Wednesday, October 14, 2009

التطبيع الثقافي وأهدافه غير الثقافية

التطبيع الثقافي وأهدافه غير الثقافية
علي زبيدات – سخنين

تحيرنا في تسمية المجموعة السكانية التي لم تغادر منازلها وبقت متشبثة بأراضيها بعد عام النكبة وإقامة دولة إسرائيل. أوساط لا بأس بعددها تعرف نفسها بكل بساطة بعرب إسرائيل ويعلنون ولاءهم للدولة بكل مناسبة ومن غير مناسبة واندمجوا بالمشهد الإسرائيلي بقدر ما تتيح لهم القوانين العنصرية المؤسسة لهذه الدولة وواقع التمييز العنصري. ومنهم من يعرف نفسه: بالعرب الفلسطينيين سكان دولة إسرائيل أو الأقلية القومية الفلسطينية من مواطني دولة إسرائيل. أما الأحزاب والتنظيمات الأكثر راديكالية فتنعت نفسها بفلسطينيي الداخل حيث يصبح سكان جنين ونابلس وغزة ولاجئي المخيمات: "فلسطينيي الخارج". كل ذلك لكي يتحاشوا التعريف الوحيد الواقعي وهو أن كل فلسطين ترزح تحت الاحتلال وكل فئات الشعب الفلسطيني بغض النظر عن أماكن تواجدها تعاني من هذا الاحتلال. وفي النهاية فإن الفوارق في ممارسات الاحتلال هي نسبية ومشروطة ولا تغير من طبيعة وجوهر الاحتلال الاستيطاني شيئا.
إذن ما يميز هذه المجموعة السكانية من محافظيها إلى راديكاليها هو علاقتهم بالدولة. هذه العلاقة تتراوح بين القبول التام وبين التحفظ النسبي. وهذا ما نلمسه من الوثائق الصادرة عن مؤسسات رسمية أو أكاديمية تدعي تمثيل هذه المجموعة السكانية مثل "التصور المستقبلي" الصادر عن لجنة المتابعة العليا للجماهير العربية في إسرائيل و"وثيقة حيفا" الصادرة عن مركز مدى الكرمل و"الدستور الديمقراطي" لمؤسسة عدالة. وهذا ما تتضمنه بشكل أو بآخر البرامج السياسية لكافة الأحزاب العربية.
النتيجة أن جميع من يدعي تمثيل هذه المجموعة السكانية يريد أن يستمتع بكلا العالمين: عالم الرفاهية الذي تؤمنه الدولة المتطورة التي تحظى بدعم وتأييد العالم وتنهمر عليها الأموال من جميع الاتجاهات. وعالم الانتماء إلى شعب منكوب يصارع من أجل بقائه.
تطبيع العلاقة بين هذه المجموعة السكانية والدولة التي تحتلهم ليس جديدا فقد بدأ قبل قيام الدولة ولم يتوقف حتى هذا اليوم. هذا التطبيع لا يقتصر على النواحي السياسية واليومية بل يتعداه إلى ما يسمى بالتطبيع الثقافي وهذا حسب رأيي أخطر أنواع التطبيع وذلك لأنه لا يحظى بالاهتمام الكافي وبالتالي لا يقاوم بالشكل المطلوب. وكذلك لأن مخاطرة بعيدة المدى تؤدي إلى تحولات جذرية في جوهر الصراع لا يمكن تلافي عواقبها الوخيمة إذا استفحلت.
