى أخمص أقدامهم.
قضية الاسرى الفلسطينيين هي قضية سياسية تماما كقضية عودة اللاجئين وتحرير الارض المغتصبة. يجب التوقف عن إستجداء الحكومة الاسرائيلية واللهث وراء "نواياها الحسنة". يجب إطلاق جميع الاسرى بدون قيد أو شرط.

Wednesday, August 13, 2008

السلام على طريقة أولمرت



نشرت صحيفة هآرتس مسودة إتفاق "سلام" قدمها رئيس الحكومة الاسرائيلية أيهود أولمرت الى رئيس السلطة الفلسطينية محمود عباس. وقد أورد هذا الخبر في الجريدة المذكورة الصحفي آلوف بن المعروف بعلاقاته الوثيقة بالدوائر الحاكمة وبمصادره المطلعة. لا أظن أن تسريب هذه المسودة ( او إتفاقية الرف، كما تسمى) في هذا الوقت بالذات جاء عن طريق الصدفة بل كان مخطط له تماما لكي يساهم في صمود اولمرت في ايامه الاخيرة في منصبه كرئيس حكومة.
أهمية هذه المسودة "الوثيقة" انها جاءت لتفضح مفاوضات أكثر من 18سنة حول ما يسمى السلام الاسرائيلي – الفلسطيني منذ مؤتمر مدريد وحتى اليوم. جاءت لتؤكد أنه بالرغم من تناوب ستة رؤساء حكومة وتشكيل إئتلافات متعددة من أحزاب اليسار والوسط واليمين الصهيونية فإن العقلية الاسرائيلية المتعجرفة والمعادية لأبسط معايير العدل والسلام لم تتغير. وقد آن الاوان للمفاوض الفلسطيني مهما كان جبانا ومتخاذلا أن يسأل نفسه سؤال بسيط وهو: هل بإستطاعة إسرائيل أن تتصرف بشكل يتناقض مع طبيعتها العدوانية وتجنح خقا للسلام؟
يكرر أولمرت الكذبة التي روجها ايهود براك وبيل كلينتون قبل عدة سنوات في أعقاب مؤتمر كامب ديفيد الذي رفض المرحوم عرفات التوقيع على مقترحاته، الكذبة التي قالت أن اسرائيل قدمت للفلسطينيين عرضا سخيا ولكنهم رفضوه. يقول اولمرت انه سيعيد 93% من الاراضي الفلسطينية التي احتلت عام 1967 بينما سيتم مقايضة ال7% المتبقية ب 5.5% من أراضي النقب وهذا يعني إعادة 98.5% من الاراضي المحتلة. الكذبة الاولى في هذه الأرقام هو أن اولمرت استثنى القدس التي تم توسيعها حتى اصبحت تضم حوالي ربع اراضي الضفة الغربية. هذه الاراضي الحقت عنوة بإسرائيل لكي تشكل "العاصمة الابدية" للدولة اليهودية. إقتراح اولمرت يدعو الى ضم الكتل الاستيطانية الكبرى وهذا بحد ذاته يكرس واقع تجزئة وتمزيق ما تبقى من الاراضي الفلسطينية ويجعل من اقامة دولة مستقلة عليها مستحيلا. جدار الفصل العنصري الذي ادعت اسرائيل لسنوات أن هدفه امني لحماية المواطنين سيشكل الحدود المستقبلية بين الدولتين.
ولكن كذبة الانسحاب من الاراضي المحتلة حسب اتفاقية اولمرت ليست الكذبة الوحيدة. فالكذب وتزييف الحقائق والاجحاف يطول كافة البنود المقترحة. ولنذكر أهمها:
1- إنكار حق العودة للاجئين، وهذا موقف صهيوني ثابت منذ عام النكبة وحتى اليوم. يوحد جميع الاحزاب الصهيونية من اقصى اليمين الى اقصى اليسار.
2- القدس، للحفاظ على الائتلاف الحكومي الهش، لم تذكر حتى ولو بكلمة واحدة. وهذه خطوة الى الوراء حتى بالمقارنة مع المقترحات الاسرائيلية السابقة.
3- المستوطنات الرئيسية ستبقى وستضم الى اسرائيل، اما الاخرى فقد وعد بإزالتها وكلنا يعلم الفرق الشاسع بين الوعود الاسرائيلية والتنفيذ.
4- الحدود، جدار الفصل العنصري الذي ينهب مساخات واسعة من الاراضي الفلسطينية ويقطع اوصال ما تبقى منها سيشكل الحدود المستقبلية
5- الدولة الفلسطينية المقترحة سوف تكون منزوعة السلاح، تخضع لترتيبات أمنية اسرائيلية، مزروعة بالحواجز العسكرية في كل معبر وطريق. اي أن الاحتلال مستمر.
هذه هي رؤية اولمرت للسلام مع الفلسطينيين، وهذه هي رؤيته للدولة الفلسطينية المقترحة. بالطبع بعد ذلك يمكن تسمية هذه الدولة " الجمهورية الفلسطينية العظمى" أو"امبراطورية فلسطين" إذا شئتم.
في الحقيقة لا تكمن المشكلة في المقترحات الاسرائيلية مهما كان مصدرها ومهما كان شكلها، ولكنها تكمن في استعدادنا منقطع النظير للتجاوب معها وتصديقها. قد يدعي البعض وبحسن نية، انه لن يكون هناك فلسطيني واحد يقبل بمثل هذه المقترحات. وانا هنا أحذر من هذه النظرة الساذجة وقصيرة النظر للأمور. وأقول انه يوجد هناك أوساط فلسطينية واسعة ليس فقط انها مستعدة لتقبل هذه الاقتراحات، بل انها على اتم استعداد لقبول مقتراحات أقل منها ايضا. المساومة تجر المساومة. والتنازل يجر التنازل، والمنتفعون يتكالبون.
لذلك على جماهير شعبنا أن تبقى بالمرصاد. هناك مؤشرات عديدة تشير الى انه بالرغم من الرفض اللفظي لهذه المقترحات وبالرغم من التمسك اللفظي ايضا بشعارات ما يسمى "الثوابت الوطنية"، تبذل جهود حثيثة من خلال استمرار المفاوضات العبثية السرية، للتوصل لإتفاق يهضم الحقوق الطبيعية المشروعة للشعب الفلسطيني. ولا أدري اذا كان التصريح الاخير لرئيس الوفد الفلسطيني المفاوض الذي يقول: اذا رفضت اسرائيل اقامة الدولة الفلسطينية فإننا سنطالب بالانضمام الى دولة ثنائية القومية، يصب في هذا الاتجاه. الكلام عن الانضمام الى اسرائيل لا يعني سوى الاعتراف وقبول الاحتلال.