علي زبيدات - سخنين
في العصر الحديث يوجد هناك ثلاث دول تدعي وتفتخر بأنها نموذج يحتذى به للنظام الديمقراطي وهي بريطانيا الولايات المتحدة الأمريكية وإسرائيل. هذا الادعاء الذي أصبح حقيقة لا يقبل الجدل ويدرس كعلم في كافة المراحل التعليمية من المدارس الابتدائية إلى الجامعات ومراكز الأبحاث كان كافيا لأقولها لكل من يريد أن يسمع: أنا ضد الديمقراطية.
بريطانيا، تاريخها مظلم حالك السواد بالرغم من أن الشمس لم تكن تغيب عن إمبراطوريتها. بنت حضارتها واقتصادها وتطورها , على احتلال بلدان عديدة في شتى أرجاء العالم واستعباد شعوبها ونهب ثرواتها وخيراتها. هذا بالإضافة إلى الحروب العديدة التي شنتها في أوروبا وأفريقيا وأسيا وأمريكا والى الجرائم ضد الإنسانية التي اقترفتها خلال هذه الحروب. هل لأنها حددت صلاحية الملك ونقلت صلاحيته إلى رئيس الحكومة الذي يمثل الحزب الأكبر والذي ينتخب كل عدة سنوات أصبحت دولة ديمقراطية نزيهة؟
النموذج الثاني للديمقراطية، الولايات المتحدة الأمريكية التي قامت على جماجم المواطنين الأصليين من الهنود الحمر بعد أن شنت عليهم حرب إبادة تعتبر من أبشع حروب الإبادة في تاريخ البشرية طالت الإنسان والحضارة واللغة وتتقزم أمامها كافة حروب الإبادة السابقة. وهي الآن تتعامل مع الديمقراطية كسلعة رأسمالية للتصدير إلى جانب الأسلحة الفتاكة التي تصدرها. جرائم الولايات المتحدة الأمريكية "الديمقراطية" أكثر من أن تحصى وتعد، بدءا بإبادة المواطنين الأصلين مرورا باستعباد ملايين الزنوج الذين خطفوا من أفريقيا وتم الإلقاء بهم في حقول التبغ والقطن والمناجم وحتى الحروب العديدة المستمرة والتي لم تسلم منها بقعة على الكرة الأرضية. هل هذا الدولة لأنها كتبت في وثيقة استقلالها " أن جميع البشر خلقوا متساوين وأن بعض الحقوق غير قابلة للتصرف ومنها الحق في الحياة والحرية والبحث عن السعادة" أصبحت نموذجا للديمقراطية؟ بالرغم من أن كل خطوة خطتها منذ يوم استقلالها في الرابع من تموز عام 1766 وحتى يومنا هذا تؤكد عكس ما كتبته تماما: إذ أن جميع البشر لم يخلقوا متساوين، فمنهم من خلق وبيده سلاح القمع والهيمنة ومنهم من خلق عبدا أو محتلا أو لاجئا أو مطاردا. وإن جميع الحقوق قابلة للتصرف بما فيها حق الحياة والحرية والبحث عن السعادة عن طريق إتعاس الآخرين.م هل أصبحت نموذجا للديمقراطية لأنها تنتخب كل خمس سنوات الرئيس الذي اختارته الشركات الكبرى والتي أنفقت ملايين الدولارات لتضعه في الواجهة؟
الضلع الثالث في هذا المثلث الديمقراطي غير المقدس، ثالثة الأثافي، هي دولة إسرائيل. التي بنت نظامها الديمقراطي جدا جدا على الأرض التي نهبتها من تحت أقدام الشعب الفلسطيني في وضح النهار وعلى مرأى العالم أجمع وبمباركة ما يسمى بالشرعية الدولية، بعد أن شتته وألقت فيه بالمنافي، أصبحت واحة من الديمقراطية في وسط صحراء من الاستبداد والطغيان العربي. ولكن يبدو أن الديمقراطية الإسرائيلية لا تتعارض مع سياسة التطهير العرقي ومع سياسة السلب والنهب وكبت الحريات والقتل والزج في السجون بل على العكس، تنسجم معها تمام الانسجام.
قد يقول البعض أن الديمقراطية شيء وأن الأنظمة التي تطلق على نفسها أنظمة ديمقراطية هي شيء آخر. حيث يوجد هناك دوما فجوة بين النظرية والتطبيق. وأن العيب يكمن في التطبيق وليس في النظرية. وهكذا بالرغم من معرفتنا بطبيعة هذه النماذج تبقى "الديمقراطية" حلمنا المقدس المفقود.
