من أجل إنقاذ محمود درويش من "المستورثين"
علي زبيدات – سخنين
قبل حوالي اسبوعين جرى احتفال رسمي وشعبي في كفر ياسيف بمناسبة إفتتاح "مؤسسة محمود درويش للإبداع" وصفه القيمين عليه بأنه كان احتفالا مهيبا. وقد انفردت صحيفة حديث الناس بتغطية موسعة لهذا الاحتفال، هذا بالإضافة إلى مقال بقلم المحامي جواد بولس بهذه المناسبة وعن أهداف هذه المؤسسة نشرته الجريدة نفسها. أقول مسبقا، منعا لأي التباس، أن هذه المقالة ليست عن محمود درويش كشاعر أو كسياسي أو حتى كمهجر أو لاجئ. لا يستطيع أحد أن ينكر مكانة درويش وقيمته اللامحدودة وتأثيره على القضية الفلسطينية. ولا اعتراض لدي على التسميات التي أطلقت على الشاعر مهما بلغت من مبالغة مثل: شاعر فلسطين، شاعر الثورة والمقاومة ورمز الثقافة الفلسطينية الإنسانية وغيرها من الأوصاف العاطفية التي تميز ثقافتنا في المجاملات خصوصا في حالات الرحيل عن هذه الحياة. في نهاية المطاف، كل واحد حر في رأيه. هذا لا يعني بطبيعة الحال أن محمود درويش فوق النقد وأن هناك ثمة مسوغ لرعاية نوع من عبادة الشخصية.
على كل حال محمود درويش ليس بحاجة لشهادة مني أو من غيري لإثبات مكانته الخاصة في مجمل القضية الفلسطينية. ولكن يبدو أن البعض بحاجة لمحمود درويش ليثبتوا مكانة لا يستحقونها في القضية الوطنية الفلسطينية وهذا ما كشفه لنا مرة أخرى الاحتفال الأخير في كفر ياسيف. هذه المقالة عن هذا البعض الذي اسميه مجموعة من "المستورثين" مع الاعتذار للسيدة سهى عرفات التي قد تكون تحتفظ بحقوق ابتكار واستعمال هذه المصطلح.
يقول المحامي بولس في مقالته أن الاحتفال كان مميزا بالحضور الذي شمل وفد رفيع المستوى من السلطة الفلسطينية برئاسة رئيس حكومتها سلام فياض بالإضافة إلى بعض أعضاء الكنيست العرب والوزير السابق يوسي سريد وغيرهم، ويتابع المحامي قوله:" إننا نصر أن تبقى المؤسسة خارج تأثير أي حزب أو فصيل أو مجموعة ذات مآرب فئوية". لا أدري إذا كان أحد يصدق مثل هذا الكلام بينما جرى الاحتفال برمته تحت رعاية أكثر شخص مختلف عليه فلسطينيا.
لقد قال محمود درويش ذات مرة: "على الشاعر أن يبقى على مسافة من السياسي. لأن السياسي يتعامل مع الممكن بينما يعبر الشاعر عن الحلم ويتعامل مع المستحيل في السياسة". لكن بعد الشاعر عن السياسي، حسب رأيي، كانت قصيرة جدا وفي بعض الأحيان كانت تتلاشى تماما. قبل اتفاقيات أوسلو كان شاعرنا يمشي جنبا إلى جنب مع السياسي وكان كلاهما يمر في أزمة. بعد اتفاقيات أوسلو اتسعت المسافة بعض الشيء وقد وصف درويش الوضع الذي تمخض عن هذه الاتفاقيات، كمن يخرج المحتل من غرفة نومه إلى الشرفة. بالنسبة للشاعر الشرفة مجال ضروري لاستنشاق الهواء واستمداد الوحي من أجل التواصل مع الحلم ولكنها ليست كذلك بالنسبة للسياسي. لو أخرجت اتفاقيات أوسلو المحتل إلى الساحة الخلفية مثلا لربما اختلفت الأمور. ولكن ها هو المحتل يعود بعد حوالي 20 سنة إلى غرف النوم ولكن هذه المرة بدون أن يقض مضجع النائمين.
احتفال كفر ياسيف يعيد الشاعر بعد رحيله للارتماء في أحضان السياسي.
