علي زبيدات – سخنين
عندما تستحوذ الأوهام على رؤوس بعض الناس تصبح أخطر من الحقيقة ويصبح من الصعب بل في بعض الأحيان من المستحيل استئصالها. وهم الدولة الفلسطينية إلى جانب دولة إسرائيل ليس جديدا بل هو قديم قدم القضية الفلسطينية نفسها. ولكنه في ذلك الوقت كان من نصيب أفراد أو أحزاب هامشية منبوذة على الصعيد الشعبي لا تمتلك القرار. أما اليوم فأنه يستحوذ بشكل مرضي على عقول شريحة واسعة من الزعامة المستنفذة للشعب الفلسطيني.
الحملة الأخيرة على هذا الصعيد بدأها سلام فياض، رئيس الحكومة في السلطة الفلسطينية قبل عدة أشهر عندما نشر برنامج حكومته من خلال وثيقة أطلق عليها اسم: "إنهاء الاحتلال وإقامة الدولة" وزعم أنه سيبني مؤسسات الدولة المستقلة خلال سنتين حيث ستقوم هذه الدولة بغض النظر عن نتائج المفاوضات مع إسرائيل. وقد بدأ واضحا أن هذه الوثيقة تحظى بدعم الولايات المتحدة الأمريكية وحلفائها في المنطقة ولا تتعارض جوهريا مع تصور رئيس الحكومة الإسرائيلية، نتنياهو للدولة الفلسطينية والسلام الاقتصادي الذي يعرضه.
هذه الأوهام انتشرت مثل النار في الهشيم وبلغت ذروتها عندما صرحت السلطة على لسان كبير مفاوضيها، صائب عريقات، عن نيتها إعلان الدولة المستقلة من طرف واحد والتوجه إلى مجلس الأمن من أجل الاعتراف بهذه الدولة. بالرغم من موافقة الاتحاد الأوروبي والولايات المتحدة المبدئية على مثل هذه الدولة الوهمية إلا أن موقفهما المعلن هو ضرورة أن تكون هذه الدولة نتيجة للمفاوضات بين الطرفين. ولكن كالعادة فأن الاتحاد الأوروبي يحسن ذر الرماد في العيون ويظهر بعض المرونة في موقفه، حيث تزحزح قليلا عن موقفه السابق الذي يقول بأن ظروف الإعلان عن الدولة الفلسطينية لم تنضج بعد، إلى موقف يقول بأنه على استعداد للاعتراف بهذه الدولة وبالقدس الشرقية كعاصمة لها. وسوف يتخذ قرارا بهذا الشأن الأسبوع القادم خلال اجتماع لوزراء خارجيته. أما الموقف الأمريكي فما زال مطابقا للموقف الإسرائيلي الذي يحتم عودة الفلسطينيين للمفاوضات بدون شروط مسبقة لكي يتم تفصيل الدولة الفلسطينية على مقياس الزعامة الفلسطينية بما تسمح به إسرائيل فقط. على كل حال، يبدو واضحا أن التفاوت في هذه المواقف جاء من باب تقسيم الأدوار والهدف واحد هو تصفية القضية الفلسطينية نهائيا لصالح إسرائيل باسم الحل السلمي.
طبعا، نحن هنا، الفلسطينيون القاطنون في الأراضي المحتلة عام 1948 لسنا بمعزل عن هذه الأوهام بل العكس هو الصحيح حيث تنخر بنا حتى النخاع. قسم لا يستهان به تأسرل نهائيا إلى أقصى ما تسمح به قوانين وواقع الدولة العنصرية، وقسم كبير آخر أصبح هجينا يلهث وراء إيجاد المعادلة، الوهمية في حد ذاتها، بين هويته الإسرائيلية والفلسطينية. وهذا القسم يتبوأ الآن زعامة الجماهير الفلسطينية في هذا الجزء من الوطن المحتل من خلال لجنة المتابعة العليا والأحزاب العربية الإسرائيلية الممثلة في الكنيست وغير الممثلة به ومن خلال باقي المؤسسات. هذه الزعامة تعاني هي الأخرى من صرع أوهام الدولة وتمنح دعمها اللامحدود، مع كونه تافها، لزعامة السلطة في جهودها التسووية.
في الحقيقة حالة هؤلاء المصابين بوهم الدولة تثير الشفقة. فدولة إسرائيل تضرب بعرض الحائط أبسط أوهامهم ولا تكن ذرة احترام لتوسلاتهم ولاستعدادهم تقديم المزيد من التنازلات. تدعهم يهيمون وراء أوهامهم السرابية وطرق أبواب الاتحاد الأوروبي والأمم المتحدة، بينما تتابع هي تنفيذ خططها المعلنة في تهويد القدس وتطوير وتوسيع المستوطنات وإكمال بناء الجدار العازل. أي أنها تزرع الحقائق على ارض الواقع، على كل بقعة تطؤها أقدام الجندي الإسرائيلي. هذه الحقائق التي نواجهها نحن باللهث وراء الأوهام.
عندما يكون هناك احتلال الحقيقة الوحيدة المتبقية هي مقاومة هذا الاحتلال. هذه القاعدة لم تخترعها إسرائيل ولم يخترعها الفلسطينيون. بل هي حقيقة أكدتها وتؤكدها تجارب الشعوب التي ناضلت من أجل حريتها واستقلالها في مشرق الأرض ومغربها. فقط بعد دحر الاحتلال يمكن الكلام عن الكماليات الأخرى مثل الدولة والسلام والتطور والبناء. ما دام الاحتلال جاثما على صدور الناس يمنعهم حتى من التنفس بشكل طبيعي فإن الكلام عن أمور أخرى غير كنس الاحتلال أولا لا يصب إلا في بحر الأوهام.
الاستمرار في طريق المقاومة مهما كانت هذه الطريق شاقة ومهما كلفت من تضحيات ومن آلام هو الطريق الوحيد للتخلص من الأوهام والانتقال إلى الحقيقة. وكما يقول المثل العربي: آخر العلاج الكي. وها نحن نقف أمام آخر العلاج: إما أن تصفى القضية نهائيا، فيبقى اللاجئون لاجئين إلى الأبد وتبقى الأرض محتلة إلى الأبد وإما أن تنهض الأمة من محرقتها كالعنقاء وتتابع مسيرة الحرية.
No comments:
Post a Comment