Wednesday, March 05, 2008

عارنا في غزة



إنتهت الجولة الاولى من الاجتياح الاسرائيلي الاخير لقطاع غزة. أسدل الستار مؤقتا من أجل التحضير للمشهد القادم من هذا المسلسل المستمر منذ اليوم الاول للاحتلال. لقد كانت مشاهد هذه الجولة عنيفة بإمتياز حيث ابدعت اسرائيل في إنتاج وإخراج وتنفيذ هذه المشاهد التي شدت أنظار العالم أجمع اليها. وقد أصاب نائب وزير الحرب الاسرائيلي، متان فلنائي، الذي يفتخر بعلاقاته الحميمة والمتشعبة بالوسط العربي بوصف هذه المشاهد: "انها المحرقة". وبهذه المناسبة لا بد من توجيه الشكر الى قناة الجزيرة التي أوصلت هذه الصور في جميع ارجاء العالم.
كان حصاد الجولة الاولى لهذا الاجتياح وفيرا للغاية، خلال خمسة ايام سقط 120 شهيدا معظمهم من المدنيين بينهم عدد كبير من الاطفال وحوالي 400 جريح بالاضافة الى عدد كبير من البيوت المدمرة. وهذه طبعا إحصائيات اولية إذ أن الفلسطينيين لم يحصوا جميع قتلاهم بعد ولا يعرف كم من الجرحى سوف يموتون موتا بطيئا بسبب نقص العلاج والادوية. على كل حال العدد لم يعد مهما لأحد. فقد أصبح دم الفلسطيني ارخص من الماء.
انتهت هذه الجولة وعلامات الرضى ظاهرة على وجوه معظم الاطراف المشاركة. فهذه اسرائيل، واحة الديموقراطية في المنطقة تقترف جرائمها الديموقراطية في وضح النهار، أمام بصر وسمع العالم الذي يقف مشاهدا منجذبا الى منظر الدماء، يتلذذ بآهات الألم الصاعدة من صدور الجرحى والعائلات الثكلى. بينما ينعقد مجلس الامن، الذي يمثل الشرعية الدولية لأدانة هذه الجرائم، ولكنه ينفض مبرئا المجرمين ومدينا للضحايا. هكذا يصرح الكوري القذر بان كي مون، الذي ما زال يراه بعض العرب حارسا للسلام والامن العالميين، بينما لا يعدو كونه أكثر من عميل صغير لأمريكا واسرائيل. ويضيف انه من حق إسرائيل أن تدافع عن نفسها، بينما لا يحق للفلسطينيين المحاصرين في قطاع غزة الدفاع عن أنفسهم حتى وهم يتعرضون لعملية تطهير عرقي.
طرف آخر تبدو علامات الرضى عليه هو الطرف الامريكي. حيث سارعت وزيرة الخارجية الامريكية لزيارة اللاعبين الثلاثة، الذين قاموا بدور البطولة هذه الجولة لكي تطمئن على سير الامور وعلى مدى نجاح تنفيذ المشروع الامريكي. بدأت وزيرة الخارجية الامريكية زيارتها بمصر حيث هنأت النظام على إعادة اغلاق معبر رفح وعلى تهديده بكسر أرجل كل فلسطيني تسول له نفسه عبور الحدود مستقبلا ولخدمات أخرى عديدة. ثم عرجت الى زيارة رئيس السلطة الفلسطينية وهنأته على دوره الفذ في توفير التبرير اللازم لشن العدوان حيث القى المسؤولية على "الصورايخ العبثية التي تطلقها حماس على جنوب اسرائيل". وهمست في أذنه كلمة عتاب على تعليقه للمفاوضات مع اسرائيل ونصحته بإعادتها على جناح السرعة.
