الارتقاء نحو الحضيض
علي زبيدات
لم يعد ذو أهمية إن كان محمود عباس اختير بالتزكية رئيسا لحركة فتح كما أفادت بعض المصادر أو أنه انتخب بالإجماع كما أكدت مصادر أخرى. وليس ثمة من فرق بين من نجح من المرشحين للجنة المركزية وبين من لم ينجح. الآمر سيان بين الحرس القديم الذي تقهقر وبين الدماء "الشابة" التي ضخت. الأمر الوحيد ذات الأهمية هو أن فتح خرجت من مؤتمرها السادس بريئة من تهمة الثورة والمقاومة كبراءة الذئب من دم يوسف. لم تعد تربطها أية علاقة بشيء اسمه حركة تحرير وطني سوى اسمها المعكوس الذي عاد إلى طبيعته. لقد أصبحت فتح حزبا سياسيا آخرا مثلها مثل باقي الأحزاب التي تعج بها ساحتنا العربية. مع فارق بسيط هو أنها حزب لسلطة مشوهة فمن الطبيعي أن تكون هي الأخرى حزبا سياسيا مشوها. لذلك لم استغرب أن ينشر عضو الحزب الشيوعي الإسرائيلي أحمد سعد في موقع الجبهة مقالا طويلا يكيل المديح على المؤتمر والرئيس محمود عباس وقيادته الحكيمة التي " تقود المقاومة الوطنية بواسطة المفاوضات من غير التفريط بالثوابت ..."
قد تكون فتح هي التي أطلقت الرصاصة الأولى ضد العدو فيما يسمى مجازا بالثورة الفلسطينية في الفاتح من يناير عام 1965 – وهي حقيقة قابلة للنقاش- ولكنها في أعقاب هذا المؤتمر، قد أطلقت الرصاصة الأخيرة ولكن هذه المرة على نفسها وعلى جماهيرها.
لا أكتب اليوم كمراقب أو كناقد يتابع الإحداث، بل كعضو سابق في هذه الحركة قضى ستة أعوام في السجون الإسرائيلية بتهمة الانتماء لحركة فتح. وغيري قد قضى فترة أطول أو اقصر. أعود بالذاكرة إلى بداية سنوات السبعين حيث كانت السجون الإسرائيلية مليئة بالمناضلين من فلسطينيي الداخل الذين التحقوا بصفوف فتح لكي يشاركوا في تحرير الوطن المحتل. أذكر على سبيل المثال لا الحصر عشرات الأسرى من عكا ومجد الكروم والناصرة والطيرة وغيرها. في تلك الأيام كانت فتح تشكل حلم مشترك للجماهير الفلسطينية في كافة أماكن تواجدها. وأنظر اليوم إلى المؤتمرين في بيت لحم والمرشحين للجنة المركزية والمجلس الثوري فلا أرى اسما واحدا من فلسطينيي الداخل. الاسم الوحيد الذي لفت نظري ونظر العديدين ولا أدري كيف أصنفه هو اسم أوري ديفيس، ولكن هذه قصة أخرى.
أنا شخصيا أفقت من هذا الحلم الزائف مبكرا. أصلا، لم يكن انتمائي لحركة فتح منذ البداية نابعا عن قناعاتي بأفكارها ومبادئها. الأفكار والمبادئ كانت آخر شيء يهم الحركة منذ اليوم الأول لتأسيسها وحتى ما آلت إليه اليوم. لذلك كنت ترى في صفوفها اليساري واليميني والقومي والمتدين والاشتراكي والماركسي. وكنت أظن في ذلك الوقت أن ذلك ليس بمصيبة ما دام الجميع متفقين على مقاومة الدولة الصهيونية ومعادين للإمبريالية.
قد يقول البعض، كما قال أحمد سعد في مقاله المذكور:" صحيح أن المؤتمر قد تمسك بالخيار السلمي ولكنه لم يتنازل عن حقه باستعمال كافة أشكال النضال". ويشددون على كلمة "كافة" لكي نفهم أن الكفاح المسلح الذي شرعته القوانين الدولية هو من ضمن هذه الأشكال. ولكن هذا الشكل بالذات له اسمه، وكان يذكر في قرارات كافة المجالس الوطنية الفلسطينية خوفا من الالتباس حتى تم وأده مع بداية مرحلة المفاوضات. إن هذا الكلام ليس فقط استهتارا بعقولنا بل تلاعب بعواطفنا وأحلامنا أيضا. من لا يتنازل عن كافة أشكال النضال لا يلاحق المقاومين ويطلق النار عليهم أو يزج بهم في السجون أو يسلمهم للمحتلين أو يسومهم أبشع أنواع التعذيب.
بعد عشرين سنة عقدت حركة فتح مؤتمرها السادس. اللعنة، ألا يوجد تقرير واحد من اللجنة المركزية يقيم هذه الفترة؟ يشير إلى "الانجازات" التي حققتها على الأقل؟ ومن جهتي يستطيع أن يتغاضى عن الإخفاقات. تعقد المؤتمرات عادة لتصحيح مسارات، لمكافأة من قدم وضحى، ومحاسبة من قصر وتقاعس. في مؤتمر فتح لم يكن أي شيء من هذا القبيل. لذلك أقول انه كان مؤتمرا لحزب سياسي مفلس ويعرف انه مفلس، ولكن باقي الأطراف المشاركة تريده أن يبقى. السعودية والأردن ومصر قامت بتمويل هذا المؤتمر، إسرائيل وفرت له الحماية والرعاية وأمريكا باركته.
لم تعد الشعارات تخدعنا. الكلام حول التمسك بالثوابت وبكافة أشكال المقاومة لا يساوي قشرة ثوم. خرتشوف أجهض ثورة بكاملها ولم يكف عن الكلام حول انتصارات الاشتراكية والدخول إلى مرحلة الشيوعية. أنور السادات، قاد الثورة المضادة في مصر في كافة المجالات بينما كان يحتفل سنويا بثورة يوليو المجيدة. فما الذي يمنع محمود عباس من السير على نفس الطريق؟
يقولون لنا، بعد المؤتمر، مع انه لم يكن هناك أي تصريح رسمي بذلك، لن تكون هناك عودة إلى المفاوضات من غير وقف كامل للاستيطان في الضفة والقدس. هل يوجد من يصدق هذا الكلام؟ 16 سنة من المفاوضات الأخيرة كانت تجري مع تزايد الاستيطان، فما الذي تغير خصوصا بعد إعادة انتخاب كبير المفاوضين؟ على كل حال إن غدا لناظره قريب.
تشير تجارب الشعوب التي خاضت تجارب مريرة من أجل حريتها واستقلالها أن أفراد من القيادة أو حركات كاملة قد تتساقط في خضم النضال. وبعض هؤلاء الأفراد وهذه الحركات ترتقي بهذا السقوط مكتفية بخدمة المحتلين مقابل الشزر القليل من الامتيازات. ولكن يبدو أن مثل هؤلاء لا يعرف أن السمك الميت وحده الذي يطفو على سطح الماء.
لقد آن الأوان أن ندفن موتانا ونتابع المسيرة.
No comments:
Post a Comment