ماذا بعد السقوط الكبير للايديولوجيات؟
علي زبيدات - سخنين
لا أدري مدى صحة تنظيرات فوكوياما حول نهاية عصر الأيديولوجيات وعدم حاجة العالم لها بعد سقوط جدار برلين ونهاية الحرب الباردة واعلانه انتصار النظام الرأسمالي النهائي على الصعيد الاقتصادي: العولمة واقتصاد السوق المفتوح وعلى الصعيد السياسي بقيام انظمة "الديمقراطية الليبرالية" الغربية.
ولا أدري ما هو موقف فوكوياما الآن بعد قيام جدران أعلى وأعتى من جدار برلين، وعودة الحرب الباردة بشراسة تفوق الحرب الاولى وترافقها حروب ساخنة لا تعد ولا تحصى في شتى أصقاع العالم. أما على الصعيد الاقتصادي فحدث ولا حرج عن الأزمات المزمنة لهذا النظام "المنتصر" والمجاعات والأمراض والحروب والاستعمار بأشكاله الحديثة.
ولكن بغض النظر عن تنظيرات فوكوياما المتناقضة والتي شكلت أساسا نظريا لقيام أشد الأنظمة رجعية ابتداء من رئاسة رونالد ريغن مرورا ببوش الاب والابن وحتى دونالد ترامب والمحافظين الجدد، علينا أن نعترف بسقوط الايدولوجيات الكبيرة التي طرحت نفسها كبديل للراسمالية العالمية. ولا يفيد الإنكار أحدا هنا والاكتفاء بالقول العيب ليس في الايديولوجية بل في معتنقيها وفي تطبيقاتها. وكأنه من الممكن الفصل بين النظرية والتطبيق وتبرئة المعتنقين خصوصا بعدما شاركوا في وضع هذه الايدولوجيات.
وبما اننا بصدد مقالة صحفية وليس دراسة أو بحث أكاديمي (يوجد هناك كم لا يحصى ولا يعد من الدراسات والكتب حول هذا الموضوع) فإنني سأقتصر الكلام وباختصار شديد حول تبعات سقوط الأيديولوجيات في عالمنا العربي. حيث تنافست ثلاثة ايدولوجيات رئيسية فيما بينها لتغيير الواقع وكل واحدة ادعت بانها الافضل بل هي الوحيدة التي لا بديل لها وهي:
1- الأيديولوجية الشيوعية وتضم النموذج السوفياتي ممثلا بالاحزاب الشيوعية التقليدية، النموذج الصيني، الكوبي، الفيتنامي، الشيوعية الاوروبية والحركات الاشتراكية بمختلف اشكالها.
2- الايديولوجية القومية التي نمت وترعرعت في خضم النضال ضد الاستعمار ووصلت ذروتها مع جمال عبد الناصر وقيام الوحدة المصرية-السورية ومن ثم قيام حركات ناصرية في ارجاء العالم العربي وكذلك قيام حزب البعث واحزاب قومية اخرى عديدة تأرجحت بين الشيوعية يسارا وبين الفاشية يمينا.
3- الايديولوجية الدينية. خصوصا بعدما تحول الدين من معتقدات وعبادة وطقوس الى ايديولوجية اتفق على تسميتها بالاسلام السياسي على يد حركة الاخوان المسلمين ومن ثم كافة مشتقاتها من سلفيين وجهاديين على شاكلة القاعدة وداعش وغيرها.
هذه الايدلوجيات الثلاثة قد سقطت في منطقتنا سقوطا مدويا. وكما قلت لن يفيدنا الانكار شيئا ولم يعد التبرير بأن العيب ليس في الايديولوجية نفسها بل بمعتنقيها وبتطبيقها كافيا وقد نسي هؤلاء أن الانسان هو الذي صنع الايديولوجية قبل أن تصنعه.
