ما يجري في قطاع غزة وفي الضفة الغربية تجاوز منذ زمن حدود المأساة وأصبح فضيحة، بل وصمة عار على جبين تاريخ النضال الفلسطيني الأغر. لن نحلم حتى في أسوأ كوابيسنا أن تصل الامور الى ما وصلت اليه في الاسبوع الاخير. التفجير على شاطئ غزة الذي طال عشرات الابرياء هو خط أحمر. لم يعد ذلك صراعا بين فريقين متكالبين على سلطة زائفة نتنة. بل أصبح جريمة ينبغي إجتثاثها من جذورها. لا أدري مدى صحة تورط تنظيم فتح في هذه التفجيرات، وأظن أن كل تعميم خاطئ، ولكن، بغض النظر عن الإنتماءات التنظيمية للايدي المجرمة التي اقترفتها، فهم لا يعدو كونهم سوى عملاء مباشرين للإحتلال. ويجب التعامل معهم من هذا المنطلق.
الاعتقالات العشوائية الانتقامية التي مارستها قوات أمن السلطة بتنسيق كامل مع قوات الاحتلال والتي طالت العديد من المناضلين الشرفاء ومن المواطنين المسالمين الآمنين وعلى رأسهم الزميل المناضل الوطني الذي يحظى بمكانة عالمية، البروفيسور عبدالستار قاسم، هي الاخرى خط أحمر لا يمكن الصمت عنها وتجاوزها.
يقول المثل المستخلص من تجارب الشعوب التي خاضت نضالا طويلا ومريرا من أجل حريتها واستقلالها: أينما يوجد إحتلال وإضطهاد توجد هناك مقاومة. هذه البديهية صحيحة في حالتنا الفلسطينية كذلك. ولكن يبدو انه لكي تكتمل الصورة ويصبح هذا المثل عاما وشاملا، علينا أن نعترف ايضا انه اينما توجد مقاومة توجد هناك عمالة وخيانة. واقعنا الفلسطيني يثبت أن قضيتنا ليست إستثناء. الى جانب المقاومين الذين ضحوا بالغالي والنفيس من أجل الدفاع عن الوطن وعن كرامة الانسان نمت وترعرعت شريحة لا يستهان بها من عملاء الاحتلال. المصيبة أن هذه الشريحة تتبوأ اليوم مراكز قيادية بإستطاعتها أن تفرغ القضية الفلسطينية من مضمونها التحرري ومن عدالة مطالبها. علينا الا نستخف في هذه الظاهرة الخطيرة.
تجارب الشعوب تشير الا أن الثورات التحررية قد أجهضت بالاساس بواسطة الاعداء الداخليين الذين ترعرعوا في صفوف الثورة ولكنهم انتهوا في أحضان المستعمرين. في فيتنام مثلا، نصف الشعب الفيتنامي حارب ضد الهيمنة الامبريالية الامريكية بينما النصف الآخر حارب الى جانبها. وكذلك الامر في كوريا، افغانستان، العراق، لبنان وأماكن عديدة على وجهة كرتنا الارضية. وكما قلنا سابقا، فلسطين ليست إستثناء.
بحجة مفاوضات السلام، والوصول الى اتفاقية سلام وانهاء الصراع وإجراء المصالحة التاريخية بين "الشعبين" أصبح واضحا انه يوجد هناك تقسيم خطير للأدوار بين دولة الاحتلال والسلطة الفلسطينية. بينما يواصل الاحتلال بحماس جنوني مخططات تهويد القدس وبناء الجدار العازل وبناء المستوطنات من جهة، ويواصل الاغتيالات وهدم البيوت والحصار التجويعي والمداهمات والاعتقالات من جهة اخرى، تقوم السلطة الفلسطينية بالتنسيق الامني الكامل معه، تلاحق المقاومين وتعتقلهم وتغلق المؤسسات المدنية التي تحاول التخفيف من معاناة الجماهير.
هذا التنسيق مستمر بالرغم من إنفضاخ ما يسمى بالمسيرة السلمية وإفلاس مساعي التوصل الى اتفاقية سلام.
ما زلنا نذكر موجات عملاء الاحتلال التي إجتاحت قرانا ومدننا العربية أثناء وفي أعقاب الانتفاضة الفلسطينية الاولى، ومقاومة جماهيرينا توطين هذه الحثالات بين ظهرانينا. يبدو انه اليوم لم يعد هناك حاجة لكي يغادر هؤلاء اماكن سكناهم بعد أن اصبحوا يتمتعون بحماية الدولة والسلطة الفلسطينية. من سخرية الاقدار أن يصبح الواقع معكوسا: خيث أصبح المقاوم منبوذا ومطاردا بينما يتبختر العميل علنا في الاماكن العامة.
بعد موجة الاعتقالات الانتقامية التي نفذتها السلطة في الضفة الغربية وخصوصا في نابلس، وزجهم في سجن نابلس الذي كانت تستعمله دولة الاحتلال لسجن المناضلين الفلسطينيين، تطالعنا بعض الصحف الاسرائيلية المطلعة، ذات المصادر الموثوقة (هآرتس 30/8) أن رئيس السلطة الفلسطينية بعث بمذكرة إحتجاجية شديدة اللهجة تحذر اسرائيل من إطلاق سراح شخصيات قيادية في صفقة لتبادل الاسرى مع الجندي الاسرائيلي المأسور جلعاد شاليط. لأن من شأن ذلك أن يضعف السلطة الضعيفة أصلا ويقوي أعدائها. من بين هؤلاء الاسرى 40 نائبا في المجلس التشريعي الذي يستمد رئيس السلطة بعض شرعيته منه. وبعض هذه القيادات (احمد سعادات، امين عام الجبهة الشعبية لتحرير فلسطين، مثلا) تم تسليمهم بتواطؤ مباشر من اجهزة السلطة الامنية.
لقد أصبح واضحا أن هذه السلطة التي جلبتها إتفاقيات أوسلو المشؤومة لا تختلف من حيث الجوهر عن سلطة كرزاي في افغانستان او سلطة المالكي في العراق وأن المقاومة الحقيقية سوف تكنسها مع الاحتلال الى مزبلة التاريخ.
No comments:
Post a Comment