نشرت صحيفة هآرتس مسودة إتفاق "سلام" قدمها رئيس الحكومة الاسرائيلية أيهود أولمرت الى رئيس السلطة الفلسطينية محمود عباس. وقد أورد هذا الخبر في الجريدة المذكورة الصحفي آلوف بن المعروف بعلاقاته الوثيقة بالدوائر الحاكمة وبمصادره المطلعة. لا أظن أن تسريب هذه المسودة ( او إتفاقية الرف، كما تسمى) في هذا الوقت بالذات جاء عن طريق الصدفة بل كان مخطط له تماما لكي يساهم في صمود اولمرت في ايامه الاخيرة في منصبه كرئيس حكومة.
أهمية هذه المسودة "الوثيقة" انها جاءت لتفضح مفاوضات أكثر من 18سنة حول ما يسمى السلام الاسرائيلي – الفلسطيني منذ مؤتمر مدريد وحتى اليوم. جاءت لتؤكد أنه بالرغم من تناوب ستة رؤساء حكومة وتشكيل إئتلافات متعددة من أحزاب اليسار والوسط واليمين الصهيونية فإن العقلية الاسرائيلية المتعجرفة والمعادية لأبسط معايير العدل والسلام لم تتغير. وقد آن الاوان للمفاوض الفلسطيني مهما كان جبانا ومتخاذلا أن يسأل نفسه سؤال بسيط وهو: هل بإستطاعة إسرائيل أن تتصرف بشكل يتناقض مع طبيعتها العدوانية وتجنح خقا للسلام؟
يكرر أولمرت الكذبة التي روجها ايهود براك وبيل كلينتون قبل عدة سنوات في أعقاب مؤتمر كامب ديفيد الذي رفض المرحوم عرفات التوقيع على مقترحاته، الكذبة التي قالت أن اسرائيل قدمت للفلسطينيين عرضا سخيا ولكنهم رفضوه. يقول اولمرت انه سيعيد 93% من الاراضي الفلسطينية التي احتلت عام 1967 بينما سيتم مقايضة ال7% المتبقية ب 5.5% من أراضي النقب وهذا يعني إعادة 98.5% من الاراضي المحتلة. الكذبة الاولى في هذه الأرقام هو أن اولمرت استثنى القدس التي تم توسيعها حتى اصبحت تضم حوالي ربع اراضي الضفة الغربية. هذه الاراضي الحقت عنوة بإسرائيل لكي تشكل "العاصمة الابدية" للدولة اليهودية. إقتراح اولمرت يدعو الى ضم الكتل الاستيطانية الكبرى وهذا بحد ذاته يكرس واقع تجزئة وتمزيق ما تبقى من الاراضي الفلسطينية ويجعل من اقامة دولة مستقلة عليها مستحيلا. جدار الفصل العنصري الذي ادعت اسرائيل لسنوات أن هدفه امني لحماية المواطنين سيشكل الحدود المستقبلية بين الدولتين.
ولكن كذبة الانسحاب من الاراضي المحتلة حسب اتفاقية اولمرت ليست الكذبة الوحيدة. فالكذب وتزييف الحقائق والاجحاف يطول كافة البنود المقترحة. ولنذكر أهمها:
1- إنكار حق العودة للاجئين، وهذا موقف صهيوني ثابت منذ عام النكبة وحتى اليوم. يوحد جميع الاحزاب الصهيونية من اقصى اليمين الى اقصى اليسار.
2- القدس، للحفاظ على الائتلاف الحكومي الهش، لم تذكر حتى ولو بكلمة واحدة. وهذه خطوة الى الوراء حتى بالمقارنة مع المقترحات الاسرائيلية السابقة.
3- المستوطنات الرئيسية ستبقى وستضم الى اسرائيل، اما الاخرى فقد وعد بإزالتها وكلنا يعلم الفرق الشاسع بين الوعود الاسرائيلية والتنفيذ.
4- الحدود، جدار الفصل العنصري الذي ينهب مساخات واسعة من الاراضي الفلسطينية ويقطع اوصال ما تبقى منها سيشكل الحدود المستقبلية
5- الدولة الفلسطينية المقترحة سوف تكون منزوعة السلاح، تخضع لترتيبات أمنية اسرائيلية، مزروعة بالحواجز العسكرية في كل معبر وطريق. اي أن الاحتلال مستمر.
هذه هي رؤية اولمرت للسلام مع الفلسطينيين، وهذه هي رؤيته للدولة الفلسطينية المقترحة. بالطبع بعد ذلك يمكن تسمية هذه الدولة " الجمهورية الفلسطينية العظمى" أو"امبراطورية فلسطين" إذا شئتم.
في الحقيقة لا تكمن المشكلة في المقترحات الاسرائيلية مهما كان مصدرها ومهما كان شكلها، ولكنها تكمن في استعدادنا منقطع النظير للتجاوب معها وتصديقها. قد يدعي البعض وبحسن نية، انه لن يكون هناك فلسطيني واحد يقبل بمثل هذه المقترحات. وانا هنا أحذر من هذه النظرة الساذجة وقصيرة النظر للأمور. وأقول انه يوجد هناك أوساط فلسطينية واسعة ليس فقط انها مستعدة لتقبل هذه الاقتراحات، بل انها على اتم استعداد لقبول مقتراحات أقل منها ايضا. المساومة تجر المساومة. والتنازل يجر التنازل، والمنتفعون يتكالبون.
لذلك على جماهير شعبنا أن تبقى بالمرصاد. هناك مؤشرات عديدة تشير الى انه بالرغم من الرفض اللفظي لهذه المقترحات وبالرغم من التمسك اللفظي ايضا بشعارات ما يسمى "الثوابت الوطنية"، تبذل جهود حثيثة من خلال استمرار المفاوضات العبثية السرية، للتوصل لإتفاق يهضم الحقوق الطبيعية المشروعة للشعب الفلسطيني. ولا أدري اذا كان التصريح الاخير لرئيس الوفد الفلسطيني المفاوض الذي يقول: اذا رفضت اسرائيل اقامة الدولة الفلسطينية فإننا سنطالب بالانضمام الى دولة ثنائية القومية، يصب في هذا الاتجاه. الكلام عن الانضمام الى اسرائيل لا يعني سوى الاعتراف وقبول الاحتلال.
No comments:
Post a Comment