في الحقيقة كثرة التكريمات التي نالها الشاعر منذ وفاته وحتى اليوم يفوح منها رائحة فاسدة. بدأت منذ اليوم الأول لوفاته. فقد أصرت السلطة على دفنه في رام الله ضاربة بعرض الحائط برغبة ذويه وأصدقائه ورغبته هو نفسه بأن يدفن في الجليل مكان ولادته ومرتع طفولته وصباه. ما زلت أذكر النقاش الساخن الذي دار حول مكان الدفن. وكيف أرسلت السلطة وفدا رفيع المستوى للضغط على أهله لقبول دفنه في رام الله تحت تبريرات واهية. كانت السلطة بحاجة إلى أيقونة أخرى إلى جانب عرفات لكي تعزز من شرعيتها المهزوزة ولكي تمارس عملية التسول السياسي عليها. عرفات دفن في المقاطعة بعد أن تحولت المقاطعة من ثكنة محاصرة إلى بؤرة للتنسيق الأمني. ودرويش دفن في "قصر الثقافة" التطبيعية على ارض مسروقة من أصحابها.
لم يكن هذا "التكريم" عفويا. بل جاء ليقول لدرويش الشاعر اللاجئ ولغيره: من حقك أن تحلم في العودة ولكن ليس من حقك أن تعود ولو كنت ميتا.
لم يكن هذا"التكريم" الوحيد المخجل الذي منحته سلطة رام الله للشاعر. فقد أعلنت قبل عدة أشهر يوم مولده كيوم الثقافة الوطنية الفلسطينية. وأحيت هذا اليوم في احتفال راقص في قصر الثقافة. وتحت رعاية من؟ حزرتم، تحت رعاية رئيس الحكومة الفلسطينية الذي يعدنا بدولة فلسطينية مستقلة في غضون عامين. لا أدري ما سر العلاقة بين الشاعر ورئيس الحكومة. وبما إنني شخصيا لا أؤمن بالصدفة لذلك لم تكن دعوته إلى احتفال كفر ياسيف من باب الصدفة.
طبعا لا يمكن أن أنسى "تكريما" مخجلا آخرا للشاعر في قريته غير المهجرة التي يترأس بلديتها شخص معروف بعلاقاته الحميمة مع السلطات الإسرائيلية. وذلك بإقامة نصب تذكاري للشاعر في وسط البلد حيث سار المحتفلون وراء العلم الإسرائيلي من النصب التذكاري إلى مكان الاحتفال.
ولنعود إلى الاحتفال الأخير في كفر ياسيف. لست ناقدا أدبيا ولا يهمني كثيرا إذا كان الشاعر ندم أو تخلي عن بعض قصائده مثل: بطاقة هوية أو عابرون في مكان عابر أو محمد الدرة أم لا. فبعد أن تم نشر هذه القصائد لم تعد ملكا للشاعر أو لأي شخص آخر بل أصبحت ملكا للقراء. من المخجل أن يدعى الوزير السابق يوسي سريد بصفته صديقا للشاعر لكي يخبرنا أن درويش ندم على كتابة بعض قصائده. وأن يبعث كاتب صهيوني آخر معروف بعنجهيته وعنصريته المبطنة هو عاموس عوز بكلمة تتلى على الحضور يكيل المديح على الشاعر ويشبهه بشاعر الصهيونية الوطني حاييم نحمان بيالك، على غرار تشبيه رئيس حكومة السلطة بمؤسس الصهيونية هرتسل.
لست ضد تكريم المبدعين خصوصا إذا كانوا بهامة محمود درويش مهما اختلفنا حول التفاصيل. على العكس من ذلك فالتكريم ضروري وواجب. ولنتعلم من الحركة الصهيونية نفسها التي تكرم كل من ساهم في خدمتها مهما كان دوره ضئيلا وأسماء المدن والشوارع والمؤسسات الإسرائيلية تشهد على ذلك وتبرزه بشكل يفقئ العيون. علينا أن نكرم كل من ساهم في حمل الهم الفلسطيني والقضية الفلسطينية. ولكن التكريم شيء و"الاستيراث" شيء آخر.
No comments:
Post a Comment