تكريم أم إهانة
علي زبيدات – سخنين
مما لا شك فيه أن تكريم المبدعين من كتاب وشعراء ومثقفين وعمال وطلاب متفوقين وكل من قدم خدمة جليلة لبلده ولشعبه هو أمر إيجابي بل وضروري لكل مجتمع فكم بالأحرى لمجتمعنا الفلسطيني الممزق والمحاصر والرازح تحت نير الاحتلال. غني عن القول أن التكريم إيجابي وضروري للأحياء كما للأموات. ولكن، حسب رأيي يوجد هناك بعض المعايير التي يجب ألا تغيب عن نظر منظم التكريم وصاحب التكريم على حد سواء وإلا تحول إلى نقيضه، إلى إهانة، وأصبح نوعا من النفاق الاجتماعي و"الوطني". وحسب رأيي فإن مجتمعنا لا يولي التكريم أهمية كافية من جهة، فكم من مبدع طواه النسيان في حياته ومماته، ولكنه من جهة أخرى هو مجتمع يعشق المظاهر والمبالغة إلى حد الإدمان وإلى درجة تصل إلى حافة النفاق الاجتماعي والرياء والسياسي.
من المعروف أن شعبنا يحب الرموز ويبالغ في تكريمها. الغالبية عن حسن نية ولكن البعض لغاية سياسية كانت أم شخصية. أنا شخصيا أؤمن أن الشعوب ليست بحاجة إلى أية "رموز" لأن "الرموز" عادة تصبح فوق النقد، فتحجب الحقيقة وتشجع الإتكالية واللامبالاة. ولها مساوئ عديدة أخرى ليس هنا المجال لشرحها بالتفصيل. على كل حال، هذه "الرموز" المكرمة ليست بحاجة إلى شهادة مني أو من غيري ولا أقصد هنا أصلا إعطاء أية شهادة من أي نوع كان. كل ما هنالك هي قناعة شخصية، ربما تكون خاطئة، بأننا نقف أمام ظاهرة سلبية يجب مواجهتها، ويحق لشخص واحد على الأقل عنده جرأة كافية (أو وقاحة كافية) لكي يتكلم عنها ويحذر منها.
في الأسابيع الأخيرة فاضت وسائل الإعلام المحلية بتغطية حفلات تكريم عديدة بصورة مستفزة، لذلك لا أري ضيرا أن أواجه هذه التغطيات بشكل قد يستفز البعض.
لنأخذ مثلا الشاعر سميح القاسم الذي أحبه كشاعر وأكن له الاحترام كإنسان ولكني أختلف معه في الكثير من المواقف والآراء وهذا من حقي وحق كل واحد. في الآونة الأخيرة جرى تكريمه في عدة حفلات وفي عدة بلدان. لا أدري ما سر هذه الطفرة وفي هذا الوقت بالذات. في سخنين امتلأت القاعة بمحبي الشاعر الحقيقيين والذين لم ينبسوا ببنت شفة. ولكني لست متأكدا من أن كل من اعتلى المنصة وكال المدائح للشاعر بكل ما جادت به قريحته هو من محبيه. ولا أدري ما سر تعاون سلطة رام الله وبلدية سخنين ومؤسسة الأسوار في هذا الاحتفال. ماذا يعني وجود رئيس ديوان محمود عباس؟ ومن يقول أن له أو لرئيسه الحق في أن يمنح "وسام نجمة القدس" لأحد؟ ماذا فعلت هذه السلطة من أجل القدس أصلا؟ وما علاقة محافظ جنين الذي يفتخر بأنه قد حول مدينة جنين من "مدينة إرهاب إلى المدينة الأكثر أمنا للإسرائيليين"؟ وهو الذي وقع على اتفاقية توأمة بين مدينة جنين ومستوطنات مرج بن عامر، وطير بالونات وحمام أبيض على حاجز الجلمة تعبيرا عن السلام المفقود التعايش خلال استقباله لوفد إسرائيلي. وما هي علاقة رئيس بلدية أريحا وغيره من أعضاء الوفد المرافق؟ بل ما هي علاقة رئيس بلدية سخنين بالشعر والشعراء؟ وهل هو المخول لمنح "مواطنة شرف" لأحد؟ وأخيرا أعضاء الكنيست العرب الذين وقفوا بالدور حيث ألقى كل واحد منهم خطابا بليغا لكن بلا روح وكأنه يقف على منصة الكنيست. آسف جدا، هذا ليس تكريما وطنيا بل هو نفاق وطني. وأعدها إهانة للشاعر المحتفى به نفسه وليس تكريما له حتى ولو لم يراها هو كذلك وهي أيضا إهانة للجمهور. وفي عرابة قبل أيام جرى تكريم آخر للشاعر ومرة أخرى بلغت المجاملات ذروتها. حيث شبه رئيس البلدية الشاعر بالقديس وهذا يعني أن كل نقد هو من باب الكفر والإلحاد، ناهيك عن الباقي من سياسيين وغيرهم. الخطابات كاملة موجودة بين صفحات الجرائد المحلية والمواقع في الشبكة العنكبوتية لمن يهمه الأمر.
