دراسة الفكر العربي موضوع واسع لا تستطيع اية مقالة صحفية أن توفيه حقه. وقد كتب في هذا المجال العديد من الدراسات والابحاث والكتب. لعل اوسعها واشملها واعمقها كانت الكتاب الموسوعي للمفكر محمد عابد الجابري "نقد العقل العربي" والرد الموسوعي ايضا على هذا الكتاب للمفكر جورج طرابيشي: "نقد نقد العقل العربي". ولكن يبدو ان النقد بحد ذاته مهما كانت أهميته ومهما كان عمقه وصوابه فإنه لا يكفي لإجراء تغيير جذري على الفكر العربي وبالتالي على نتائج نشاطاته.
في هذه المقالة المقتضبة أود أن اضع الاصبع على بعض الصفات التي تجسد أزمة الفكر العربي الراهن، خاصة الفكر السياسي، والتي حسب إعتقادي هي السبب الرئيسي في شلل العالم العربي وتخلفه على كافة المستويات.
ننطلق من بديهية لم يعد ينكرها أحد وهي أن العالم العربي يعاني من تخلف حضاري على كافة المستويات، تخلف وضعه على هامش التاريخ بل وفي كثير من الاحيان أقصاه عن التاريخ نهائيا. مظاهر هذا التخلف عديدة تكاد لا تعد ولا تحصى أكتفي بذكر أهمها:
اولا، على الصعيد السياسي:
بعد قرون من الركود الذي ميز الحكم العثماني وقعت البلدان العربية تحت الهيمنة الامبريالية اما مباشرة واما بشكل غير مباشر. بعد رحيل القوى الامبريالية ونيل الاستقلال، لم يكن هذا الاستقلال الا شكليا، حتى في البلدان التي خاضت نضالا ثوريا من أجل استقلالها مثل الجزائر واليمن. وهكذا خرج الاستعمار بشكله القديم وعاد بشكله الجديد الامبريالي. ولعل أكبر دليل على تخلف العالم العربي في هذا المجال هو هزيمته المتكررة أمام الحركة الصهيونية وفشله في منعها من تحقيق مشروعها الا وهو قيام دولة اسرائيل. مظهر آخر ومهم للتخلف السياسي هو حالة التشرذم الذي يعيشه العالم العربي وصراعاته المتبادلة وإخفاقه في بناء نظام حديث يواكب التطورات العالمية.
ثانيا،على الصعيد الاقتصادي:
بالرغم من غنى البلدان العربية في المعادن ومواد الخام وخصوصا النفط الذي يعتبر روح الصناعة الحديثة، وبالرغم من سعة هذه البلدان وخصوبة اراضيها، الا انها من أكثر بلدان العالم تخلفا على الصعيد الصناعي والزراعي. أغلبية السكان يعيشون في ظل فقر مدقع يقارب المجاعة، بينما تعيش طبقة ضئيلة في ثراء فاحش. بشكل عام، العالم العربي من المحيط الى الخليج هو عالم استهلاكي غير منتج وهذا الامر يكرس التخلف.
ثالثا،على الصعيد الفكري والثقافي:
ما زالت نسبية الامية في العالم العربي من أعلى النسب في العالم. يكاد يكون الابداع في كافة المجالات معدوما، مما يؤدي الى هروب العقول العربية الى اوروبا وامريكا. حتى في حياتنا اليومية ما زلنا ضحايا لعادات وتقاليد بالية أكل الدهر عليها وشرب، وهي التي تحدد افقنا الحضاري والثقافي.
إذن، هذا هو واقعنا بإختصار. أمام هذا الواقع هل من باب الصدفة أن تستطيع دولة اسرائيل الصغيرة أن تسيطر على المارد العربي الذي يغط في سبات عميق يشبه الموت؟. كلا بالطبع. السبب يكمن في تخلفنا الحضاري. ولا يفيدنا قيد انملة التباكي على ماضينا المجيد عندما كنا مهد الحضارة بينما كان غيرنا يعيش في ظلمات القرون الوسطى.
