كميات هائلة من المداد سكبت في الآونة الاخيرة على الاوراق تطرح وتنظر وتدعو الى إقامة "دولة ديموقراطية علمانية" كحل للصراع الفلسطيني (العربي) الاسرائيلي، كبديل لحل "الدولتين لشعبين" ذلك الحل "السهل الممتنع" الذي تتبناه منظمة التحرير الفلسطينية واسرائيل (اتفاقيات اوسلو) والدول العربية ( مبادرة السلام العربية) والولايات المتحدة الامريكية والاتحاد الاوروبي أو ما يسمى بإختصار المجتمع الدولي، والذي وصل الى طريق مسدود حتى بإعتراف جهات مركزية من المطالبين به. هذا بالاضافة للمؤتمرات واللقاءات والنقاشات التي تكاد لا تحصى والمنتشرة في شتى أنحاء العالم.
ينضم الى هذه الجوقة الغريبة العجيبة في تركيبها وطرحها رفاقنا في حركة أبناء اللبلد الذين يستعدون لأن يدلوا بدلوهم في هذا الموضوع في مؤتمر حيفا "لأجل حق العودة والدولة الديموقراطية العلمانية في فلسطين" والمزمع عقده في 20-21 حزيران 2008.
وبذلك تتسع صفوف المنادين بهذا الحل وتتنوع مشاربهم الفكرية والتنظيمية. فهي تشمل الآن حركات سياسية، جمعيات مدنية، شخصيات أكاديمية مستقلة وغير مستقلة، حتى اصبح شعار "الدولة الديموقراطية العلمانية" وخلال فترة وجيزة يفوق شعار "الدولتين لشعبين" من حيث الابتذال والقولبة.
وبما انني كنت في فترة من الفترات من بين الذين نادوا بمثل هذا الحل، وبعدما أدركت هذا الكم الهائل من التحريف والانتهازية على الصعيدين النظري والعملي، ارى من الواجب أن اقوم بنقد ذاتي من جهة ونقد أولي للافكار المطروحة في هذا السياق.
كما ذكرت سابقا، هذه الجوقة غريبة في تركيبتها غير متجانسة في طرحها ولكنها تتفق على خطوط عامة توحدها وحسب رأيي هذه الخطوط العامة هي الحاسمة بينما الاختلافات شكلية، ثانوية وهامشية.
في نهاية السنة الماضية عقد في لندن مؤتمر نظمته مجموعة من الاسرائليين والفلسطينيين تطلق على نفسها "مجموعة لندن للدولة الواحدة" (The London One State group) تحت إسم "تحدي الحدود: ولة واحدة في إسرائيل/فلسطين" حاز على نوع من الترويج شارك فيه عدد من الاكاديميين العرب واليهود والاجانب اذكر منهم مدير مركز مدى الكرمل نديم روحانا، مدير مركز ابن خلدون أسعد غانم، المؤرخ إلان بابي ونور مصالحة بالاضافة الى عمر برغوثي وغادة كرمي وآخرون. أصدر هذا المؤتمر في نهاية أعماله بيانا بمناسبة 60 عاما على قرار التقسيم، يقول فيه: "أن حل الدولتين قد فشل لإحقاق العدالة والسلام للشعبين الفلسطيني واليهودي الاسرائيلي لأنه يتجاهل الواقع ولا يقدم حلا لجميع المشاكل"، الخ. ويدعو الى اقامة دولة واحدة على أساس أن فلسطين التاريخية هي ملك لكل من يعيش فيها والاعتراف بشخصية المجتمع التعددية بالاضافة الى الشعارات المعروفة حول حق العودة والمساواة الخ. ومن يقرأ هذا الاعلان كاملا يلمس روح "الدولة ثنائية القومية" التي يروج لها روحانا وغانم ( وثيقة حيفا على سبيل المثال).
متشجعة من نجاح هذا المؤتمر، تحضر المجموعة نفسها لمؤتمر جديد يعقد في احدى الجامعات الانجليزية الشهر القادم، مرة أخرى بمشاركة الان بابي ونور مصالحة وغادة كرمي وسمدار لافي.
