الحقيقة بين هيلن توماس ومحمود عباس
علي زبيدات – سخنين
هل يعني القاضي، عندما يطلب من الشاهد أن يقسم على قول الحقيقة كل الحقيقة ولا شيء غير الحقيقة، ذلك حقا؟ وهل يعرف هذا الشاهد المسكين أصلا ما هي الحقيقة؟ وهي مسألة قد دوخت الفلاسفة منذ أيام الإغريق وحتى يومنا هذا؟ وإذا كان يعرف بعض الحقيقة أو أحد جوانبها فهل يعرف كل الحقيقة؟ ولنفرض جدلا إنه يعرف كل الحقيقة فهل يقال كل ما يعرف؟ من يستطيع أن يضمن عدم تسلل أشياء بقصد أو عن غير قصد غير الحقيقة إلى الحقيقة نفسها؟ لا يمكن لوم هذا الشاهد المسكين إذا لم يستطع الإخلاص لقسمه بل يجب توجيه اللوم كل اللوم إلى ذلك القاضي الأرعن الذي طلب من هذا الشاهد أن يقوم بهذه المهمة المستحيلة. لو دققنا النظر قليلا لوجدنا القاضي والشاهد غارقين في الورطة نفسها. لا أظن أن القاضي أفضل حالا في معرفة الحقيقة أو في قولها.
أنا لا أدعي معرفة الحقيقة فكم بالأحرى كلها. ولا استطيع قول كل ما أظنه أنه حقيقة وإلا وجدت نفسي في غياهب سجون الدولة الديمقراطية الوحيدة في المنطقة. وأعترف مسبقا أنه من الممكن جدا أن يكون في كلامي أيضا أشياء غير الحقيقة. لن أكون أفضل من سقراط الذي قضى حياته باحثا عن الحقيقة وقبل أن يجدها وجد أمامه كأس السم. ولن أكون أفضل من أفلاطون الذي تابع البحث عن الحقيقة بعد موت معلمة وفي النهاية قال لنا أنه وجدها ولكن ليس في عالمنا هذا بل في عالم المثل الذي لا يدري أحد أين يوجد. ولن أكون أفضل من الفيلسوف ديكارت الذي شك في جميع الحقائق وحاول أن يصل إلى الحقيقة، بأل التعريف، عن طريق العقل الذي لم يسعفه كثيرا حسب رأيي، ولا ابن سينا الذي قال: "إن الحقيقة هي موافقة ما في الأعيان لما في الأذهان" فرأى العجب، ولا فريدريك نيتشه الذي ضرب بعرض الحائط جميع القيم والحقائق.
ولكن، دعونا نعترف أنه وراء نسبية الحقيقة وتعدد أوجهها والمرونة الشديدة في تعريفها، لها علاقة خاصة بما هو حق، لها علاقة متينة بالصدق، لها علاقة بالواقع وربما كانت شكل من أشكال هذا الواقع، فهي قيمة أخلاقية أولا وقبل كل شيء. لنكتف بهذا القدر من الحس العام في معرفة الحقيقة.
هذه المقدمة كانت ضرورية بالنسبة لي لكي أفهم وأستوعب ما قالته الصحفية الأمريكية في البيت الأبيض هيلن توماس وما قاله رئيس السلطة الفلسطينية محمود عباس أمام ممثلي اللوبي الصهيوني في واشنطن في الفترة نفسها. مع التركيز على المفارقة الصارخة بين كون الأولى صحفية عملت أكثر من 40 سنة في البيت الأبيض غطت أخبار ما لا يقل عن 10 رؤساء والثاني هو رئيس سلطة تدعي الوطنية ورئيس منظمة تدعي التحرير.