في العام الماضي أو الذي سبقه أذكر أني تلقيت رسالة من صديقة عزيزة لا غبار على انتمائها الوطني الصادق تدعوني إلى مشاهدة مسرحية "هادفة" تعرض في إطار مهرجان "مسرحيد" الذي يقام سنويا في مدينة عكا،بصفتي شخص مثقف يحب المسرح. فطلبت من صديقتي أن ترسل لي ما لديها من معلومات عن المسرحية والمهرجان. فوجدت أن مدير المهرجان هو قاض متقاعد وتذكرت أنه حكم علي شخصيا بالسجن ودفع الغرامات عدة مرات وتذكرت وجوه الناس الغلابة الذين كانوا يملؤون قاعته ينتظرون أحكامه بهدم منزلهم أو إرغامهم على دفع الغرامات الناهضة. ووجدت أن ضيف الشرف في هذا لمهرجان هو الوزير العربي الأول للثقافة والرياضة وضيف الشرف الثاني هو نائب المدير العام لهذه الوزارة المسؤول عن ميزانية بعض الشواقل لنشر "الثقافة" في الوسط العربي.
اعتذرت من صديقتي شارحا لها دوافعي، فقالت: ولكن المسرحية ملتزمة وأنا اعرف المخرج شخصيا وهو إنسان وطني معروف. فقلت لها واضعا حد للنقاش: على المخرج الوطني أن يجد إطارا آخرا لعرض مسرحيته "الملتزمة".
في هذه السنة أيضا، أقيم في مدينة عكا مؤخرا مهرجانان من هذا النوع: مهرجان "مسرحيد" ومهرجان "المسرح الآخر". وجوه بعض الضيوف قد تغيرت. إذ لم يعد لدينا وزير ثقافة، حيث لبس هذه القبعة شخص آخر. بالمقابل كان المهرجانان تحت رعاية رئيس بلدية عكا الذي تعرفه الجماهير العكية جيدا بسياسته العنصرية.
أحد النشيطين في هذا المهرجان وهو مسرحي معروف وينتمي (أو هو فقط مقرب) إلى حزب وطني جدا يفتخر بأن التواجد العربي في هذا المهرجان لم يكن مسبوقا، حتى أن الجائزة الأولى حازت عليها بالمناصفة مسرحية عربية وكذلك الجائزة الثانية. طبعا يجب أن تكون الجائزة بالمناصفة لإرضاء كلا الطرفين. ويضيف هذا المسرحي "الملتزم" معترفا: " المواطن العربي كان بعيدا عن المشاهدة". ويعزو ذلك إلى عدم الاهتمام الإعلامي الكافي لوسائل الإعلام العربية مخفيا الأسباب الحقيقية التي تتلخص بشعور المشاهد العربي بالاغتراب وعدم الانتماء لا من قريب ولا من بعيد لهذا المهرجان. بالإضافة إلى القيمين والراعين الرسميين لهذا المهرجان كانت هناك مجموعة كبيرة من الفنانين المتسولين على أبواب الوزارة والانتهازيين على أشكالهم. من ضمنهم على سبيل المثال لا الحصر، عريفة المهرجان ميرا عوض وصديقتها أحينوعم نينو التي مثلت دولة إسرائيل في مهرجان الأوروفيزيون بينما دماء أطفال غزة لم تجف بعد.
المشاهد العربي لا يكون بعيدا عندما يشعر بالانتماء الحقيقي ومدينة عكا تشهد على ذلك. ومن يشك في ذلك عليه زيارة عكا في أيام الأعياد لكي يرى بأم عينه مدى محبة الجماهير العربية لهذه المدينة. فبدلا من مهرجانات التطبيع والتعايش على المخلصين من فنانينا أن يعرضوا فنهم في مثل هذه المناسبات حيث الجماهير الغفيرة.
يبرر بعض المثقفين نشاطاتهم التطبيعية على أنها الطريقة الوحيدة للحصول على بعض الميزانيات. عندما تصبح الثقافة سلعة رخيصة تباع في المزاد العلني فيجب الإلقاء بها إلى سلة المهملات لأنها تصبح قمامة وليست ثقافة.من أجل الحفاظ على هويتنا الوطنية علينا مقاومة ومقاطعة التطبيع الثقافي بكافة صوره وإشكاله.

No comments: