علي زبيدات – سخنين
النقاش حول التطبيع، المقصود هنا علاقة طبيعية بين الفلسطينيين والعرب من جهة وإسرائيل من جهة أخرى، وحول التواصل، والمقصود هنا العلاقة التي تربط أهالي الأراضي الفلسطينية المحتلة عام 1948 وبين باقي الشعب الفلسطيني والشعوب العربية، مستمر بدون توقف. يهدأ تارة ويعلو تارة أخرى. وقد كتب الكثير حول هذا الموضوع وسوف يكتب حوله أكثر. النظرة السائدة في هذا النقاش هي من غير شك إدانة التطبيع بكافة أشكاله، رفضه ومقاومته من جهة والدفاع عن التواصل وتشجيعه من جهة أخرى. ولكن هذه النظرة السائدة لم تحل المشكلة بل زادتها تعقيدا وجعلت الموضوع برمته محفوفا بالمخاطر وكأنه حقلا مزروعا بالألغام. فالمسالة ليست إذا كان التطبيع مرفوض أم لا بل إذا ما كان هذا العمل أم ذاك، هذه السياسة أم تلك تطبيعا أم لا. وإذا ما كان ما نسميه تواصلا لا يصب في مصب التطبيع أم لا.
عاد هذا الموضوع مؤخرا وطفا على السطح واحتل واجهة الأخبار في أعقاب منع وفد لجنة المتابعة العليا من دخول الجزائر للمشاركة بمؤتمر لنصرة الأسرى الفلسطينيين في السجون الإسرائيلية وذلك بإيعاز شخصي ومباشر من قبل الرئيس الجزائري. فقد رأى الجزائريون بهذه المشاركة تطبيعا بينما أعتبر الوفد مشاركته تواصلا. وقد وعد رئيس لجنة المتابعة برفع شكوى حول هذا الموضوع إلى جامعة الدول العربية والى القمة العربية. لا أدري كيف ستبت جامعة الدول العربية أو القمة العربية بهذا الشأن وهي نفسها متهمة بالتطبيع.
حسب رأيي يوجد هناك نظرتان إلى قضية التطبيع والتواصل، الأولى: هي نظرة ميتافيزيقية، ميكانيكية، أحادية الجانب تنظر إلى الأمور وكأنها منعزلة عن بعضها البعض فإما أن يكون أمرا معينا تطبيعيا وإما أن يكون تواصلا. والثانية: نظرة جدلية ترى في هذين المصطلحين تناقضا تربط فيما بينهما وحدة وصراع. قد يتحول الأول إلى الثاني وبالعكس. فقد يكون هناك تواصل نتيجته تطبيعية وقد يكون هناك تطبيع يفرز نوعا من التواصل. أنا شخصيا أومن بالنظرة الجدلية لهذه المعضلة لأنها هي الوحيدة القادرة على نقد تحليل المعطيات بشكل علمي وواقعي واستخلاص العبر منها.
ليس المقصود من هذه المقالة توزيع شهادات وطنية على هذا الشخص أو ذاك أو على هذه الجهة أو تلك أو سحبها منهم إن كانوا يمتلكونها. فلا أحد يملك الصلاحية لمنح أو سحب مثل هذه الشهادات، ولكني لا أنكر الهدف النقدي منها وذلك لأيماني أن النقد هو المقدمة الأولى للحفاظ على الثوابت.
زيارة وفد لجنة المتابعة المفترضة إلى الجزائر قد تكون تواصلا كما كانت الزيارة من قبل إلى ليبيا. ولكن هذا لا ينفي أنها كانت في الوقت نفسه تطبيعا. أعضاء الوفد، بحسن نية أو بغيرها، يرون جانب التواصل فقط ويعمون عن رؤية جانب التطبيع بالرغم من أن هذا الجانب هو الطاغي. إسرائيل قادرة، لو أرادت، على منع الوفد من مغادرة البلاد، ولكنها لم تفعل ذلك لأنها تعرف أن ذلك هو جوهر التطبيع من وجهة نظرها. فماذا يعطي انطباعا على أن الأمور "طبيعية" بين إسرائيل والدول العربية أكثر من مثل هذه الزيارات. على فكرة يجب أن نوضح هنا أن دولة إسرائيل لا تريد علاقات طبيعية مع الدول العربية، وعندما نتكلم عن التطبيع بالمفهوم الإسرائيلي للكلمة هذا يعني قبول الدول العربية لدولة إسرائيل كما هي. أي أن التطبيع هو الاعتراف بالرواية والسيادة الإسرائيليتين. وفد لجنة المتابعة لا يذهب إلى الجزائر أو إلى أية دولة عربية على انه وفد فلسطيني محض بل على انه وفد فلسطيني من مواطني دولة اسرائيل. أي انه يحمل معه المواطنة الإسرائيلية إلى كل مكان يذهب إليه. ويجب هنا ألا ننسى الاسم الكامل للجنة المتابعة:" لجنة المتابعة العليا لشؤون الجماهير العربية في إسرائيل". لاحظوا أن هذا الاسم الرسمي يشطب كلمة فلسطينية بينما يؤكد على كلمة إسرائيلية. لا يمكن أن تكون في النهار إسرائيليا وفي الليل فلسطينيا وفي الوقت نفسه تتباكى لماذا يرفضون دخولك إلى الجزائر!
التطبيع يتداخل مع التواصل في كافة المجالات وليس فقط في الزيارات من هذا النوع والمشاركة في المؤتمرات. خذوا مثلا الرحلات السياحية إلى مصر من طابا وشرم الشيخ إلى القاهرة أليس تطبيعا بين إسرائيل وأكبر دولة عربية على قاعدة اتفاقية كامب ديفيد؟ أم أنها مجرد تواصل بريء؟ وهل يغير من الحقيقة شيء أن يلجأ بعض الوطنيين إلى زيارة المرحوم الشيخ إمام وأحمد فؤاد نجم هربا من تأنيب ضمائرهم؟
مثل آخر، طلابنا في الأردن الذين يعدون بالآلاف، لا يمكن نفي جانب التواصل في هذه القضية والفوائد الأخرى ولكن ماذا عن جانب التطبيع؟ أليس تواجد هؤلاء الطلاب يشكل دعما للتطبيع بين النظام الأردني ودولة إسرائيل؟ هل يمكن أن نكون ضد معاهدة السلام بين الدولتين وفي الوقت نفسه نقبل ببعض نتائجها؟
زيارات "التواصل" التي بدأها عزمي بشارة إلى سوريا والتي جمعت أقارب طال فراقهم عشرات السنين الم يكن لها أيضا جانبا تطبيعيا؟ ألم تخدم هذه الزيارات دولة إسرائيل وتجمل وجها البشع وتضفي عليه مسحة من الإنسانية؟ هذه الزيارات التي اتسعت وشملت دول أخرى من الخليج إلى اليمن إلى المغرب العربي والتي انضم إليها أشخاص لا يتلفعون بعباءة القومية العربية ألم تكن أفضل وسيلة لتغلغل إسرائيل في العالم العربي؟
زيارات الشاعر سميح القاسم المتكررة إلى دول الخليج وغيرها، وهو شاعر المقاومة الذي يملك رصيدا وطنيا لا يمكن أن ينكره أحد والذي يقول أن جوازه الحقيقي هو بيت الشعر وليس جواز السفر الإسرائيلي الذي يحمله والذي يقول لو طبع كل العرب يبقى شخص واحد في الجليل اسمه سميح القاسم لن يطبع، والذي ينعت الدول العربية بحظائر سايكس – بيكو، ألا يوجد موضوعيا لهذه الزيارات نتائج تطبيعية توازي إن كانت لا تفوق نتائجها التواصلية؟
هذه فقط بعض الأمثلة على إشكالية وحدة التناقض بين التطبيع والتواصل.وهي إشكالية عملية وليست نظرية فحسب.
سوف يبقى التناقض بين التطبيع والتواصل قائما ما دام التناقض الأوسع والاشمل بين دولة إسرائيل والعالم العربي قائما. لذلك يجب إخضاع هذا التناقض الثانوي مهما بلغت أهميته إلى التناقض الرئيسي بين الكيانين العربي والإسرائيلي. التواصل الحقيقي هو ذلك التواصل الذي يواجه التطبيع ويقاومه وليس ذلك الذي يتعايش معه. يجب التضحية بالتواصل الذي يخدم التطبيع بالرغم من كل الاعتبارات العاطفية.