بالتزامن مع هذه التكريمات، جرت مراسيم الذكرى الأربعين لرحيل الشاعر سليم جبران في البقيعة. ومرة أخرى تحركت جوقة المداحين التي أهملت الشاعر في حياته وها هي تذكره بعد مماته. ولو أتيح للشاعر عن يعود للحياة لحظة ويستمع للخطابات لصاح مذهولا: هل هو أنا المقصود بكل هذا الكلام؟
طبعا، للموت حرمته، وليس من الشهامة بشيء التعرض لمن لا يستطيع أن يرد. ولكن أيضا ليس من الشهامة بشيء المجاملة إلى درجة النفاق. لم تجمعني بسالم جبران صداقة ولكن جمعتني معه نقاشات عديدة بعضها قديم جدا يعود إلى سنوات السبعين عندما كنا سويا تحت سقف جامعة حيفا وبعضها أحدث عهدا عندما عمل محررا في جريدة الأهالي في سخنين. وكنت أتعمد خلال نقاشنا إغاظته من باب العشم أولا ولاختلاف المواقف والآراء ثانيا وأقول له: لا افهم كيف يعدونك من شعراء المقاومة وأنت تدعو إلى التعايش السلمي مع دولة إسرائيل ومن خلال عملك وتصريحاتك في جفعات حبيبة. وأذكر أنه في إحدى مقالاته الأسبوعية كتب ما معناه: أن الوهم بتجاهل وجود دولة إسرائيل يقود إلى الكوارث وأن الوهم بأن يقوم حزب الله باقتلاع الكيان الصهيوني سوف يكلف شعوبنا دما ودمارا. وأذكر أيضا أني كتبت مقالا ردا على تصريحاته هذه وسلمته إياه طالبا أن ينشره في جريدة الأهالي حيث كنت اكتب من فترة لأخرى لكنه لم ينشر المقال بحجة إني انزع الشرعية عن دولة إسرائيل وإني لا اختلف عن الإسرائيليين الذين ينكرون شرعية فلسطين. ولكني أعترف بأنه كان إنسانا دمثا واسع الصدر يستمع لكافة الآراء.
حتى لا يصبح التكريم إهانة للمكرم نفسه وللجمهور ومن أجل بلوغ الغاية المرجوة من التكريم ينبغي نبذ المبالغة والنفاق والتقيد بضوابط الحقيقة والاحترام.
علي زبيدات – سخنين
مما لا شك فيه أن تكريم المبدعين من كتاب وشعراء ومثقفين وعمال وطلاب متفوقين وكل من قدم خدمة جليلة لبلده ولشعبه هو أمر إيجابي بل وضروري لكل مجتمع فكم بالأحرى لمجتمعنا الفلسطيني الممزق والمحاصر والرازح تحت نير الاحتلال. غني عن القول أن التكريم إيجابي وضروري للأحياء كما للأموات. ولكن، حسب رأيي يوجد هناك بعض المعايير التي يجب ألا تغيب عن نظر منظم التكريم وصاحب التكريم على حد سواء وإلا تحول إلى نقيضه، إلى إهانة، وأصبح نوعا من النفاق الاجتماعي و"الوطني". وحسب رأيي فإن مجتمعنا لا يولي التكريم أهمية كافية من جهة، فكم من مبدع طواه النسيان في حياته ومماته، ولكنه من جهة أخرى هو مجتمع يعشق المظاهر والمبالغة إلى حد الإدمان وإلى درجة تصل إلى حافة النفاق الاجتماعي والرياء والسياسي.
من المعروف أن شعبنا يحب الرموز ويبالغ في تكريمها. الغالبية عن حسن نية ولكن البعض لغاية سياسية كانت أم شخصية. أنا شخصيا أؤمن أن الشعوب ليست بحاجة إلى أية "رموز" لأن "الرموز" عادة تصبح فوق النقد، فتحجب الحقيقة وتشجع الإتكالية واللامبالاة. ولها مساوئ عديدة أخرى ليس هنا المجال لشرحها بالتفصيل. على كل حال، هذه "الرموز" المكرمة ليست بحاجة إلى شهادة مني أو من غيري ولا أقصد هنا أصلا إعطاء أية شهادة من أي نوع كان. كل ما هنالك هي قناعة شخصية، ربما تكون خاطئة، بأننا نقف أمام ظاهرة سلبية يجب مواجهتها، ويحق لشخص واحد على الأقل عنده جرأة كافية (أو وقاحة كافية) لكي يتكلم عنها ويحذر منها.
في الأسابيع الأخيرة فاضت وسائل الإعلام المحلية بتغطية حفلات تكريم عديدة بصورة مستفزة، لذلك لا أري ضيرا أن أواجه هذه التغطيات بشكل قد يستفز البعض.