حسب رأيي تخلفنا هذا هو نتيجة مباشرة وحتمية لتخلف الفكر العربي، العقل العربي او العقلية العربية، وكلها مصطلحات متقاربة تشير الى شيء واحد. المجتمعات مثل الافراد. فإذا كان الفرد مضروب في عقله فلن تفيده صحته ولا جماله ولا طيبة قلبه. العقل السليم هو المحرك لكل شيء وهو الذي يحدد كل شيء، لسلوك الافراد كما لسلوك الشعوب والامم.
لا يستطيع أحد أن ينكر انه كانت هناك، على الاقل في القرن الاخير، محاولات لتجديد الفكر العربي. وظهرت هناك تيارات عديدة ومتنوعة تنادي بالاصلاح والتجديد، ولكنها باءت بالفشل. كلما ازدادت هذه التيارات عددا كلما زاد عقمها، وبدلا من أن تقود الى تعددية وثراء قادت الى تشرذم وإنغلاق. إذا صنفنا هذه التيارات الفكرية الى ثلاثة معسكرات واسعة هي الاسلامية والقومية والاشتراكية، نرى انها جميعها فشلت بالرغم من انها جميعها تدعي النجاح الباهر. فالتيارات الاسلامية ما لبثت حتى اصطدمت مع نفسها، فمنها من نادى بعودة الخلافة الاسلامية ومنها من نادى بإقامة دولة ثيوقراطية يحكمها رجال الدين، ومنها من نادى بالاصلاح والصحوة وولاية الفقيه، الخ. ولكنها جميعها وقفت عاجزة امام انجاز عملي واحد. وذلك حسب اعتقادي لعدم مقدرة المفكر المسلم أن يتخذ موقفا نقديا من الاسلام نفسه. فما زال الاحياء يحملون على اكتافهم الموتى وتراثهم.
التيار القومي لم يكن أحسن حظا. حيث فشلت جميع محاولاته للنهوض بالفكر القومي العربي. وفي محاولاته لبناء نظام قومي عربي واحد على الاقل، حتى في البلدان التي استلم القوميون بها زمام الحكم ولفترات طويلة. فقد قاد القوميون العرب هذه البلدان لمزيد من الشرذمة والانغلاق تماما على عكس ما كان يدعون له.
التيار الاشتراكي بجميع اشكاله هو الآخر، بسبب عقمه وجموده العقائدي بقي على هامش العملية التاريخية وفرض على نفسه التقوقع بعيدا عن الجماهير الشعبية التي يتكلم بإسمها.
اذا اراد الفكر العربي أن يخرج من أزمته عليه أن يتخلص من إرهاصات الصراع بين الاصالة والمعاصرة، بين التراث والتجديد، بين الدين والعلمانية. يجب إستيعاب التناقضات بين هذه المصطلحات وحلها بشكل ديناميكي وديالكتيكيي. وعدم الخوف من الخوض في غمارها.
لكي يخرج الفكر العربي من أزمته القاتلة عليه أن يضع كل شيء في موضع السؤال والنقد وألا يقبل الاشياء مسلمة. عليه الا يقبل الافكار الجاهزة مهما كان مصدرها مع الادراك تماما انه لا يوجد هناك أجوبة نهائية لكل شيء، واذا وجدت فإننا لا نملكها.
على الفكر العربي للخروج من أزمته أن يذبح الكثير من بقراته المقدسة وأن يحطم العديد من الاصنام التي ورثها ابا عن جد. عليه أن ينفض عنه غبار الركود ويتخلص من الاتكالية وعدم الابداع والخلق.
يجب تحطيم جميع القيود التي تكبل الفكر العربي. فقط الفكر الحر يستطيع أن يحلق في أعالي السماء وينتشل الامة العربية من الحضيض الذي تقبع به الآن.