أنا أحد الناس الذين يكفرون بالديمقراطية نظرية وتطبيقا. إذا كان التطبيق على هذه الدرجة من السوء ولفترة طويلة من الزمن، فلا بد أن يكون الخلل في النظرية أيضا. الديمقراطية لغويا هي كذبة رائجة ومنطقيا تنطوي على تناقض داخلي: إذا كان الشعب هو الحاكم فمن هو المحكوم إذن؟ وما ضرورة أن يمارس الشعب الحكم على نفسه؟ هذه الكذبة قديمة قدم الديمقراطية نفسها. في اليونان القديمة عندما كانوا يستعملون كلمة شعب لم يكن العبيد والنساء محسوبين على هذا الشعب. إذن حل التناقض يكمن في تعريف كلمة الشعب: بالنسبة للأمريكيين المهاجرين ذوي الأصول الأوروبية هم الشعب، أما السكان الأصليين فهم خارج الشعب، بل أعداء الشعب وبالتالي من الطبيعي إبادتهم. في إسرائيل، المستوطنون الصهاينة هم الشعب، أما الفلسطينيون فهم أعداء الشعب ولا تسري الديمقراطية عليهم. الطبقة الحاكمة هي التي تحدد من هو داخل الشعب ومن هو خارجه. وفي حالات معينة ممكن أن تقصي أشخاصا أو فئات كانت معدودة على الشعب. أثينا القديمة الديمقراطية قررت أن سقراط هو عدو الشعب وقدمت له السم. مما حدا بأفلاطون أن يرفض الديمقراطية ويدعو إلى استبدالها بسلطة الفلاسفة.
في هذه الأيام لم يعد هناك فلاسفة. وإذا وجد البعض فأنهم مغرقون بالرجعية. الديكتاتورية الثورية للطبقات المظلومة هي البديل الوحيد لهذه الكذبة التي تسمى الديمقراطية. الديكتاتورية الثورية التي لا تكتفي بالكلام عن الحقوق غير القابلة للتصرف بل تعمل على تطبيقها. هذه الديكتاتورية الثورية التي يقودها ثوريون ملتزمون تأخذ شرعيتها من الجماهير الثائرة وليس من وثائق ودساتير ميتة بين صفحات الكتب.
كذبة أخرى رائجة في أيامنا هذه جرى الاحتفال بذكراها مؤخرا هي كذبة حقوق الإنسان: بينما كان لاجئو فلسطين في عام النكبة يهيمون على وجوههم باحثين عن مكان يضعوا عليه خيماتهم تبنت الأمم المتحدة في 10 ديسمبر 1948 ما يسمى: الإعلان العالمي لحقوق الإنسان. هذا الإعلان، الذي أصبح إنجيلا بالنسبة للبلدان "الديمقراطية" و لمنظمات حقوق الإنسان التي انتشرت كالفقع في كل مكان ومعظمها لا يعدو كونها أكثر من حوانيت خاصة تتاجر بهذه السلعة الفاسدة، ينضح من أول كلمة فيه إلى آخر كلمة بالنفاق والتمييز بين إنسان وإنسان. إن تكرار الجملة الممجوجة التي تقول: "يولد جميع الناس أحرارا متساوين في الكرامة والحقوق" لم يغير من منسوب النفاق في هذا الإعلان من المادة الأولى إلى المادة الثلاثين الأخيرة شيئا.
معظم أبناء الشعب الفلسطيني، على سبيل المثال لا الحصر، ولدوا تحت الاحتلال أو في اللجوء وكرامتهم مهانة وحقوقهم مهضومة. وعلى دولة إسرائيل قبل أن توقع على هذا الإعلان كان الأحرى بها أن تكون هي نفسها إنسانية أولا. لا يعقل أبدا أن تقترف دولة إسرائيل والدول "الديمقراطية" الأخرى وعلى رأسها الولايات المتحدة الأمريكية جرائم في حق الإنسانية وفي الوقت نفسه تتشدق بحقوق الإنسان وتأتي لتبيعنا بضاعتها الكاسدة في هذا المجال.
عندما يصبح الإنسان أبن نوعه أي عندما يصبح إنسانا يكتسب الحق الأخلاقي للكلام والدفاع عن حقوق الإنسان.