Saturday, November 21, 2009

الاستقلال الكاذب



توجد هناك ظاهرة أصبح وجودها نادرا ولكنها ما زالت موجودة تسمى بلغة الطب بالحمل الكاذب أو الحمل الوهمي. حيث تظن السيدة التي تعاني من هذه الظاهرة، عادة بسبب اضطرابات نفسية، أنها حامل وتظهر عليها أعراض الحمل الحقيقي: انقطاع الدورة الشهرية، انتفاخ البطن بسبب اختلال توازن الهرمونات، الإقبال على الأكل الزائد فيزداد وزنها، اشتهاء بعض الأطعمة فيبدو وكأنه وحم طبيعي. فتقوم هذه السيدة المسكينة بالاستعدادات لاستقبال المولود وإشاعة الخبر السعيد. ولا تقبل كونها غير حامل بالرغم من تأكيد كل الفحوصات، فهي لا تصدق الأطباء وتحاول التهرب من إجراء فحوصات جديدة. بالطبع هذا الوضع لا يدوم إلى ما لانهاية. وبعد اكتشاف الحقيقة عادة ما تصاب هذه السيدة بصدمة نفسية تتفاوت شدتها وقد تكون بحاجة إلى علاج نفسي طويل.
هذه هي تقريبا حكايتنا مع الاستقلال الكاذب الذي كان من المفروض أن يحتفل شعبنا بذكراه ال21 قبل بضعة أيام وبالتحديد في 15 تشرين الثاني. ولكن مع فرق واحد عن الحمل الكاذب هو أن السيدة بعد أن تكتشف أن حملها كان وهميا تدخل في صدمة نفسية ، أما نحن، وبعد أن اكتشفنا استقلالنا الوهمي لم نصاب بأية صدمة ، وكأن شيئا لم يحدث،وكأن جلودنا أصبحت كجلود التماسيح. ويقوم من يعلن مرة أخرى عن استقلالنا الوهمي القادم. فقبل أن نستفيق من خطة رئيس حكومة السلطة سلام فياض بصدد إعلان الدولة المستقلة خلال سنتين نفاجأ بخطة أخرى صادرة عن أقطاب السلطة مطالبين الإعلان عن استقلال الدولة من طرف واحد ومطالبين المجتمع الدولي الاعتراف بهذا الاستقلال.
الحمل الكاذب، اقصد الاستقلال الكاذب، بدأ بكذبة كذبناها على أنفسنا وصدقناها في دورة المجلس الوطني الفلسطيني المنعقدة في الجزائر عام 1988 والتي سميت اعتباطا "دورة الانتفاضة" بينما كان الهدف الحقيقي منها إجهاض الانتفاضة التي أربكت ليس إسرائيل وأمريكا فحسب بل أيضا القيادة الفلسطينية القابعة في تونس. وبحجة استثمار انجازات الانتفاضة الشعبية على الصعيد السياسي وبناء على وعود من الإدارة الأمريكية بالتفاوض المباشر مع منظمة التحرير الفلسطينية عقدت هذه الدورة وتم رسميا قبول قرار الأمم المتحدة 242. هذه الدورة فتحت الطريق مباشرة إلى مؤتمر مدريد الذي جاء مكافأة أمريكية للأنظمة العربية على موقفها الداعم للحرب الأمريكية على العراق ومن ثم كانت الطريق إلى أوسلو قصيرا ومعها تم إجهاض الانتفاضة نهائيا.
مصمما الاستقلال الكاذب قد رحلا عنا، وحسب تقاليدنا وعاداتنا الشرقية من العيب انتقاد القادة المتوفين خصوصا بعد أن أضفينا عليهما هالة من القدسية، وأعتذر لأني لست من أنصار هذه التقاليد والعادات. الأول: هو الرئيس الراحل ياسر عرفات الذي ورطنا وورط نفسه في اتفاقيات أوسلو والنتيجة معروفة للجميع ولا حاجة هناك للخوض بها ، بالإضافة إلى انه أورث لنا القيادة الحالية. والثاني شاعرنا القومي محمود درويش الذي كتب "وثيقة الاستقلال" واضعا نصب عينيه وثيقة الاستقلال الإسرائيلية. وكلاهما أراد أن يلعب دور بن غوريون الفلسطيني. قد يكون محمود درويش شاعرا مبدعا حمل الجرح الفلسطيني على طريقته الخاصة ولكنه كسياسي كان دون المتوسط وقفزه من سفينة أوسلو والنجاة بنفسه قبل أن تتحطم لم يغير من هذا الواقع قيد أنملة. فقد كان حتى يومه الأخير شاعر البلاط المدلل.
جميع الفحوصات أكدت أن هذا الاستقلال كاذب. انقطاع الدورة الشهرية كان انقطاعا عن المقاومة الشرعية للاحتلال، الإقبال على الأكل الزائد كان إقبالا على خيرات الغرب غير الصحية والنتيجة كانت انتفاخ البطون لبعض المتنفذين في السلطة. وإعلان الاستقلال كان الخبر السعيد الذي من خلاله يلهون الشعب.
ليس من باب الصدفة أن جماهير شعبنا لم تخرج إلى الشوارع محتفلة بهذا اليوم. لم تكن هناك مفرقعات ولا عروض رقص شعبية ولا حتى رحلات الشواء في أحضان الطبيعة أسوة بأبناء عمنا. بصراحة أقولها، أنا الذي أعتبر نفسي غارقا في الهم الفلسطيني حتى النخاع، وهناك العديدين مثلى، نسيت 15 تشرين الثاني وما يمثله إلا بعد سماعه في الأخبار أو القراءة عنه ولا اشعر نشئ إزاء هذا اليوم يدغدغ عاطفتي الوطنية. هل يستطيع أحدنا أن ينسى يوم النكبة أو يوم الأرض؟ أظن أن الاحتفالات الوحيدة في هذه المناسبة اقتصرت على نزلاء المقاطعة في رام الله وبعض الأماكن الأخرى المعروفة بميولها.
الشعوب تحتفل باستقلالها الحقيقي الذي يأتي تتويجا لنضال طويل ومرير والذي ينتهي بدحر المحتلين أو المستعمرين. أليس من العار أن نتكلم عن استقلال وما زال الاحتلال يجثم فوق صدورنا؟ أي استقلال هذا وكل شبر من ارض الوطن مباحا أمام المحتلين؟ كيف يستطيع أهلنا في غزة الاحتفال بالاستقلال وهم يعانون من أطول حصار عرفه التاريخ الحديث؟ وأي استقلال هذا في ظل الجدار العازل ومئات الحواجز التي تمزق ارض الوطن طولا وعرضا؟
لكي نصنع الاستقلال الحقيقي ونحتفل به يجب أن ندحر الاحتلال عن أراضينا أولا.

No comments: