نشر السكرتير العام للجبهة الديموقراطية للسلام والمساواة، المحامي أيمن عودة، مقالة مطولة في موقع الجبهة تحت عنوان:"الجبهة في الانتخابات للسلطات المحلية" مدافعا عن سياسة الجبهة ومرشحيها وتحالفاتها وفي الوقت نفسه مهاجما الاحزاب الاخرى التي توجه أصابع النقد والاتهام للجبهة وخصوصا التجمع الوطني الديموقراطي والحركة الاسلامية.
في الحقيقة، مقدمة المقال أعجبتني. لا أدري اذا كان أيمن عودة قد قرأ المقالات التي كتبتها بهذا الصدد أو انه مجرد توارد أفكار. فقد تكلم ايمن ضد العائلية المستشرية في وسطنا وضد المصالح الشخصية والفساد وتراجع دور الاحزاب السياسية ودور السلطة في شرذمة المجتمع العربي وتحريضنا ضد بعضنا البعض عائليا وطائفيا وزجنا في نزاعات جانبية لكي نلتهي في امور هامشية ونبتعد عن الامور المركزية ذات الاهمية الوطنية. إلا أن أيمن عودة لم يتطرق الى دور الانتخابات المحلية (والنيابية) في تشويه الهوية الوطنية للفلسطينيين في الداخل والتي اعتبرها نقطة مفصلية، وذلك لأن أيمن ينتمي الى حزب ساهم أكثر من غيره في تشويه وتهجين هذه الهوية من خلال مزج الهوية الفلسطينية بالهوية الاسرائيلية حتى أصبحنا مثل ذلك الغراب الذي حاول تقليد مشية الحجل وفشل، وعندما حاول العودة الى مشيته الطبيعية فشل أيضا.
على كل حال، هذا التاقطع في بعض الآراء ينتهي بالمقدمة، ونفترق تماما بالدلائل والاستنتاجات. موقفي كان وما زال انه في ظل الظروف الراهنة فأن مقاطعة الانتخابات هو الموقف الوطني السليم، بينما يصر ايمن عودة على انه لا بديل عن الجبهة وعن طريقها.
طبعا أنا لا انتمي لحزب سياسي ولا اشكل خطرا انتخابيا على الجبهة او غيرها من الاحزاب. وهذا ما يوفر علي التعرض للهجوم المضاد، لذلك يوجه ايمن عودة سهام نقده بالاساس الى الحركة الاسلامية والتجمع الوطني الديموقراطي. وهما بالمناسبة لا يشكلان خطرا انتخابيا على الجبهة فحسب، بل ايضا تشنان الهجوم عليها على كافة الاصعدة. والحكاية معروفة.
في هذه الاثناء بالذات وفي هذا السياق نفسه، نشر الصحفي عبد الحكيم مفيد من الحركة الاسلامية مقالا بعنوان:"حزب عائلة" وقبلها نشر عوض عبد الفتاح السكرتير العام لحزب التجمع عدة مقالات عن تصور حزبه للإنتخابات المحلية.
من يريد أن يرى مأساة (وربما مهزلة) الاحزاب العربية ليس بحاجة لأن يذهب أبعد مما كتبه هؤلاء الثلاثة عن الانتخابات وما كتبوه عن بعضهم البعض.
لقد اصبح من المتعارف عليه تقسيم الاحزاب الفاعلة على الساحة السياسية الى ثلاثة تيارات، بالرغم من أن هذا التقسيم إعتباطي ومبسط الى درجة خطيرة، حتى يكون في بعض الاحيان الاسم نقيض المسمى:
التيار الاول هو التيار الشيوعي، وبمركزه الحزب الشيوعي الاسرائيلي والجبهة الديموقراطية للسلام والمساواة، وهذا الحزب، في اعتقادي، لا علاقة له بالشيوعية سوى الاسم.
التيار الاسلامي ممثلا بالحركتين الاسلاميتيين اللتين إحتكرتا الاسلام وجيرتاه لمصالحهما الحزبية. والتيار القومي ممثلا بالتجمع الوطني الديموقراطي وابناء البلد. وهكذا فإن الكتاب المذكورين أعلاه في أعين الكثيرين لا يمثلون أحزابهم الخاصة الضيقة فحسب بل يمثلون هذه التيارات التي تغطي سماءنا وارضنا ولا تترك للمواطن العادي مجالا للتنفس ايضا.
