قلت في مقال سابق أن الانتخابات (كل انتخابات) في ظل الاحتلال هي بالضرورة مشبوهة وهي تأتي عادة لخدمة مصالح المحتلين وليس لخدمة المواطنين الذين يعانون من نير الاحتلال. وقلت أيضا أن فلسطين كلها محتل من قبل كيان كولونيالي يسمى دولة اسرائيل. الجزء الاكبر منها احتل عام 1948 والجزء الآخر أحتل عام 1967. قد تختلف بعض مظاهر الاحتلال وأشكاله من مكان لآخر ولكن جوهره يبقى ثابت لا يتغير، فالإحتلال هو الاحتلال. وأضفت أيضا انه لا فرق من حيث الجوهر بين الناصرة وأم الفحم وسخنين وبين جنين ونابلس ورام الله والقدس. وتوصلت الى استنتاج مفاده أن كل قائمة تخوض الانتخابات المحلية الوشيكة وكل مرشح لرئاسة بلدية أو سلطة محلية لا يأخذ هذه البديهية بعين الاعتبار فهو بالضرورة يخدم أجندة الاحتلال من حيث يدري أو لا يدري. وبالتالي يجب مقاطعة الانتخابات المحلية اسوة بالانتخابات البرلمانية.
على ضوء حمى الانتخابات التي تجتاح وسطنا العربي هذه الايام من الواضح أن كلامي هذا لا يلقى تجاوبا حتى من قبل المقتنعين به نظريا ويبقى مجرد كلمات تتلاشى في العراء. والتبريرات عديدة، ومن يريد أن يبحث عن تبريرات فأنه سيجدها بغزارة وبعضها يلاقي آذان صاغية. وانا هنا لست بصدد الخوض في هذه التبريرات ولا أفكر في دحضها أو حتى في نقدها. وفي الوقت نفسه انا لا اوزع شهادات بالوطنية على أحد ولا أنزعها عن أحد. كل ما في الامر أن لدي وجهة نظر وارى من حقي بل من واجبي أن أعرضها على الملأ وأدافع عنها. وأرجو من المرشحين على اختلاف مشاربهم أن يوفروا جهودهم وأن لا يأتوا لإقناعي بالتصويت فأنا اقولها بصراحة لكل من يريد أن يسمع: أنا مع المقاطعة.
تقول الدعاية التي يحشون بها رؤوس طلابنا من المدارس الابتدائية مرورا بالثانوية وحتى الجامعات: أن الانتخابات هي من صميم النظام الديموقراطي، وهي حق وواجب ومسؤولية وعلى كل مواطن صالح أن يمارس حقه ويدلو بصوته. كلام جميل. ولكن يبدو أنني لست مواطنا صالحا.
ماذا يقول الواقع؟
قبل أن اتناول الاسباب التي دعتني الى تبني موقف المقاطعة والدعوة اليه والتي لم أذكرها في المقال السابق أود أن أنوه بظاهرة حيرتني: ما هو سر بلوغ نسبة المصوتين العرب في الانتخابات المحلية الى 90 و 95% وفي بعض الاماكن الى 100% وأكثر (إذ يقوم بعض الاموات من قبورهم للتصويت) بينما عند اليهود بالكاد تصل هذه النسبة الى 50%. هل هذا يعني اننا أكثر وعيا وأحرص على خدمة قرانا ومدننا؟ أم لأننا نساق كالقطيع الى صناديق الانتخابات من قبل المتنفذين في عائلاتنا وأحزابنا ومقاولي الاصوات المأجورين؟ أترك الاجابة على هذا السؤال، او الاصح على هذا التساؤول الى كل واحد فيكم.
أذكر بإيجاز الاسباب التي تجعل من مقاطعة الانتخابات المحلية في هذه الظروف الموقف السليم. بعضها ذكر بشكل أو بآخر في مقالات سابقة وبعضها لم يذكر.
1) تشويه الهوية الوطنية الفلسطينية للجماهير العربية: هذه الانتخابات تطمس التناقض التناحري بين كوننا شعب شرد من دياره وأغتصبت أرضه وبين الكيان المسؤول عن هذه الجريمة. هذه الانتخابات ليست أكثر من فتات تقدمها موائد السلطة لكي نرضى بواقع النكبة وتخليد واقع التمزق والشرذمة التي نعاني منه كشعب أصلي على هذه الارض. قانون الانتخابات جاء ليقول لنا: انتم إسرائيليون مرة كل اربع أو خمس سنوات داخل غرف الانتخابات ولكنكم مواطنون مهمشون من الدرجة الثانية او الثالثة فيما تبقى من حياتكم. عملية الانتخابات المحلية هي ليست تحدي لواقع الاحتلال والعنصرية والتمييز بل هي رضوخ له.
2) للإنتخابات المحلية يوجد غايات عملية وملموسة أكثر، منها إلهائنا بالقشور والامور التافهة وإدخالنا في معارك جانبية من أجل الحصول على سلطة وهمية. المهم أن ننسى معاركنا الحقيقية، مثل الحفاظ على الارض والدفاع عنها والعمل على إزالة آثار النكبة. لو قامت زعاماتنا الحزبية والحمائيلية بواحد بالمائة من المجهود الذي تقوم به في هذه المعركة الوهمية لرفع الحصار الاجرامي الذي فرضته نفس السلطات التي منحتهم حق التصويت على قطاع غزة ولأصبح جدار الفصل العنصري هباء منثورا.
3) هذه الانتخابات تعمق الطائفية والعائلية البغيضة والنزاعات في مجتمعنا. وهذا بالضبط ما تريده السلطات وفقا لسياسة: فرق تسد. إننا أجبن من أن نعترف بأن الانتخابات في الناصرة وشفاعمرو والرامة وكفر ياسيف وغيرها من القرى والمدن العربية التي تقطنها أكثر من طائفة، تأخذ منحى طائفي خطير. بينما تسود القرى الاخرى الحمائلية والعائلية التي تفتت حتى العائلات نفسها.
4) الانتخابات المحلية هي دفيئة للفساد والرشوات والمصالح الشخصية وهي مقبرة لكل القيم الانسانية السامية التي من المفروض أن نرفعها عاليا ونربي أبناءنا عليها. فلم يعد هناك مكان للنخوة والشهامة والتكافل الاجتماعي ولسان حالنا يقول: "الشاطر اللي بدبر حاله".
الانتخابات في ظل نظام عنصري وظالم بشكل وحشي، كالنظام الرابض على كواهلنا، لا يمكن أبدا أن تكون نزيهة. فقط عندما تكون هناك قائمة أمينة ومرشح أمين تتحدى الواقع وتحافظ على الثوابت الوطنية وعلى رأسها التمسك بالهوية الوطنية الفلسطينية يمكن أن تستغل مثل هذه الانتخابات لتربية الجماهير وتعبئتها من أجل إنتزاع حقوقها.
No comments:
Post a Comment