الشيوعية انهارت في الاتحاد السوفياتي والمعسكر التابع له ليس فقط بسبب الأفراد الذين قادوها من لينين وستالين مرورا بخورتشوف وبرجينف وحتى غورباتشوف، وليس فقط بسبب تطبيقات خاطئة من سياسة النيب مرورا بسياسة التصنيع السريع والاحتكار القصري للدولة وحتى سياسة السوق والانفتاح، بل أيضا وبالاساس بسبب فشل الايديولوجية الشيوعية في التطور ومواكبة التطورات الحديثة. بالرغم من أن جميع أتباعها كانوا يرددون: الماركسية ليست نظرية جامدة بل هي مرشد للعمل. ولكنهم في الواقع كانوا يفسرون كل ظاهرة جديدة بمفاهيم القرن التاسع عشر وبداية القرن العشرين. وقد باءت جميع المحاولات الجادة والرصينة لتطوير الشيوعية لكي تلائم متطلبات العصر بالفشل أولا وقبل كل شيء بسبب معاداة الشيوعيون الذين وضعوا أنفسهم حراسا على "نقائها".
الايديولوجية القومية، منذ بدايتها لم تعرف كيف تتعامل مع الأقليات القومية التي تشاركها في الجغرافيا والتاريخ ولم تعرف كيف تتعامل مع نفسها. بالرغم من توفر ظروف موضوعية قابلة لنجاح المشروع القومي على الأقل على طريقة بيسمارك وغاريبالدي (توحيد ألمانيا وإيطاليا) إلا أنها فشلت في ذلك لأن قيادتها لم تكن مهيئة تاريخيا للقيام بهذا الدور. "الثورة العربية الكبرى" التي قادتها بدلت الاحتلال التركي بالاحتلال البريطاني والفرنسي ومن ثم بالهيمنة الامريكية والمساهمة في تمهيد الطريق لقيام الكيان الصهيوني. ومن ثم أصبح شعار الوحدة العربية قناعا للدفاع عن دول سايكس-بيكو واللهث وراء السلطة من قبل عائلات كومبرادورية في كل الدول العربية. أكبر برهان على فشل المشروع القومي العربي هو قيام ما يسمى بجامعة الدول العربية ومن ثم مجلس التعاون الخليجي. برهان آخر على فشل المشروع القومي العربي والذي لا يقل من حيث أهميته عن سابقه هو الحروب الحالية التي تمزق العالم العربي في العراق وسوريا واليمن وليبيا والتي تخوضها انظمة ومليشيات محسوبة على هذا التيار. وبرهان أخير، هو موقف الأنظمة العربية من دولة اسرائيل والذي تجاوز التطبيع ووصل الى مرحلة التحالف.
الايديولوجية الدينية التي حلمت بملأ الفراغ بعد تقهقر الاستعمار القديم وفشل الشيوعية والقومية في إنجاز مشروعيهما. سرعان ما كان مصيرها مشابها من حيث الفشل والسقوط. كل ما فعلته هو اذكاء النعرات الطائفية التي وصلت في بعض الحالات الى حروب طائفية. هذا ناهيك عن تحالفها مع الاستعمار القديم لمواجهة منافسيها الآخرين. لقد أثبت التاريخ أن تحويل الدين الى ايديولوجية لا يختلف عن تحويل الايديولوجية الى دين وبالتالي لا غرابة أن تكون النتيجة واحدة. لقد حققت الأيديولوجية الدينية بعض النجاحات في أماكن معينة ولفترات زمنية معينة، تماما كما فعلت الأيديولوجيات الاخرى. فبينما كانت النجاحات نسبية ومشروطة كان الفشل مطلقا وشاملا.
سقوط هذه الأيديولوجيات المدوي لا يعني نهاية الصراع في المنطقة، على العكس فالصراع يتصاعد والمطلوب أولا وقبل كل شيء صراع ايديولوجي يخرجنا في نهاية المطاف من هذا المأزق.