لنأخذ مثلا الشاعر سميح القاسم الذي أحبه كشاعر وأكن له الاحترام كإنسان ولكني أختلف معه في الكثير من المواقف والآراء وهذا من حقي وحق كل واحد. في الآونة الأخيرة جرى تكريمه في عدة حفلات وفي عدة بلدان. لا أدري ما سر هذه الطفرة وفي هذا الوقت بالذات. في سخنين امتلأت القاعة بمحبي الشاعر الحقيقيين والذين لم ينبسوا ببنت شفة. ولكني لست متأكدا من أن كل من اعتلى المنصة وكال المدائح للشاعر بكل ما جادت به قريحته هو من محبيه. ولا أدري ما سر تعاون سلطة رام الله وبلدية سخنين ومؤسسة الأسوار في هذا الاحتفال. ماذا يعني وجود رئيس ديوان محمود عباس؟ ومن يقول أن له أو لرئيسه الحق في أن يمنح "وسام نجمة القدس" لأحد؟ ماذا فعلت هذه السلطة من أجل القدس أصلا؟ وما علاقة محافظ جنين الذي يفتخر بأنه قد حول مدينة جنين من "مدينة إرهاب إلى المدينة الأكثر أمنا للإسرائيليين"؟ وهو الذي وقع على اتفاقية توأمة بين مدينة جنين ومستوطنات مرج بن عامر، وطير بالونات وحمام أبيض على حاجز الجلمة تعبيرا عن السلام المفقود التعايش خلال استقباله لوفد إسرائيلي. وما هي علاقة رئيس بلدية أريحا وغيره من أعضاء الوفد المرافق؟ بل ما هي علاقة رئيس بلدية سخنين بالشعر والشعراء؟ وهل هو المخول لمنح "مواطنة شرف" لأحد؟ وأخيرا أعضاء الكنيست العرب الذين وقفوا بالدور حيث ألقى كل واحد منهم خطابا بليغا لكن بلا روح وكأنه يقف على منصة الكنيست. آسف جدا، هذا ليس تكريما وطنيا بل هو نفاق وطني. وأعدها إهانة للشاعر المحتفى به نفسه وليس تكريما له حتى ولو لم يراها هو كذلك وهي أيضا إهانة للجمهور. وفي عرابة قبل أيام جرى تكريم آخر للشاعر ومرة أخرى بلغت المجاملات ذروتها. حيث شبه رئيس البلدية الشاعر بالقديس وهذا يعني أن كل نقد هو من باب الكفر والإلحاد، ناهيك عن الباقي من سياسيين وغيرهم. الخطابات كاملة موجودة بين صفحات الجرائد المحلية والمواقع في الشبكة العنكبوتية لمن يهمه الأمر.
بالتزامن مع هذه التكريمات، جرت مراسيم الذكرى الأربعين لرحيل الشاعر سليم جبران في البقيعة. ومرة أخرى تحركت جوقة المداحين التي أهملت الشاعر في حياته وها هي تذكره بعد مماته. ولو أتيح للشاعر عن يعود للحياة لحظة ويستمع للخطابات لصاح مذهولا: هل هو أنا المقصود بكل هذا الكلام؟
طبعا، للموت حرمته، وليس من الشهامة بشيء التعرض لمن لا يستطيع أن يرد. ولكن أيضا ليس من الشهامة بشيء المجاملة إلى درجة النفاق. لم تجمعني بسالم جبران صداقة ولكن جمعتني معه نقاشات عديدة بعضها قديم جدا يعود إلى سنوات السبعين عندما كنا سويا تحت سقف جامعة حيفا وبعضها أحدث عهدا عندما عمل محررا في جريدة الأهالي في سخنين. وكنت أتعمد خلال نقاشنا إغاظته من باب العشم أولا ولاختلاف المواقف والآراء ثانيا وأقول له: لا افهم كيف يعدونك من شعراء المقاومة وأنت تدعو إلى التعايش السلمي مع دولة إسرائيل ومن خلال عملك وتصريحاتك في جفعات حبيبة. وأذكر أنه في إحدى مقالاته الأسبوعية كتب ما معناه: أن الوهم بتجاهل وجود دولة إسرائيل يقود إلى الكوارث وأن الوهم بأن يقوم حزب الله باقتلاع الكيان الصهيوني سوف يكلف شعوبنا دما ودمارا. وأذكر أيضا أني كتبت مقالا ردا على تصريحاته هذه وسلمته إياه طالبا أن ينشره في جريدة الأهالي حيث كنت اكتب من فترة لأخرى لكنه لم ينشر المقال بحجة إني انزع الشرعية عن دولة إسرائيل وإني لا اختلف عن الإسرائيليين الذين ينكرون شرعية فلسطين. ولكني أعترف بأنه كان إنسانا دمثا واسع الصدر يستمع لكافة الآراء.
حتى لا يصبح التكريم إهانة للمكرم نفسه وللجمهور ومن أجل بلوغ الغاية المرجوة من التكريم ينبغي نبذ المبالغة والنفاق والتقيد بضوابط الحقيقة والاحترام.
No comments:
Post a Comment