عندما قرأت مقال ايمن عودة كاملا، تذكرت نكتة قديمة من المفيد أن اذكرها هنا بإحتصار:
في سنوات السبعين وفي اوج الحرب الباردة التقى شخص روسي (سوفياتي في ذلك الوقت) بآخر أمريكي. فقال الامريكي: " عندنا يوجد أكثر نظام ديموقراطي في العالم، إذ استطيع أن اشتم الرئيس نيكسون بدون أن يتعرض لي أحد" فأجابه الروسي:" أنا أيضا استطيع أن اشتم الرئيس نيكسون بدون أن يتعرض لي أحد، فالنظام عنا لا يقل ديموقراطية عن نظامكم".
ما تضمنه مقال ايمن عودة عن المواقف الانتهازية للحركة الاسلامية وللتجمع فيه الكثير من الصحة. بالمقابل ما تضمنه مقال عبد الحكيم مفيد ومقالات عوض الفتاح هي ايضا بها الكثير من الصحة. كل ما هنالك انه يجب جمع الاطراف وأن يقال لهم بصوت جريء:" كلكم على حق. كلكم في الهوى سوى". عندما تتنازع عصابة على غنيمة تكون النتيجة إفتضاح الجريمة
جميع الاحزاب الفاعلة متورطة في تشويه الهوية الوطنية للجماهير الفلسطينية من خلال تقبلها للدولة العنصرية واخضاع هذه الجماهير لرؤيتها هذه من خلال التصور المستقبلي، والوحدة مع القوى" الديموقراطية" اليهودية، والتعايش السلمي والمطالبة بدولة لجميع مواطنيها او دولة ثنائية القومية، والعشرات من التنظيرات الاخرى التي تساهم في خلق هذا التشويه.
جميع الاحزاب الفاعلة متورطة في تأجيج النزاعات العائلية والطائفية. وايمن عودة قد خطى خطوة أخرى في هذا الاتجاه عندما قسم المجتمع العربي الى"عائلات وطنية" وأخرى "عائلات سلطوية".العائلات المتحالفة مع الجبهة هي بطبيعة الحال عائلات وطنية، بينما العائلات المنافسة هي عائلات سلطوية.
جميع الاحزاب متورطة في اللهث وراء السلطة الزائفة والمصالح الضيقة والفساد والضرب بعرض الحائط بالمصالح المركزية لجماهيرنا والإلتهاء بالقشور التي تغمرنا بها السلطة.
النقد امر ضروري ومطلوب، ولكن أيمن عودة بصفته كادر واع عليه أن يدرك أن النقد مهما كان بناء ومهما كان لاذعا وجريئا يفقد مصداقيته إذا لم يشمل ايضا نقدا ذاتيا. هذا من ألف باء النظرية الشيوعية اليس كذلك؟. فهل من المصداقية أن يكون مقاله المذكور قصيدة مديح طويلة للحزب والجبهة ومعلقة هجاء لكل من خالفها؟
الامر نفسه ينطبق على مقال عبدالحكيم مفيد وهو يعرف تمام المعرفة الاية التي تقول:" ان الله لا يغير ما بقوم حتى يغيروا ما بأنفسهم..." فكان الاحرى به قبل أن يتهم الجبهة بتأجيج النزاعات العائلية من خلال تحالفاتها أن يشير الى تحالفات الحركة الاسلامية. بالرغم من أن الحركة الاسلامية التي ينتمي اليها عبدالحكيم مفيد لا تخوض الانتخابات الا في أم الفحم وذلك كما يبدوخوفا من الفشل وليس لموقف مبدئي، ألا ان ابناء الحركة كأفراد منخرطين حتى النخاع في الصراعات المحلية
أما مقالات عوض عبد الفتاح فهي مصيبة حيث يعتبر العائلية ظاهرة مشروعة وعلى الحزب السياسي أن يستغلها وأن أحد إنجازات التجمع هو جر القوائم العائلية لأقامة تحالفات سياسية أو إجتماعية. مع انه في الواقع هو جر الحزب الى تحالفات عائلية على غرار ما تفعله الجبهة تماما.
لضيق المجال لا أستطيع أن أتناول بالتفاصيل كل ما تضمنته المقالات الثلاثة المذكورة، وأنصح كل من يهتم بموضوع الانتخابات أن يراجعها. وسأكتفي بالتعليق على دفاع أيمن عودة المستميت عن الجبهة وتبرئتها من العائلية والمصالح الشخصية. فهو يدعي ان اتهام الجبهة بالتحالف مع العائلات الكبيرة للفوز برئاسة السلطة اتهام عار عن الصحة، ويذكر عدة أمثلة ينتمي بها مرشحو الجبهة الى عائلات صغيرة. ومن بين هذه الامثلة يذكر مدينة سخنين. حيث أن محمد بشير، رئيس البلدية الحالي والمرشح للإنتخابات القادمة ينتمي الى عائلة صغيرة نسبيا.
كما نعرف العائلية ليست حكرا على العائلات الكبيرة. أنها طريقة تفكير مشتركة لكافة العائلات، وفي كثير من الاحيان تتفاقم عند العائلات الصغيرة. في هذه الحالة تكتفي بخوض الانتخابات المحلية للعضوية وتتحالف مع عائلات أكبر حول مرشح الرئاسة. وفي حالات أخرى تتحالف عائلات صغيرة وترشح من بينها مرشحا لمنافسة مرشح العائلة الكبيرة. فالتحالفات العائلية تتخذ اشكالا عديدة، وفي بعض الاحيان لا تخلو من "إبداع".
في سخنين مثلا (وهذا المثل ينطبق على قرى ومدن أخرى عديدة مع بعض التغيرات في التفاصيل) نما تاريخيا قطبان يتنافسان في كل انتخابات على رئاسة البلدية: الجبهة الديموقراطية من جهة وعائلة غنايم من جهة. ومن يظن أن المنافسة هي بين حزب سياسي وعائلة فهو مخطئ تماما. فالجبهة لها عائلاتها كما أن العائلة لها أحزابها. المرشح الثاني في قائمة الجبهة هو مرشح عائلي كان لسنوات طويلة على رأس قائمة عائلية تخوض الانتخابات ضد الجبهة بالذات. في هذه الانتخابات غير ولاءه لإعتبارات خاصة فإحتضنته الجبهة بأذرع مفتوحة بعد أن شطبت مواقفها السابقة ضده وأصبح يشار اليه بالمرشح الفلاح. وتوزعت الاماكن الاخرى على مرشحين ينتمون الى عائلات صغيرة ومتوسطة لكي يشكلوا في نهاية المطاف ندا للعائلة الكبيرة. فالعائلية لا تتحكم بتركيبة قائمة الجبهة الخاصة للعضوية فحسب، بل تتعداها الى القوائم المتحالفة معها ايضا. احدى هذه القوائم الحليفة ليست عائلية فحسب، بل تربطها علاقة حميمة مع حزب العمل ووعدت مرشحها في حالة الفوز بالنيابة. وهذا ليس التحالف الاول من هذا القبيل، فقد تحالفت الجبهة قبل دورتين مع مرشح آخر معروف ينتمي الى حزب العمل ومنحته منصب نائب رئيس لمدة خمس سنوات. ولكنهما إختلفا في الدورة السابقة وفقد" المسكين" صفته الوطنية التي اكتسبها اثناء تحالفه مع الجبهة. أما الحليف الرئيسي للجبهة في السنوات العشر الاخيرة فهي قائمة عائلية اخرى مقربة من حزب شاس الصهيوني المتطرف. والجبهة مستعدة أن تدعم كل قائمة عائلية وتمنحها أصواتا للعضوية اذا ما أعلنت هذه القائمة بدعم مرشح الجبهة للرئاسة. في مثل هذه الظروف يأتينا أيمن عودة بالفرية التي تقول: " هناك عائلات وطنية وأخرى سلطوية". أما عن الاساليب الاخرى التي تتبعها الجبهة من أجل الحصول على بعض الاصوات، والتي لا تخجل أية قائمة عائلية، فحدث ولا حرج. ولا مجال للخوض بها هنا فكل من له عينان يراها ومن له أذنان يسمعها. بالطبع يجب الا يفهم كلامي هذا وكأنه دفاع عن الطرف الآخر. فهو عائلي تماما كالطرف الاول وهو في الوقت نفسه حزبي بنفس الصورة.
في هذه الانتخابات تتجسد المكيافلية بأقذر وابشع صورها: الغاية تبرر الوسيلة. كل الوسائل مشروعة من أجل الحصول على حفنة من الاصوات.
في هذه الاجواء ما احوجنا الى حركة المعتزلة التاريخية من جديد لوضع الامور في نصابها.
No comments:
Post a Comment