تحيي دولة إسرائيل في هذه الايام ما يسمى " يوم الذكرى للكارثة والبطولة" بطقوس رسمية تبدأ اليوم (الاربعاء) في متحف "يد وشم" بحضور رئيس الدولة ورئيس الحكومة حيث يذرفان دموع التماسيح على ضحايا النازيين من يهود أوروبا وتستمر غدا (الخميس). بمراسيم أخرى مثل صافرة صمت لمدة دقيقتين، إنزال العلم الى النصف، وكذلك برامج خاصة حول هذه المناسبة في المؤسسات التربوية والرسمية والتلفزيون والراديو وإغلاق الملاهي والمرافق الترفيهية.
من يرى هذه الاحتفالات ويستمع لخطابات السياسيين يظن للوهلة الاولى أن الدولة تقدس هذه الذكرى وتقدس ضحايا الجرائم النازية. ولكن نظرة أخرى الى الواقع تشير الى العكس من ذلك تماما. لنستمع الى صرخة إمرأة من ضحايا الهولوكوست والتي نجت من أحد معسكرات التركيز النازية وتناقلتها وسائل الاعلام الاسرائلية نفسها: " ألا يكفي اننا عشنا في أوشفيتس مثل الكلاب؟ انني أشعر بالذنب لأني بقيت على قيد الحياة"
لماذا تقول هذه السيدة هذه الكلمات شديدة اللهجة ولمن توجه صرختها المدوية هذه؟ هل هي إمرأة أخرى لاسامية تكره اليهود؟ كلا بالطبع بل هي يهودية ومن ضحايا النازية كما اسلفنا. انها توجه صرختها للمؤسسات الرسمية التي تنظم هذه الاحتفالات. ولماذا؟ لأنهم نهبوها وتركوها تعيش باقي حياتها في فقر ومذلة.
في تقرير رسمي نشرته إحدى الجمعيات التي تدافع عن ضحايا الهولوكوست يتضح أنه يعيش في اسرائيل 250 ألف من الناجين، يعيش ثلثهم تحت خط الفقر. وإن الدولة والبنوك قد استولوا على معظم اموال التعويضات التي دفعتها المانيا لهم.
أمور تكاد لا تصدق. البنوك الاسرائيلية ( بنك هبوعليم، ديسكونت، لئومي وغيرها) تحتجز مئات الملايين من الدولارات التي حولت من المانيا كتعويضات شخصية للمتضررين. قسم من هذه الاموال يشكل جزءا من المعاشات الفاحشة لمدراء هذه البنوك. منذ سنوات تماطل هذه البنوك في كشف المبالغ التي تحتجزها، وسلاح المماطلة في هذه الحالة هو سلاح فعال حيث يموت كل يوم 7 من الناجين وهذا يعني 7 أشخاص أقل سوف تدفع لهم التعويضات. الدولة هي ايضا شريكة في عملية النهب هذه حيث حولت مئات الملايين من هذه الدولارات الى مجالات أخرى وخصوصا الى مجالات عسكرية. دولة اسرائيل التي تعيش ماديا ومعنويا على الهولوكوست هي الدولة الوحيدة في العالم التي تطلب من الناجين أن يثبتوا أن إعاقاتهم كانت بسبب معاناتهم في معسكرات التركيز. وحتى اليوم ترفض دولة اسرائيل الاعتراف بمكانة الناجين قانونيا. انها صناعة مخيفة، المخفي منها أعظم من الظاهر.
نورمان فينكلشتاينن وهو مفكر يهودي امريكي، وابن لأبويين نجيا من معسكرات الابادة النازية، أصدر كتابا يفضح بعض هذه المماسات، اسمه: " صناعة الهولوكوست: تأملات في استغلال المعاناة اليهودية" يتهم به التنظيمات اليهودية العالمية ودولة اسرائيل ألاستيلاء على معظم اموال التعويض من أجل زيادة ارباحها الفاحشة.
الصحفي الاسرائيلي يوسي غورفيتش يقول في احدى مقالاته أن معاملة ناجي الهولوكوست بهذه الطريقة المخزية ليست جديدة بل تعود الى السنوات الاولى من قيام الدولة حيث وقع دافيد بن غوريون في عام 1952 إتفاقا مع المانيا يتلقى بموجبه مساعدات منها لبناء الدولة وخصوصا من الناحية العسكرية بشرط أن يتخلى عن المطالبة بتعويضات خاصة للمتضررين.
ويضيف أن بن غوريون وباقي زعامة "اليشوف" كانوا يتعاملون مع الناجين بطريقة الاستعلاء والتعجرف ولم يخفوا سلوكهم هذا، خصوصا وان معظم الناجين لم يكونوا صهاينة وفضلوا البقاء في بلدانهم ورفضوا الانجرار وراء دعاية الحركة الصهيونية. خلال الحرب العالمية الثانية والفترة التي سبقتها، 10% من يهود اوروبا فقط إعتبروا انفسهم صهيونيين. لذلك قال بن غوريون: اذا كان الخيار بين انقاذ مليون طفل بشرط ان يهاجروا الى بريطانيا، وبين إنقاذ نصف مليون طفل فقط ولكن يهاجرون الى اسرائيل، لإخترت الخيار الثاني".
ولكن هذا لم يمنع اسرائيل من استغلال هؤلاء الناجين في عدة مجالات اخرى اهمها ابتزاز العالم وتبرير وجودها وجرائمها المستمرة منذ قيامها وحتى اليوم.
لقد استغلت الحركة الصهيونية الجرائم النازية لكي تبتز الضمير العالمي وخصوصا الاوروبي من أجل الحصول على دعمها لأقامة كيانها، بعد أن نصبت نفسها وريثا ليهود اوروبا، الذين نبذوا ايديولوجيتها ورفضوا الهجرة الى فلسطين.
بمفارقة صارخة وتناقض مباشر مع سلوكها جعلت من الهولوكوست حدثا فريدا من نوعه وبنت حوله هالة من القدسية حتى اصبح مقتل عشرات الملايين من الشعوب الاخرى في الحرب العالمية الثانية امرا عاديا يكاد أن يكون تافها. وفي الوقت نفسه كانت تنظر نظرة إزدراء لهؤلاء الناجين وتعاملهم بإهمال وإستعلاء وتتهمهم بالذهاب الى المحرقة كالنعاج بدون مقاومة وكأن الصهاينة هم الوحيدين الذين يجسدون "اليهودي الجديد" المحارب والمستقل. مع أن الحركة الصهيونية لم تقم بأي دور ذي اهمية في مقاومة النازية والفاشية في اوروبا. ولكن هذا موضوع آخر.
في هذه الاثناء بينما يستمر عرض مسرحية "ذكرى البطولة والكارثة" يواصل العديد من الناجين مظاهراتهم واحتجاجاتهم ضد هذا النفاق الرسمي ومن أجل إعادة الاموال المسلوبة بإسمهم ويصرخون: لقد أذللنا وداسوا على كرامتنا.
نعم، دولة إسرايل هي آخر من يستحق شرف ذكرى ضحايا النازية.