في هذا الليل العربي الطويل حالك السواد، في هذا الزمن البائس حيث تعيش غزة في ظل ابشع حصار ظلما وظلاما، ولا اقول بعد الآن تحت عيون وأنوف العرب، بل بمشاركتهم الفعالة في هذا الحصار، في هذا الزمن حيث يعيش الشعب الفلسطيني حالة من التشرذم والتمزق تفوق ما تعرض له عام النكبة 1948، ظهر هناك في نهاية النفق المدلهم بصيص من النور ومن الامل اضاءته سيدة فاضلة تدعى الحاجة فوزية، ام كامل الكرد.
قبل حوالي شهر قامت قوات إسرائلية ليست مدججة بالسلاح فحسب، بل تلوح في يدها بقرار صادر عن أعلى مؤسسة قضائية في هذه الدولة "الديموقراطية" بطرد عائلة الكرد من بيتها في حي الشيخ جراح والإلقاء بها في العراء وهي تدوس ابسط الحقوق الانسانية: حق كل شخص أن يعيش في بيته بأمن وسلام. وفي الوقت نفسه سمحت لمجموعة من قطعان الفاشية المستوطنين بالسيطرة على البيت وتقوم بحمايتهم.
لم تستسلم أم كامل لهذا الاعتداء الغاشم ولم تنحني أمام هذه الجريمة النكراء. فقد واصلت صمودها الذي بدأته في رفض كافة التهديدات والعروض المغرية لإجبارها على ترك بيتها بمحض ارادتها بكل شموخ وكبرياء. وانتقلت من البيت الى خيمة الاعتصام وصرحت لكل من يريد أن يسمع انها لن تغادر الخيمة الا بالعودة الى بيتها المغتصب. وقد دفعت أم كامل ثمنا باهضا مقابل صمودها الاسطوري هذا وكان آخرها أستشهاد زوجها الذي كان يعاني من مرض مزمن والذي لم يستطع جسمه العليل تحمل جريمة الطرد.
لقد قامت قوات الاحتلال الاسرائيلية منذ اليوم الاول لإحتلال القدس وعلى مدار 41 سنة، هي عمر الاحتلال، بتنفيذ سياسة رهيبة معدة مسبقا لتهويد القدس. بدأت بطرد المواطنين العرب من أحد أحياء القدس القديمة وإقامة ما يسمى بالحي اليهودي ومن ثم السيطرة على حائط البراق والاماكن المحيطة به والسيطرة على عشرات المنازل في شتى ارجاء القدس العتيقة عن طريق القوة والخداع والابتزاز وفي الوقت نفسه فرضت حصارا شاملا على المسجد الاقصى ولم تتوقف للحظة واحدة من الحفر والتنقيب من تحته بهدف تقويض اركانه، هذا ناهيك عن المحاولات العديدة للإعتداء عليه بدأ بالحرق مرورا بالاقتحامات المتكررة وانتهاء بالمؤامرات الحثيثة لتقويضه.
سياسة تهويد القدس استمرت بشكل منهجي ومكثف من خلال بناء عشرات المستوطنات على الارض العربية حول القدس وضمها الى المدينة. خلال 40 عاما من الاحتلال استوطن في القدس أكثر من 200 ألف مستوطن من حدود رام الله في الشمال الى بيت لحم في الجنوب الى مشارف اريحا والبحر الميت في الشرق.
سياسة تهويد القدس شملت ايضا سياسة تطهير عرقي للسكان العرب من خلال عمليات الطرد ومصادرة الهويات والملاحقة والتضييق ومن خلال بناء جدار الفصل العنصري. في هذه الايام تصل سياسة تهويد القدس العنصرية الى اوج شراستها مع تكثيف الاستيطان في جبل ابو غنيم وجبل المكبر والطور والشيخ جراح وباقي الاحياء العربية. طرد عائلة الكرد من بيتها هو مقدمة لطرد 27 عائلة اخرى في الحي نفسه، وقطعان المستوطنين الذين إحتلوا البيت هم نواه لحي صهيوني جديد سوف يقوم على انقاض البيوت العربية.
هذه الجرائم في حق اهلنا في القدس وهي في الوقت ذاته جرائم في حق الانسانية، تجري امام انظار العالم الذي لا ولن يحرك ساكنا، ولكن المصيبة الاكبر انها تجري امام انظارنا نحن ولا نحرك ساكنا، اللهم سوى الاستنكار ومزيد من الاستنكار الذي لم يعد يجدي فتيلا. في اليوم التالي لطرد عائلة الكرد من بيتها كان رئيس السلطة الفلسطينية يجتمع مع رئيس الحكومة الاسرائيلي أولمرت في القدس. عملية الطرد لم تطرح للنقاش اصلا بل دار الحديث حول كيفية تركيع غزة ومواصلة المفاوضات "السسلمية"، بينما بعث رئيس السلطة بعض مؤيديه للمشاركة في عملية الاستنكار. أما أحزابنا السياسية العربية "الوطنية" فقد كانت مشغولة بالانتخابات للسلطات المحلية.
لقد وصلت صرخة أم كامل الى جميع أنحاء العالم ولبى هذه الصرخة الكثيرين من شتى انحاء العالم. ولكنها يبدو انها لم تصل الى آذنانا جميعا، نحن أصحاب القضية.
على جميع الاهالي الذين يؤمون الاقصى للصلاة في هذه الايام، ونحن نقف على تبة عيد الاضحى، أن يعرجوا على خيمة أم كامل، ليس من أجل التضامن فحسب، بل بالاساس من أجل التزود بروح الصمود والتضحية التي تبثها أم كامل.
إن سياسة تهويد القدس هي نفسها سياسة تهويد الجليل والمثلث والنقب وسياسة التطهير العرقي في القدس هي نفسها سياسة التطهير العرقي التي يتعرض لها أهلنا حاليا في النقب. فلا تدعوا هذه السياسة تمر.
No comments:
Post a Comment