وقفة حق من سويتو إلى القدس
علي زبيدات – سخنين
في عام 1985 عندما كان النضال العالمي ضد نظام الابرتهايد على أشده وبعد أن أعلن هذا النظام البائد حالة الطوارئ وصعد من ممارساته القمعية، التقى بعض اللاهوتيين الأفارقة ممن يطلق عليهم اسم: لاهوتيي الحرية، في مدينة سويتو وأصدروا "وثيقة كايروس جنوب إفريقيا" والتي لعبت دورا حاسما في النضال ضد نظام الابرتهايد الذي تكلل بزوال هذا النظام بعد عدة سنوات، في عام 1994 على وجه تحديد.
تقول هذه الوثيقة أن لحظة الحق قد حانت وعلى الجميع أن يحدد ويتخذ موقف، وكان النداء موجها أولا وقبل كل شيء إلى الكنيسة نفسها إذ لا يعقل أن تضع هذه الكنيسة تحت كنفها العنصرين الكولونياليين مع جماهير الشعب المسحوقة والمضطهدة. شنت هذه الوثيقة هجوما عنيفا على لاهوت السلطة الذي يبرر التمييز والقمع من خلال تفسير مشوه لنصوص التوراة والإنجيل لتبرير سياستها العنصرية. وكذلك شنت هجوما قاسيا على لاهوت الكنيسة الرسمية الذي يتماها مع لاهوت السلطة ويتخذ موقفا وسطا وتدعو إلى المصالحة من دون تحقيق العدالة كما تدعو إلى نبذ العنف من جميع الإطراف من غير أن تميز بين عنف السلطة الإجرامي وعنف الجماهير التي تدافع عن نفسها. وأخيرا تدعوا هذه الوثيقة إلى لاهوت نبوئي تحرري يقف بلا تحفظ إلى جانب المظلومين والمعذبين في الأرض كما كان السيد المسيح. وقد دعت هذه الوثيقة العالم وخصوصا الكنائس إلى مقاطعة نظام الابرتهايد والوقوف إلى جانب الشعب الإفريقي في نضاله ضد هذا النظام.
من وحي وثيقة كايروس جنوب إفريقيا انبثقت وثائق كايروس في شتى أنحاء العالم كان آخرها وثيقة كايروس فلسطين التي أصدرتها مجموعة من اللاهوتيين الفلسطينيين في أواخر عام 2009 حيث انتقدت بشدة، على غرار الوثيقة الأصلية إساءة استخدام الكتاب المقدس لأغراض سياسية ولتبرير الاحتلال واعتبرت ذلك جريمة في حق الله والناس. وحملت دولة إسرائيل المسؤولية عن الاحتلال والقتل والتدمير كما وجهت النقد الشديد للإدارة الأمريكية التي تقف إلى جانب النظام الظالم بدون تحفظ. وطالبت هذه الوثيقة بعدم التفريط بالثوابت الوطنية وعلى رأسها حق العودة وتحرير كافة الأسرى. ولكن صرختها الأساسية كانت موجهة إلى الكنائس الأخرى في شتى أنحاء العالم وطالبتها بالوقوف إلى جانب المظلومين قدوة بالسيد المسيح وحثتها إلى مقاطعة النظام الإسرائيلي.
لقد أحدثت كايروس فلسطين ردود فعل ايجابية في عدة دول وخصوصا في جنوب أفريقيا وبعض الدول الإفريقية ولكن تم تجاهلها ووأدها هنا في فلسطين وخصوصا من قبل السلطة الفلسطينية التي أيدتها ظاهريا ولكن أفرغت محتواها التحرري عمليا.
عندما كنت في جنوب إفريقيا دعوت إلى مؤتمر نظمته جامعة كوازولو – ناتال ومركز أوجاما للدراسات اللاهوتية بعنوان: "النضال مستمر: تواصل الأصوات النبوية" وذلك بمناسبة مرور 25 عاما على صدور وثيقة كايروس جنوب إفريقيا. وقد شارك في هذا المؤتمر بالإضافة إلى العديد من اللاهوتيين الأفارقة ومنهم من شارك في صياغة الوثيقة الأصلية، والذين لم تنشر أسماءهم في حينه خوفا من بطش السلطة، ممثلين من 11 دولة يمثلون وثيقة كايروس المحلية في بلدانهم. وكان من المفروض قدوم مجموعة من اللاهوتيين الفلسطينيين لكي يمثلوا كايروس فلسطين ولكن لأسباب متعددة لم يصل احد منهم. ووجدت نفسي، وأنا العلماني البعيد عن اللاهوت، بمثابة ممثل عن وثيقة كايروس فلسطين. في الحقيقة لم يكن ذلك أمرا غريبا أو صعبا. فكما أسلفت، تعد هذه الوثيقة من أهم الوثائق الفلسطينية التي تتمسك بالثوابت الوطنية وهي متقدمة بما لا يقاس على الحلول المطروحة من خلال المفاوضات العبثية التي تتبناها السلطة منذ 20 عاما. بالطبع لم يخل الأمر من بعض التحفظات وهذا شيء طبيعي أيضا. وقد عبرت عن تحفظاتي أمام الجميع. وقد انصب تحفظي الأساسي حول نقطتين: النقطة الأولى تقول أن اللاهوتيين الأحرار يستطيعون الانخراط بالنضال من أجل الحرية ويشاركون في قيادته ولكني لا أظن أن اللاهوت كفكر وممارسة يستطيع قيادة نضال تحرري حتى نهايته وذلك نظرا لمحدوديته متعددة الجوانب. والنقطة الثانية تقول أن الوثيقة مهما بلغت أهميتها تبقى عاجزة عن انجاز المطلوب منها إذا ما بقيت وثيقة ولم تتحول إلى خطة عمل ومرشد للنضال. مصير كل وثيقة أن تجد نفسها ملقاة على الرف يعلوها الغبار أو مطمورة في أحد جوارير أرشيفات السلطة. خصوصا وأن بعض الموقعين على هذه الوثيقة لا تربطهم أية علاقة بالنضال حيث وجدوا أنفسهم مرغمين على توقيعها بسبب الضغط الشعبي أو إنهم ركبوا الموجة لتحقيق بعض المصالح الشخصية، وتبقى علاقتهم العضوية مرتبطة بالسلطة وليس بالجماهير.
قد يظن البعض أن النضال ضد الابرتهايد في جنوب أفريقيا قد انتهى مع زوال النظام السياسي عام 1994. ولكن هذا ابعد ما يكون عن الحقيقة. فالتغيير السياسي لم يرافقه تغير اقتصادي أو اجتماعي. الفجوة بين الأغنياء والفقراء ما زالت شاسعة بل وتزداد اتساعا. الفئات المهمشة تملأ البلاد طولا وعرضا وأوضاعها مزرية من كافة النواحي. وكان انطباعي الذي لا يمحى أن نظام الابرتهايد ما زال قائما وأن النضال ما زال مستمرا حتى تحقيق العدالة على المستوى الشعبي. انه لمن المؤلم والمحزن رؤية الجماهير الإفريقية التي قدمت الضحايا في النضال ضد الكولونيالية العنصرية ما زالت تعاني، هذه المرة من قبل النظام "الوطني" "الديمقراطي".
نعم النضال مستمر، في جنوب أفريقيا كما في فلسطين كما في كل أرجاء العالم. وما أحوجنا إلى أصوات نبوية توصل بيننا.
علي زبيدات – سخنين
في عام 1985 عندما كان النضال العالمي ضد نظام الابرتهايد على أشده وبعد أن أعلن هذا النظام البائد حالة الطوارئ وصعد من ممارساته القمعية، التقى بعض اللاهوتيين الأفارقة ممن يطلق عليهم اسم: لاهوتيي الحرية، في مدينة سويتو وأصدروا "وثيقة كايروس جنوب إفريقيا" والتي لعبت دورا حاسما في النضال ضد نظام الابرتهايد الذي تكلل بزوال هذا النظام بعد عدة سنوات، في عام 1994 على وجه تحديد.
تقول هذه الوثيقة أن لحظة الحق قد حانت وعلى الجميع أن يحدد ويتخذ موقف، وكان النداء موجها أولا وقبل كل شيء إلى الكنيسة نفسها إذ لا يعقل أن تضع هذه الكنيسة تحت كنفها العنصرين الكولونياليين مع جماهير الشعب المسحوقة والمضطهدة. شنت هذه الوثيقة هجوما عنيفا على لاهوت السلطة الذي يبرر التمييز والقمع من خلال تفسير مشوه لنصوص التوراة والإنجيل لتبرير سياستها العنصرية. وكذلك شنت هجوما قاسيا على لاهوت الكنيسة الرسمية الذي يتماها مع لاهوت السلطة ويتخذ موقفا وسطا وتدعو إلى المصالحة من دون تحقيق العدالة كما تدعو إلى نبذ العنف من جميع الإطراف من غير أن تميز بين عنف السلطة الإجرامي وعنف الجماهير التي تدافع عن نفسها. وأخيرا تدعوا هذه الوثيقة إلى لاهوت نبوئي تحرري يقف بلا تحفظ إلى جانب المظلومين والمعذبين في الأرض كما كان السيد المسيح. وقد دعت هذه الوثيقة العالم وخصوصا الكنائس إلى مقاطعة نظام الابرتهايد والوقوف إلى جانب الشعب الإفريقي في نضاله ضد هذا النظام.