هذه المجموعة ليست الوحيدة الناشطة في هذا المجال بل يوجد هناك مجموعات أخرى عديدة. ما يهمنا هنا تلك المعدودة على اليسار الفلسطيني والتي تعتبر نفسها بشكل أو بآخر امتدادا للجبهة الشعبية لتحرير فلسطين أذكر منها: أجراس العودة، ناطرينكم، وبعض الناشطين الفلسطينيين مثل أحمد قطامش وعادل سمارة. هؤلاء طبعا (بصفتهم أكثر راديكالية) لا يتكلمون عن دولة ثنائية القومية على غرار روحانا- غانم ولا عن دولة لكل مواطنيها على غرار "المفكر القومي" عزمي بشارة بل عن دولة ديموقراطية علمانية "صرف" في فلسطين التاريخية. ولكن نظرة أخرى على أطروحات هذه المجموعة تشير الى عدم وجود فوارق جوهرية مع الباقين. وهنا أكتفي بذكر ثلاثة ملاحظات انتقادية حول هذه الاطروحات:
1) تغييب طبيعة الكيان الصهيوني الكولونيالية العنصرية: بالرغم من الاعتراف بتاريخه الكولونيالي، الا انه كما يبدو، مع الوقت نال نوعا من الشرعية، حيث أصبح يمثل شعبا يعيش في هذه البلاد، وكأن المطلوب هو تحويل الدولة القائمة، بقدرة قادر، حتى تصبح دولة ديموقراطية علمانية بالفعل.
2) تغييب حقيقة أن فلسطين واقعة منذ 60 عاما تحت الاحتلال، وبالتالي تغييب مفهوم التحرير. حيث ان التحرير يجب أن يكون في صلب البرنامج الوطني لكل شعب يرزح تحت نير الاحتلال الاجنبي. وكل كلام حول حل ديموقراطي أو علماني بمعزل عن الحل الثوري التحرري لن يكون سوى شكل آخر من أشكال التفريط. من الواضح أن الكلام المبالغ فيه من جهة والمجرد من جهة أخرى عن الديموقراطية والعلمانية جاء ليغطي على الانسحاب من مشروع تحرير فلسطين كاملة من الاحتلال الكولونيالي.
3) ما عدا الشعار الكلامي " دولة ديموقراطية علمانية" لا يوجد اي اشارة الى جوهر هذه الدولة المقترحة من الناحية السياسية والاجتماعية والاقتصادية. هل هذه الدولة ستكون رأسمالية أم إشتراكية؟ وما علاقتها بمحيطها العربي؟ وما هو موقفها ودورها في الصراع الدائر على الصعيد العالمي، هل ستكون حيادية أم معادية للإمبريالية؟
حسب ما قرأته من افكار صادرة عن هذه المجموعات تستطيع إسرائيل وبكل سهولة أن تدعي انها دولة ديموقراطية علمانية. وكما قال أحد الصحفيين الاسرائيليين معلقا على مؤتمر لندن:"أن المطالبة بدولة واحدة تعيد الى الاذهان فكرة "اسرائيل الكبرى" التي تخلى عنها اليمين الصهيوني مؤخرا بعد أن عجز عن تحقيقها".
قبل أن نطرح شعار " دولة ديموقراطية علمانية" يجب إعادة تعريف هذه المصطلحات الثلاثة. ما هي الدولة؟ وهل يوجد أصلا ضرورة لوجودها؟ وهل ينبغي أن تكون على رأس سلم اولوياتنا؟ ما هي الديموقراطية؟ وعن اية ديموقراطية نتحدث؟ وماذا نعني بالعلمانية؟ هل هي علمانية أتاتورك؟ أم علمانية شيراك وسراكوزي؟ سوف أتناول الاجابة عن هذه الاسئلة المفصلية مستقبلا وبكل جرأة وصراحة.
قبل الانزلاق الى متاهات الانتهازية والتفريط التي لا رجعة منها، أنصح الجميع من ذوي النوايا الحسنة الى دراسة افكارهم مرة أخرى وإعادة النظر بخطواتهم.
No comments:
Post a Comment