هل ما زالت الثورة ممكنة؟
علي زبيدات - سخنين
على ضوء ما آلت إليه ثورات ما سمي بالربيع العربي في السنوات الأخيرة وعلى ضوء ما آلت إليه الثورة الفلسطينية من قبل وعلى ضوء نتائج وتجارب الثورات العديدة التي تفجرت في بقاع عديدة على وجه الكرة الأرضية طوال القرن الأخير، أصبح من الضروري أن نطرح السؤال الذي اخترته عنوانا لهذه المقالة: هل ما زالت الثورة ممكنة؟ في الحقيقة راودني هذا السؤال منذ فترة طويلة من الزمن حتى أصبح في هذه الأيام هاجسا لا يمكن التخلص منه ومن ارهاصاته. لطالما آمنت بأن نجاح الثورة يحتم وجود حزب ثوري طليعي على الطريقة البلشفية يقوم بتنظيم وتعبئة الطبقة العاملة وحلفائها من الطبقات المسحوقة ويقود نضالها حتى استلام السلطة السياسية في اللحظة المناسبة، أي على غرار ثورة أكتوبر 1917 في روسيا. ولكن، في الوقت نفسه، هذه النظرية قد فشلت في ألمانيا بالرغم من وجود الحزب الثوري الطليعي والطبقة العاملة الأكثر تطورا وتنظيما من روسيا. بالطبع كانت هناك ثمة أسباب عديدة للنجاح هنا وللفشل هناك ولكن ليس هنا المكان المناسب للخوض في غمارها.
وهناك النموذج الصيني للثورة الذي بدى ملائما لبلدان العالم الثالث حيث الإقطاع ما زال مهيمنا وطبقة الفلاحين الفقراء هي الطبقة الأكبر، والذي يمكن تسميته: حرب التحرير الشعبية طويلة الأمد. هذا الأسلوب نجح في الصين وفيتنام ولكنه فشل في الهند مثلا. وهنا أيضا يوجد أسباب عديدة للنجاح والفشل لسنا بصددها. وكان هناك النموذج الكوبي: حرب العصابات التي تبدأ بعدد قليل من الثوار وتجذب اليها اعداد متزايدة من المواطنين التواقين للتغير حتى اسقاط النظام الرجعي القديم. ولكن هذا النموذج الذي نجح في كوبا قد فشل في بوليفيا والسلفادور ونيكاراغوا وغيرها.
في هذه الفترة كان العالم العربي يغط في سبات عميق استمر أربعة قرون من الركود في كافة المجالات هي فترة الحكم العثماني. لذلك لم يكن مستغربا أن نسمي مجرد نقل التبعية والولاء من الدولة العثمانية إلى الاستعمار البريطاني بالثورة العربية الكبرى وما زال البعض يحتفل بها إلى يومنا هذا(في الاردن مثلا). النموذجان الأقرب للثورة في عالمنا العربي هما أولا، الثورة الجزائرية ضد الاستعمار الفرنسي والتي سرعان ما خفت بريقها وخبا جوهرها بالرغم من استمراريتها الشكلية. ثانيا، ثورة الضباط الأحرار بقيادة جمال عبد الناصر والتي تأرجحت بين الثورة والانقلاب وانتهت مع وفاة قائدها.
في فلسطين، وآسف اذا كنت سأصدم بعض الناس، لم يكن لدينا ثورة في يوم من الايام. كان لدينا وهم ثورة. وكان في مرحلة معينة وهما كبيرا إذ شمل كافة النماذج التي ذكرتها أعلاه. بالأحزاب والتنظيمات اليسارية كانت تتوهم بأنها تخوض ثورة بلشفية أو حرب تحرير شعبية على الطريقة الصينية-الفيتنامية. اما التنظيمات الوطنية والقومية فكانت تقتدي بالثورة الجزائرية أو الناصرية. بعضنا ما زال يعيش هذا الوهم، فبعض التنظيمات اليسارية التي استفاقت من وهمها غيرت اسمها أو سياستها أو كليهما والتحقت بركب التسوية السلمية. ومن لم يستفق ما زال يعيش وهم الاتحاد السوفياتي بعد ثلاثة عقود على سقوطه أو وهم اشتراكية الصين وكوبا بالرغم من عودة الرأسمالية إليها. أما التنظيمات "الوطنية" فوضعها كان اصعب، فمن استفاق من وهم الثورة وقع في وهم الدولة وأخذ يقنع نفسه بأن الثورة قد أنجزت أهدافها الأساسية بقيام سلطة أوسلو والمطلوب اليوم بناء الدولة عن طريق المفاوضات والتنسيق الأمني ومساعدات الدول المانحة.
يبدو أننا أمام طريق مسدود. مرة أخرى هل ما زالت الثورة ممكنة؟ وما يهمني هنا أكثر: هل ما زالت الثورة الفلسطينية ممكنة؟ في ظل واقع النكبة والتشريد نحن لا نملك طبقة عاملة منظمة ولا قيادة ثورية، طليعية وواعية، ولا نملك مساحات شاسعة مثل روسيا والصين لنخوض حرب تحرير شعبية طويلة الأمد، نتقدم عندما نستطيع ونتراجع عندما نضطر لذلك، المسيرة الكبرى لن تكون إحدى خياراتنا، ولا يوجد لدينا أدغال مثل فيتنام نختبئ بها ولا يوجد خلفنا هانوي تدعمنا أو دول مواجهة تحتضنا.