من وحي وثيقة كايروس جنوب إفريقيا انبثقت وثائق كايروس في شتى أنحاء العالم كان آخرها وثيقة كايروس فلسطين التي أصدرتها مجموعة من اللاهوتيين الفلسطينيين في أواخر عام 2009 حيث انتقدت بشدة، على غرار الوثيقة الأصلية إساءة استخدام الكتاب المقدس لأغراض سياسية ولتبرير الاحتلال واعتبرت ذلك جريمة في حق الله والناس. وحملت دولة إسرائيل المسؤولية عن الاحتلال والقتل والتدمير كما وجهت النقد الشديد للإدارة الأمريكية التي تقف إلى جانب النظام الظالم بدون تحفظ. وطالبت هذه الوثيقة بعدم التفريط بالثوابت الوطنية وعلى رأسها حق العودة وتحرير كافة الأسرى. ولكن صرختها الأساسية كانت موجهة إلى الكنائس الأخرى في شتى أنحاء العالم وطالبتها بالوقوف إلى جانب المظلومين قدوة بالسيد المسيح وحثتها إلى مقاطعة النظام الإسرائيلي.
لقد أحدثت كايروس فلسطين ردود فعل ايجابية في عدة دول وخصوصا في جنوب أفريقيا وبعض الدول الإفريقية ولكن تم تجاهلها ووأدها هنا في فلسطين وخصوصا من قبل السلطة الفلسطينية التي أيدتها ظاهريا ولكن أفرغت محتواها التحرري عمليا.
عندما كنت في جنوب إفريقيا دعوت إلى مؤتمر نظمته جامعة كوازولو – ناتال ومركز أوجاما للدراسات اللاهوتية بعنوان: "النضال مستمر: تواصل الأصوات النبوية" وذلك بمناسبة مرور 25 عاما على صدور وثيقة كايروس جنوب إفريقيا. وقد شارك في هذا المؤتمر بالإضافة إلى العديد من اللاهوتيين الأفارقة ومنهم من شارك في صياغة الوثيقة الأصلية، والذين لم تنشر أسماءهم في حينه خوفا من بطش السلطة، ممثلين من 11 دولة يمثلون وثيقة كايروس المحلية في بلدانهم. وكان من المفروض قدوم مجموعة من اللاهوتيين الفلسطينيين لكي يمثلوا كايروس فلسطين ولكن لأسباب متعددة لم يصل احد منهم. ووجدت نفسي، وأنا العلماني البعيد عن اللاهوت، بمثابة ممثل عن وثيقة كايروس فلسطين. في الحقيقة لم يكن ذلك أمرا غريبا أو صعبا. فكما أسلفت، تعد هذه الوثيقة من أهم الوثائق الفلسطينية التي تتمسك بالثوابت الوطنية وهي متقدمة بما لا يقاس على الحلول المطروحة من خلال المفاوضات العبثية التي تتبناها السلطة منذ 20 عاما. بالطبع لم يخل الأمر من بعض التحفظات وهذا شيء طبيعي أيضا. وقد عبرت عن تحفظاتي أمام الجميع. وقد انصب تحفظي الأساسي حول نقطتين: النقطة الأولى تقول أن اللاهوتيين الأحرار يستطيعون الانخراط بالنضال من أجل الحرية ويشاركون في قيادته ولكني لا أظن أن اللاهوت كفكر وممارسة يستطيع قيادة نضال تحرري حتى نهايته وذلك نظرا لمحدوديته متعددة الجوانب. والنقطة الثانية تقول أن الوثيقة مهما بلغت أهميتها تبقى عاجزة عن انجاز المطلوب منها إذا ما بقيت وثيقة ولم تتحول إلى خطة عمل ومرشد للنضال. مصير كل وثيقة أن تجد نفسها ملقاة على الرف يعلوها الغبار أو مطمورة في أحد جوارير أرشيفات السلطة. خصوصا وأن بعض الموقعين على هذه الوثيقة لا تربطهم أية علاقة بالنضال حيث وجدوا أنفسهم مرغمين على توقيعها بسبب الضغط الشعبي أو إنهم ركبوا الموجة لتحقيق بعض المصالح الشخصية، وتبقى علاقتهم العضوية مرتبطة بالسلطة وليس بالجماهير.
قد يظن البعض أن النضال ضد الابرتهايد في جنوب أفريقيا قد انتهى مع زوال النظام السياسي عام 1994. ولكن هذا ابعد ما يكون عن الحقيقة. فالتغيير السياسي لم يرافقه تغير اقتصادي أو اجتماعي. الفجوة بين الأغنياء والفقراء ما زالت شاسعة بل وتزداد اتساعا. الفئات المهمشة تملأ البلاد طولا وعرضا وأوضاعها مزرية من كافة النواحي. وكان انطباعي الذي لا يمحى أن نظام الابرتهايد ما زال قائما وأن النضال ما زال مستمرا حتى تحقيق العدالة على المستوى الشعبي. انه لمن المؤلم والمحزن رؤية الجماهير الإفريقية التي قدمت الضحايا في النضال ضد الكولونيالية العنصرية ما زالت تعاني، هذه المرة من قبل النظام "الوطني" "الديمقراطي".
نعم النضال مستمر، في جنوب أفريقيا كما في فلسطين كما في كل أرجاء العالم. وما أحوجنا إلى أصوات نبوية توصل بيننا.
No comments:
Post a Comment