على عكس أولئك الذين يتباكون على غزة ويذرفون عليهاالدموع (ومعظمها دموع تماسيح) بسبب الدمار الشامل الذي تتعرض له والمجازر الرهيبة التي يرتكبها الجلاوزة الاسرائيلين، ارى أن قطاع غزة هو أكثر مكان طبيعي في العالم العربي في هذه الايام. انه المكان الوحيد المضيء بالرغم من انعدام الاضواء في ربوعه. بينما تغط باقي الاماكن التي تنعم بالكهرباء وأضواء النيون في ظلام دامس.
هذا هو الوضع الطبيعي، في مكان محاصر من جميع الجهات، في مكان اصبحت لقمة الخبز فيه مبللة بالدماء وجرعة الدواء مفقودة، في مكان تداس به كرامة الانسان صباح مساء، هذا هو الوضع الطبيعي، المقاومة والتمرد والعنفوان. بينما وضعنا هو غير الطبيعي، حيث نرفل برفاهية قاذروت المجتمع الاستهلاكي وننظر الى الصور الآتية الينا من القطاع وكأننا نشاهد فلما سينمائيا صنع في هوليوود تحت إدارة مخرج صهيوني.
أهل غزة هم وحدهم الاحياء بالرغم من إن الموت يحصدهم رجالا ونساء واطفالا. وهم وحدهم من يستحقون الحياة لذلك يستفزون ملاك الموت. ونحن هم الاموات بالرغم من تشبثنا بقشور الحياة.
ما نحتاج اليه في هذه الايام هو أن نصنع المزيد من قطاعات غزة في كل مكان من العالم العربي، من المحيط الى الخليج. ما أحوجنا لأن نتذكر صرخة الثائر العالمي تشي جيفارا عندما دعى الى تفجير فيتنام ثانية وثالثة ورابعة من أجل الحاق الهزيمة بالامبريالية الامريكية لنيل الحرية والاستقلال.
ما نراه اليوم في غزة هو السلام الذي وعدونا به في مؤتمر انابوليس قبل سنة. هل تذكرون تصريحات بوش واولمرت وعباس التي بشرتنا بحلول السلام حتى نهاية العام؟ نعم هذا هو سلامهم. سلامهم حرب ودمار ومجازر. فليذهبوا الى الجحيم غير مأسوف عليهم هم وسلامهم المزعوم.
كما قال الشيخ حسن نصرالله في خطابه الاخير: هذه الحرب ليست حربا على حماس لكونها تنظيما اسلاميا أو ارهابيا، كما لم تكن الحرب الاخيرة في لينان حربا على حزب الله. ما يهم أمريكا واسرائيل أن تكون خاضعا لهيمنتهما وتقبل ما يمليانه عليك وآمن بما تشاء.
الحرب في غزة اليوم لا تهدف فقط الى تصفية المقاومة بل الى تصفية القضية الفلسطينية تصفية كاملة وفرض الحل الاسرائيلي- الامريكي على الشعب الفلسطيني. المقاومة الفلسطينية ومركزها في غزة هي حجر العثرة الأخير المتبقي أمام فرض مثل هذه التسوية. سقوط غزة يعني إنتهاء الحرب التي تفجرت عام النكبة بإنتصار الصهيونية النهائي.
الحرب على غزة اسقطت آخر قناع عن وجوه كافة الاطراف. أسقطت آخر قناع عن الدولة "الديموقراطية" الوحيدة في المنطقة وبان وجهها الحقيقي بدون رتوش: دولة فاشية بإمتياز. هذه الحرب أسقطت نهائيا صفة "وطنية" عن سلطة اوسلو التي ظهرت بوجهها الخياني البشع بإمتياز هي أيضا حيث تفوقت على سلطة كرزاي والمالكي في افغانستان والعراق وقوات العميل لحد في الجنوب اللبناني قبل تحريره. وسقط القناع الاخيرعن جميع الانظمة العربية فلم يعد هناك أية فوارق بين انظمة جمهورية او ملكية، تقدمية أو رجعية، معسكر اعتدال أو معسكرممانعة. عورات الجميع إنكشفت على حقيقتها لمن يحب أن يشاهد . وسقط القناع عما يسمى بالمجتمع الدولي والشرعية الدولية. هذا المجتمع الذي يراوح بين الصمت والتواطؤ والمشاركة بالجريمة. الفوارق شكلية لا جوهرية. الاتحاد الاوروبي يلعب لعبة قذرة ما زالت وصمة عار ورثها من ماضية الاستعماري. روسيا والصين وباقي الدول العظمى هي عظمى بالحجم ولكنها وضيعة فيما عدا ذلك. الامم المتحدة ومجلس الامن اصبحا مرتعا لللصوص وقطاع الطرق.
العالم بأسره يعرف بالضبط ماذا يحدث في غزة من جرائم. الصور لا تكذب ابدا. أكاذيب اسرائيل بحاجة الى صنف آخر من البشر لكي يصدقها. هل يوجدعاقل واحد يملك ذرة من الضمير الحي يصدق أن طائرات ال أف 16 والاباتشي والقنابل الذكية والصواريخ المتطورة هي دفاع عن النفس بينما صواريخ القسام البدائية هي رمز العدوان؟ هل يحق للفلسطينيين المحاصرين برا وبحرا وجوا الدفاع عن أنفسهم؟ أم أن هذا الحق حصرا على الاسرائيليين المغتصبين؟ ما هي القوانين وما هي الشرائع التي تحدد وتعرف الدفاع عن النفس؟
وأخيرا أوجه كلامي للجماهير الفلسطينية في الداخل وللاحزاب السياسية والحركات الفاعلة على الساحة. إن رد فعلنا على جرائم غزة مكلل بالخزي وبالعار وإن دل على شيء فإنه يدل على عقمنا وعجزنا. هل هذه المظاهرات الهزيلة ترتقي الى مستوى الاحداث؟ اليست من باب رفع العتب ؟ وتصريحات المسؤولين في الشجب والادانة اليست دفع ضريبة كلامية لا أكثر ولا أقل؟ اليس من المخجل الدعوة الى مظاهرة قطرية يأتي بعد اسبوع على بداية الجرائم؟ ولو لم تكن الانتخابات للكنيست الصهيوني على الابواب لما تحرك أحد؟.
إذا ارادت الاحزاب السياسية العربية المتكالبة على الانتخابات أن تنقذ ما تبقى من ماء وجهها ( ولا أقول من دماء) أن تعلن عن انسحابها الجماعي من هذه اللعبة وتنزع الشرعية عن الكنيست التي منحت ثقتها ودعمها لهذه الحكومة المتعطشة للدماء.
على الجمعيات المدنية واللجان الشعبية وأخص بالذكر لجنة اهالي شهداء الاقصى أن تكف منذ اليوم اتهام ايهود براك بالمسؤولية عن قتل 13 شهيدا، فهو المسؤول عن قتل 400 شهيد وهذا ليس العدد النهائي. على هذه الجمعيات واللجان أن تذكر 27 كانون الاول - ديسمبر كما تذكر الاول من تشرين الاول – أكتوبر وتجعل منهما مناسبة واحدة.