تعود بي الذاكرة لبعض الكتب التي قرأتها في السجن وتأثرت بها (بعضها كان مهربا أو منسوخا بخط يد) إلى جانب كتب ماركس ولينين وماو تسي تونغ وتشي جيفارا كان هناك ثلاثة كتب لمفكرين عرب ما زال تأثيرها ماثلا في مخيلتي بالرغم من مرور ما يقارب الأربعة عقود على قراءتها وبالرغم من أن مؤلفيها قد تخلوا عن بعض ما كتبوه. هذه الكتب هي: نقد الفكر الديني والنقد الذاتي بعد الهزيمة لصادق جلال العظم وكتاب مقدمات لدراسة المجتمع العربي لهشام شرابي. وقد شملت هذه الكتب مجتمعة وكل على حدة نقدا ثوريا طال كافة جوانب حياتنا من الفرد إلى الأسرة إلى الطائفة، إلى العشيرة، إلى الحكام، إلى المثقفين بالإضافة إلى نقد طريقة تفكيرنا وسلوكنا وشخصيتنا والتي ليس فقط أنها قادت إلى هزيمتنا بل هي المسؤولة عن تخلفنا وعجزنا عن اللحاق بركب الحضارة.
شاءت الظروف أن يأتي في بداية سنوات الالفين المفكر الفلسطيني هشام شرابي إلى الناصرة حيث قدم محاضرة أمام عدد كبير من المثقفين والأكاديميين، وكانت أفكاره النقدية لا تزال تعشش في ذاكرتي ومخيلتي وخصوصا تلك التي تنسف البنية الأبوية للعائلة العربية وعلاقتها بالمجتمع والتربية التي تقود للاتكالية والعجز والتهرب. لم يتكلم المحاضر عن هذه الأمور بالذات ولكنه تكلم عن أمور أخرى أكثر أهمية. ولكنها صدمتني صدمة لم استوعبها حتى الآن أشعر بهولها كلما خطرت ببالي وعندما كنت أكتب هذه السطور. وبما أن ما سأكتبه ليس اقتباسا دقيقا بل ما علق بذاكرتي من هذه المحاضرة لذا ارجو النظر اليها من هذه الزاوية فقط. قال هشام شرابي في محاضرته ما معناه: إن التغيير في المجتمع العربي عن طريق ثورة أو انقلاب سياسي أو نضال يأتي من خارج النظام أصبح مستحيلا. الامل الوحيد في تغيير المجتمع العربي بشكل جذري ممكن بواسطة النخب الشبابية التي استلمت الحكم مؤخرا. وأعطى مثلا، الملك عبدالله الثاني، الذي استلم العرش في اللحظة الاخيرة، يستطيع أن يقود الأردن نحو الانفتاح والتقدم. والملك محمد السادس في المغرب الذي يستطيع هو الآخر قيادة بلاده للتطور ومنح الشعب المزيد من الحريات. وبشار الأسد الذي تعهد في خطاب القسم وبعد تغيير الدستور خلال ربع ساعة، بافتتاح عهد جديد يختلف جذريا عن عهد والده، حتى أطلق على السنة الأولى من حكمه بربيع دمشق وتميزت بانتشار المنتديات الفكرية والثقافية والسياسية . هؤلاء "الفرسان" الثلاثة من جيل واحد، جيل الشباب، واستلموا الحكم في فترة متقاربة هم وحدهم القادرون على التغيير. لا ادري ما الذي دفع هشام شرابي أن يضرب أفكاره النقدية السابقة بعرض الحائط، هل هو اليأس من إمكانية تغيير بنية العائلة العربية البطركية ومن التربية والعقلية السائدتين في المجتمع العربي؟ أم هل خدعه جيل الشباب الذي استولى على السلطة عن طريق التوريث؟ على كل حال، على أعتاب نهاية العقد الثاني من حكم هؤلاء الشباب: عبدالله الثاني لم ينحرف قيد أنملة عن خطى والده. فما زالت الاردن دولة تابعة بل أكثر تبعية من السابق، ربما حادثة السفارة الإسرائيلية الأخيرة لم تكن لتمر بهذه الطريقة في زمن الملك حسين. وها هو محمد السادس يكمل مسيرة والده الحسن الثاني بحذافيرها. اما بشار الأسد فبعد اقل من سنة من حكمه أعاد الحكم البوليسي-المخابراتي وطوره بدرجات عن عهد والده حتى يتلاءم مع اقتصاد السوق واستشراء الفساد. الأمر الذي أدى إلى تدمير سوريا للحفاظ على كرسيه بمساعدة الاحتلال الأجنبي من جهة ولبس قناع المقاومة من جهة أخرى. وها نحن نقف اليوم أمام المزيد من الحكام الشباب: تميم بن حمد في قطر ومحمد بن سلمان في السعودية فهل سينضم هما أيضا إلى قافلة التغيير؟ لم يعد هشام شرابي بيننا لأسأله عن رأيه في ذلك.
للمرة الاخيرة: هل ما زالت الثورة ممكنة؟ آسف، لا أملك جوابا قاطعا ومن لديه جواب فليدلي بدلوه. كل ما أستطيع أن أقوله: إذا أصبحت الثورة غير ممكنة فلنستعد لحياة أبدية من العبودية.
No comments:
Post a Comment