عندما كنت صغيرا كنت مولعا بمشاهدة افلام رعاة البقر الامريكية، هذه الافلام الرديئة التي تصور بطولة المستعمرين البيض مقابل همجية الهنود الحمر. في ذلك الوقت لم أكن ادرك البعد السياسي لهذه الافلام الهابطة. كنت كغيري من الشباب مشدودا الى صورة البطل الذي يطلق النار من مسدسه بسرعة ويصيب دائما الرجل الشرير. ما زال عالقا في ذهني قصة احد هذه الافلام: زعيم عصابة من قطاع الطرق يقرر ان يسطو مع عصابته على بنك مركزي في أحدى البلدات سمع انه يحتوي على كميات كبيرة من سبائك الذهب. عندما هاجم البنك، نزل الى السراديب بحثا عن الذهب، أخذ يكسر الاقفال الحديدية ويفتح الابواب الواحد تلو الآخر. وكم كانت مفاجأته كبيرة عندما لم يجد اثرا للذهب وبدل ذلك كانت السراديب مكتظة بالمساجين حيث حولت الحكومة من حيث لا يعلم البنك الى سجن زجت به مئات المتمردين. وهكذا من غير قصد يطلق سراحهم. وتبدأ الشرطة والجيش بمطاردة العصابة التي انضم اليها بعض المتمردين المحررين، ويضطر رئيس العصابة مواجهة الشرطة والجيش لكي ينقذ نفسه وعصابته. وهكذا وجد نفسه بين ليلة وضحاها بطلا قوميا ثوريا.
اسرد هذه المقدمة لأبين ان السلطة الغبية المتعنتة في كل مكان قد تزود بعض الناس بقناع من الوطنية المزيفة وتفرض عليهم رغم انوفهم صورة بعيدة كل البعد عن حقيقتهم. دولة اسرائيل هي احدى هذه السلطات الغبية المتعنتة. ومن شدة غبائها (وقد يقول البعض بل من شدة ذكائها) ومن شدة عنصريتها تضفي حتى على بعض المتعاونين صفة الوطنية التي هي بريئة منهم كل البراءة.
خذوا مثلا موقف وسائل الاعلام العربية التي كالت في الفترة الاخيرة المديح للوزير العربي في الحكومة، وزير التعليم والثقافة والرياضة، غالب مجادلة على موقفه وانتقاده لتصرفات جمهور فريق بيتار القدس ومطالبته بمعاقبة هذا الفريق، وكيف تعرض للإهانة أثناء توزيع الميداليات للاعبين بعد فوزهم بكأس الدولة. للوهلة الاولى يبدو وكأن وسائل الاعلام هذه قد نسيت أو تناست أنه وزير في حكومة عنصرية ترتكب المجازر اليومية في حق الشعب الفلسطيني، وكأنه أصبح يمثل المسحوقين من الطرف الآخر. ولكن الوزير قد ابتلع هذه الاهانات وإستمر في تأدية دوره.
وهناك العديد من زعامتنا "الوطنية" من أعضاء كنيست عرب الى رؤساء مجالس محلية ومؤسسات "وطنية" يقومون هم الآخرين بتأدية دورهم على أحسن وجه. فالمؤسسات الحكومية الرسمية تعاملهم بإستعلاء وعجرفة وعنصرية مما يغطيهم بعباءة الوطنية ويضفي عليهم صبغة المعارضين المبدئيين لهذه الحكومة ولسياستها وتقوم الجماهير بمنحهم الدعم والتاييد. ولكنهم في نهاية المطاف يبتلعون هم الآخرين الاهانات المستمرة والمتكررة يصححون مسارهم ويمشون بالركب مع التيار.
الاسلوب نفسه تستعمله إسرائيل في الاراضي الفلسطينية المحتلة عام 1967 وبصورة أعنف وأقسى وليس فقط إتجاه من تسميهم إرهابيين ومتطرفين بل ايضا مع المعتدلين والمتعاونين. فهي تعامل هؤلاء بصلافة وأحتقار وتذلهم بمناسبة ومن غير مناسبة، حيث تقتحم المكان الذي تريده متى تشاء ولو كان هذا المكان وراء شرفة رئيس السلطة الفلسطينية، وتحتجز الوزير على الحواجز كما تحتجز المواطن العادي. هذا الامر يبقي بعض القناع الوطني على وجوه أعتى المتعاونين مع الاحتلال. ودائما يجدون من يدافعون عنهم: كلنا نرزح تحت نير الاحتلال، ما في أحد افضل من أحد.
ولكن في اليوم التالي يبتلع هؤلاء هم أيضا الاهانات المتكررة ويلتقون مع المحتلين للمزيد من التنسيق الامني والترتيبات ، او لمزيد من المفاوضات الفريدة من نوعها.
نعم، اسرائيل تساهم مساهمة فعالة من حيث تدري ام لا تدري، بغباء أو عن خبث في خلق الزعامة الفلسطينية على الصعيدين المحلي والقطري. وهي في الحقيقة تفضل الزعامات التي تحتج على الاذلال والاهانات وتكتسب بعض التأييد والمصداقية من قبل الجماهير ولكنها تعود في نهاية المطاف وتسير مع التيار على الزعامات المتعاونة بشكل مباشر ومكشوف ولكنها تعود وتتقبل الاهانات بخنوع حتى تظن البصاق رذاذا او قطرات من الندى. وأنا هنا أخاطر بالقول، وأترك لكل واحد من القراء أن يقرر اذا كان في كلامي بعض الصحة أم لا: أن أعضاء الكنيست العرب المنتمين للأحزاب العربية يخدمون، في نهاية المطاف، السياسة العامة للدولة افضل بما لا يقاس من زملائهم المنتمين للأحزاب الصهيونية. وأن الفلسطينيين الذين يتبؤون مراكزا قيادية في السلطة ويؤمنون أن اسرائيل سوف تقدم لهم سلام الشجعان اذا ما ثابروا على المفاوضات الابدية يخدمون الاحتلال بما لا يقاس افضل من المتعاونين المكشوفين.
نعم، ما كنا نخشاه قد اصبح واقعا، لقد اصبحت الخيانة وجهة نظر، بل أكثر من ذلك أصبحت عند البعض وسام شرف.
No comments:
Post a Comment