ما قالته هيلين توماس بسيط جدا يعرفه القاصي والداني وبفضل بساطته الشديدة يحتوي على نسبة عالية من الحقيقة. قالت عن الفلسطينيين أنهم شعب محتل وهذه بلادهم وعلى الصهاينة أن يخرجوا منها ويعودوا إلى بيوتهم في بولندا وألمانيا وأمريكا وكل مكان آخر. إنها لم تقل كلمة واحدة جديدة. وفي الوقت نفسه لم تقل كل الحقيقة. قالت جزءا بسيطا من الحقيقة فقط، وماذا تستطيع بعض الثواني من لقطة فيديو أن تقول أصلا؟ ولكن هذا الجزء البسيط جدا كان كافيا لأن يقيم الدنيا ولا يقعدها. وأن يذل سيدة في التسعين من عمرها ويعيدها إلى بيتها مكسورة الخاطر لا تشفع لها سنوات خدمتها التي يعترف بها الجميع.
الحقيقة تبقى هي الحقيقة: يحق للجميع العودة إلى بيوتهم. يحق للاجئين الفلسطينيين العودة إلى بيوتهم التي شردوا منها كما يحق للغزاة المحتلين العودة إلى بيوتهم التي أتوا منها. عندما ذكرت هيلين توماس بولندا وألمانيا لم تكن تقصد العودة إلى معسكرات الإبادة النازية كما لمحت وسائل الإعلام الصهيونية والمتواطئة معها وتجاهلت بخبث "أمريكا وكل مكان آخر"، بل قصدت العودة إلى البيوت الحقيقية التي جاءت هذه المعسكرات لسلبها. يهود ألمانيا هم أولا وقبل كل شيء ألمان، وهم ألمان أكثر من هتلر نفسه وباقي النازيين. ولهم الحق في العيش في بيوتهم. ومن يقول غير ذلك فهو عنصري. ولو فتحت ألمانيا أبوابها الآن لعاد إليها العديد من اليهود الذين يعتبرون ألمانيا بيتهم. عدد كبير منهم عاد بالفعل. فلسطين المحتلة هي بلاد الفلسطينيين وليست بلاد يهود أوروبا وأمريكا وغيرها من الدول. زعيم حزب العمال الهولندي، يوب كوهن اليهودي والذي قد يصبح رئيسا للحكومة هو هولندي وربما أكثر من زعيم اليمين العنصري خيرت فلديرز. وهو يعرف أن هولندا هي بيته وليست فلسطين المحتلة، مع إنه يستطيع حسب قانون العودة الصهيوني أن يحمل حقائبه غدا ويرحل إلى فلسطين المحتلة ويقول: عدت إلى بيتي.
اليهودي المغربي هو مغربي وله الحق لأن يعود إلى بيته في المغرب وكذلك بالنسبة إلى اليهودي اليمني والعراقي والإيراني والسوري. كما يحق لليهودي الفلسطيني أن يعيش في فلسطين تماما كالعربي الفلسطيني. ما قالته هيلين توماس ليس الحقيقة فقط بل هو الأمر الطبيعي العادل. منح الحق لكل إنسان للعودة إلى بيته لا يعني بأي حال من الأحوال الترحيل القسري. فكل إنسان في العالم له الحق الطبيعي في أن يغير بيته. ولكن بشرط: ألا يطرد إنسانا آخرا من بيته ويحل محله.
أما رئيس السلطة الفلسطينية، الذي من المفروض أن يمثل القضية العادلة لشعبه فإنه يقول أمام اللوبي الصهيوني:" لن أنفي أبدا حق الشعب اليهودي على ارض إسرائيل". وسؤالي الذي أوجهه لرئيس السلطة، عباس: هل وجه الدعوة لممثلي اللوبي الصهيوني ال30 الذين قابلهم لكي يعودوا إلى أرض إسرائيل لممارسة حقهم؟ على ضوء هذا التصريح الذي عجز عنه بلفور أتساءل: هل يوجد هناك حق للشعب الفلسطيني على ارض فلسطين؟
أيتها الحقيقة الملعونة كم من الجرائم أقترفت باسمك؟؟؟
No comments:
Post a Comment