دولة واحدة؟ دولتان؟ ثلاث دول؟ لا، شكرا لا دولة
علي زبيدات – سخنين
من حين لآخر تخرج إلينا مجموعة من " المثقفين" الذين تسبق أسماؤهم ألقابا رفيعة بمؤتمر يهدف إلى إنقاذنا من هذا الصراع المزمن والمستعصي الذي أنهك جميع المتصارعين من خلال إيجاد حل عادل وشامل. آخر هذه المؤتمرات كان المؤتمر الذي نظمه مركز مدى الكرمل وجمعية ابن خلدون في حيفا تحت شعار:" فقط حل الدولة الواحدة وثنائية القومية يضمن العدل والمساواة المدنية والقومية للطرفين".
لا أدري ما هو الجديد الذي طرحه هؤلاء"المثقفون" في هذا الموضوع ولم يطرح سابقا في مؤتمر لندن مثلا وفي المؤتمر الذي نظمته حركة أبناء البلد في حيفا أيضا قبل أكثر من عام وفي العديد من اللقاءات والمحاضرات وما تضمنته وثيقة حيفا التي أصدرها مركز مدى نفسه قبل سنوات. أنا شخصيا لم المس أي شيء جديد. ربما الشيء الوحيد الجديد هو التوقيت، يعني الموضة. فكلما تجدد الكلام عن حل الدولتين نلاحظ مثل هذه التحركات التي سرعان ما تتلاشى وتخمد. وحسب رأيي، جاء هذا المؤتمر كرد فعل لخطف الأضواء بعد خطاب اوباما الذي جدد تعهد الإدارة الأمريكية وتمسكها بحل الدولتين وكذلك رد على خطاب نتنياهو الذي تضمن تصوره للدولة الفلسطينية.
إذن، وباختصار، يوجد هناك حل الدولتين الذي يتراوح بين دولة فلسطينية مستقلة في الضفة الغربية وقطاع غزة أي في أحسن الحالات على حوالي 20% من فلسطين التاريخية وبين تصور نتنياهو لدولة منزوعة السلاح لا سلطة فعلية لها على الأرض أو الجو أو البحر مع تنازل كامل عن حق العودة وعن القدس. حل الدولتين هذا الذي يتأرجح بين هذين الطرفين يحظى بما يسمى الشرعية الدولية والمجتمع الدولي أي الأمم المتحدة والولايات المتحدة الأمريكية والاتحاد الأوروبي وإسرائيل والدول العربية والسلطة الفلسطينية.
تعثر هذا الحل لفترة طويلة أثار بالمقابل النقاش حول ما يسمى: "حل الدولة الواحدة" وهو أيضا يتأرجح بين طرفين متباعدين. فهناك العديد من أنصار "ارض إسرائيل الكاملة" ممن كان شعارهم في سنوات الثمانين والتسعين: "أف شاعل" أي "ولا خطوة" يرقصون طربا لدى سماعهم "الدولة الواحدة" وفي الطرف الآخر يوجد من يفهم الدولة الواحدة على أنها دولة "جميع مواطنيها". طبعا في الوسط يوجد قوس واسع من الاجتهادات والتسميات مثل دولة ثنائية القومية، دولة كونفدرالية، دولة المواطنين، دولة ديمقراطية علمانية، الخ.
في ظل هذا الصراع السياسي حدث ما لم يكن بالحسبان. فبينما كان من المفروض أن تتطور السلطة الفلسطينية حتى تصبح الدولة الفلسطينية المستقلة كتجسيد لحل الدولتين، قامت حركة حماس بالسيطرة على قطاع غزة. ووجد من يقول: إننا في الحقيقة أمام ثلاث دول وليس دولتين. إذ أن سيطرة حماس لن تكون أمرا عابرا وهي تتصرف كدولة أكثر بكثير من السلطة في رام الله.
للوهلة الأولى،قد يظن البعض، أن ثمة تناقض صارخ ومباشر بين هذين الطرحين: حل الدولتين مقابل حل الدولة الواحدة. ولكن نظرة أخرى إلى جوهر القضية تبين أن التناقض بينهما نسبي جدا وعلى جانب كبير من الوهم والخداع. الجميع يدعو إلى الدولة من غير أن نسمع شيئا عن طبيعة هذه الدولة وجوهرها اللهم سوى بعض الشعارات الرنانة مثل الديمقراطية والمساواة. هل رأيتم في التاريخ الحديث دولة لا تدعي الديمقراطية ولا تنصب نفسها حارسا على حقوق المواطنين ومنحهم المساواة؟ جميع هذه الحلول تدور في محور واحد: الدولة وقدسية الدولة.
في المؤتمر المذكور يقول الدكتور أسعد غانم: " حل الدولتين في حالة تلاش وآن الأوان لمناقشة حلول أخرى بما فيها حل الدولة الواحدة". وأنا أقول: نعم لقد آن الأوان لمناقشة حلول أخرى بما فيها حل أللا دولة.
هل الدولة هي قيمة عليا تستحق أن نقدم الشهداء من أجلها؟ هل هي ضرورية للمواطن العادي من أجل أن يعيش حياة حرة كريمة؟ الجواب القاطع هو لا. لا يوجد للدولة أية قيمة أخلاقية. الفاشيون وحدهم من يمنحون الدولة مثل هذه القيمة. بينما هي أداة وظيفتها تعكير صفو حياة المواطن العادي.
لا ينبغي أن يكون المرء ماركسيا أو فوضويا لكي يشعر بأن الدولة في حقيقة الأمر ليست سوى آلة قمع في أيدي الطبقات الحاكمة مكونة من جيش وشرطة وسجون ومؤسسات سلطوية مختلفة. وأن الكلام حول الديمقراطية والمساواة وسيادة القانون لا تهدف إلا إلى تشديد الرقابة والسيطرة وفي بعض الأحيان تلطيف الأجواء لكي لا تتمرد الطبقات المسحوقة.
نعم، لقد آن الأوان لكي نناقش حلول أخرى. فلماذا لا نحيي النقاش الذي كان رائجا في القرن التاسع عشر والقرن العشرين بين جميع الحركات الثورية والتقدمية حول ضرورة إلغاء الدولة كدولة. حول هذا الموضوع بالذات كان هناك توافق مبدئي بين الشيوعيين والفوضويين ليس فقط حول ضرورة نفي الدولة الرأسمالية بل الدولة بحد ذاتها. الخلاف كان بالأساس حول الوسائل الكفيلة بتحقيق هذا الهدف. بينما أصر الشيوعيون على ضرورة تنظيم الطبقة العاملة وعلى دورها التاريخي في صنع الثورة ركز الفوضويون على العمل الفردي.
الفكرة الأساسية في البيان الشيوعي تقول أنه بعد القضاء على المجتمع الطبقي لن تبقى هناك حاجة لجهاز خاص يسمى الدولة. للأسف الشديد بدأ التراجع عن هذه الفكرة بعد سحق كومونة باريس في نهاية القرن التاسع عشر عندما بدأ ماركس وانجلز يتكلمان عن ضرورة مرحلة انتقالية أسمياها: "ديكتاتورية البروليتاريا الثورية" وفيما بعد، في أعقاب انتصار ثورة أكتوبر في روسيا كتب لينين : أن الماركسية تناضل من أجل إلغاء الدولة الرأسمالية، أما الدولة العمالية فإنها تضمحل تدريجيا حتى تختفي بعد الانتقال من الاشتراكية إلى الشيوعية. ما حدث في الواقع كان على العكس تماما هو أن الدولة العمالية عادت إلى الرأسمالية ولم تتطور أبدا نحو الشيوعية.
اليوم، مع تطور العلم والتكنولوجيا وأساليب الإدارة جعلت من الدولة جهازا قمعيا بحتا ينبغي التخلص منه. وعلينا ألا ننسى أن هذا الجهاز هو المسئول الأول عن الحروب والمجاعات والأهوال على المستوى العالمي.
لا يناضل المواطن المضطهد واللاجئ المشرد من أجل الدولة مهما كان القناع التي تضعه على وجهها. إنه لا يقدم التضحيات الجسام حتى الشهادة من أجل من الذي سيحكمه، هذا التنظيم أم ذاك، هذه الحكومة أو تلك. بل يناضل من أجل مثل أعلى سام، من أجل تحرير وطن مسلوب مثلا، من أجل الحرية. الدولة لم ولن تكون هذا المثل السامي.
No comments:
Post a Comment