ولكن هذه الاطراف لم تكن هي الوحيدة التي عبرت عن إرتياحها ورضاها من انتهاء هذه الجولة. هناك الطرف الذي يهمنا نحن فلسطينيو الداخل مباشرة، وأعني زعامتنا المحلية ممثلة بلجنة المتابعة العليا على كافة مركباتها من أحزاب سياسية وجمعيات أهلية. والذين ما زالوا يربتون على أكتاف بعضهم البعض ويتنفسون الصعداء بعد المسيرة الضخمة يوم الثلاثاء في مدينة أم الفحم إحتجاجا على مجازر غزة. فقد حققت هذه المظاهرة إنجازات عديدة كان أولها رفع العتب عنهم وآخرها تنفيس الاحتقان المتراكم في صدور الجماهير.
غير أن هذه المظاهرة اكدت وبشكل قاطع أن هذه الزعامة لا يمكنها أن ترتقي الى مستوى الاحداث الجسيمة التي تعصف بالمنطقةا. ينطبق عليها المثل الشعبي القائل: "رايحين عالحج والناس راجعة". ما زلنا نذكر الماضي القريب، اثناء العدوان الاسرائيلي الاخير على لبنان، بعد حوالي ثلاثة اسابيع من هذه الحرب وبعد تدمير كافة الجسور والطرق وارتكاب المجازر، وبعد أن بدأ الحديث يتعالى حتى بين مؤيدي هذه الحرب عن ضرورة وقف اطلاق النار وإنهاء الحرب، إستطاعت هذه الزعامة أن تنظم عملا موحدا. وهذا الامر يتكرر الان، بعد أن إرتكبت إسرائيل جرائمها التي صعقت العالم وأعلنت عن سحب قواتها، إستطاعت هذه الزعامة أن تنظم عملا موحدا، أما في أوج العدوان فقد إكتفت جميع الاحزاب المنضوية تحت كنف لجنة المتابعة بتنظيم إحتججات هزيلة على المفارق كل واحد على حدة، لا تسمن ولا تغني من جوع. بينما كانت الجماهير تغلي من الداخل ولا تجد طريقة هادفة للتعبير عن سخطها. من المفروض، نظريا على الاقل، أن تقوم القيادة بتعبئة الجماهير وتنظيمها وقيادة نضالها بشكل هادف وواعي، ولكن الوضع هنا على العكس من ذلك تماما. فالقيادة تتحرك فقط تحت وطأة الضغط الجماهيري وتصب جل جهدها في كيفية إحكام قبضتها على التحرك الجماهيري ولجمها والحرص على عدم فقدان سيطرتها عليها، مستخدمة الشعارات الرنانة والخطابات النارية. إلا أن هذه الشعارات مهما علت وهذه الخطابات مهما التهبت فإنها أعجز من أن تخفي هذا الواقع. وليس صدفة أن الجماهير التي تكون على أتم الاستعداد للخروج في مسيرات جبارة باتت تمقت المقطع الاخير من هذه المسيرات المتمثل بالخطابات. ويبدو أن هذه الزعامة نفسها بدأت تشعر بذلك وتقوم بالاختصار منها.
قصف الاماكن المأهولة واستهداف المدنيين والأطفال من قبل القوات الاسرائيلية ليس من باب الصدفة وليس لأنه لا يوجد هناك آخر، وهو أكيد ليس خطأ عرضيا، بل هو سياسة مدروسة ومنظمة. سياسة تعبر عن النظرية العنصرية التي تتبناها المؤسسة الصهيونية والتي تقول: أن قتل المدنيين سوف يدق الاسفين بين المقاومة والجماهير، وسوف يؤدي الى تمرد الجماهير على المقاومة. غير أن الواقع يؤكد العكس من ذلك تماما، فكلما تصاعد إستهداف المدنيين والاطفال كلما أنضم إتسعت دائرة الملتحقين بالمقاومة. هذه النظرية العنصرية التي تقول ايضا: أن العرب لا يفهمون سوى لغة العنف والقوة. وإذا لم يفهموا بالعنف القوة فسوف يفهمون بمزيد من العنف ومزيد من القوة.
هذه النظرية ليست حصرا على إسرائيل فقد إستعملتها جميع القوى الاستعمارية والكولونيالية وجميعها منيت بالفشل وتبقى الحقيقة التي تقول: اينما يوجد إضطهاد توجد هناك مقاومة، سارية المفعول.

No comments: