ثورات محدودة الضمان
علي زبيدات – سخنين
لا أدري من أول من روج لفصل الربيع باعتباره أجمل فصول السنة حتى أصبحت أوصافه تستعار للتعبير عما هو مشرق وجميل في حياة الانسان. قد يكون شاعرا أو حالما أو عالما طبيعيا أو مجرد محب للطبيعة. ولا أريد هنا أن أناقش صحة أو عدم صحة هذه النظرة العامة السائدة. ولكن بما أن الربيع أصبح سيد الموقف بلا منازع وبما أننا، نحن الشعوب العربية قد دخلنا هذا الربيع من أوسع أبوابه وأصبح تعبير: "ربيع الشعوب العربية" سائرا على كل لسان يتداوله الجميع بصورة رصينة ومتفائلة تارة وبصورة مبتذلة تارة أخرى، كان لا بد من التوقف أمام صفتين على غاية الأهمية يبدو أنهما غابتا عن عيون عشاق الربيع على مختلف أصنافهم.
الصفة الأولى: هي أن الربيع كباقي الفصول محدود زمنيا، قصير وعابر.
الصفة الثانية: هي أن الربيع حسب موقعه الجغرافي والمجازي ( السياسي والاجتماعي) لا يتسم دوما بالطقس المعتدل، الدافئ، الصافي بل قد تشوبه التقلبات المناخية من غيوم وعواصف وفيضانات التي قد تحوله إلى نقيضه.
لنأخذ مثلا ربيع الشعوب كما وصفه السياسيون والمؤرخون والمثقفون بشكل عام للأحداث التي اجتاحت أوروبا في عام 1848. فهذا الربيع الذي هبت رياحه من فرنسا حيث أسقطت الملكية ومن ثم انتشرت في بلدان أوروبية عديدة فأسقطت رمز الرجعية الأوروبية ممثلة بشخص رجل الدولة النمساوي مترنيخ وغيره، هذا الربيع كان قصيرا للغاية. فبعد فترة قصيرة عادت الأنظمة الرجعية والمحافظة إلى سابق عهدها وبسطت سلطتها بشكل أعتى واشد ظلما من السابق خصوصا في البلدان التي اضطرت بها إلى تقديم بعض التنازلات من أجل الحفاظ على أنظمتها وبدأت بمسيرة من التنكيل والانتقام. ولم تكن هذه الفترة قصيرة وعابرة فحسب بل تخللتها الحروب الدامية وتنامي النزعات القومية والعنصرية وأسست لفترة طويلة من النزاعات التي قادت إلى حربين عالميتين ولم تنته بعد.
"الربيع العربي" لا يشذ عن هذه القاعدة ولم يتخلص من هاتين الصفتين القاتلتين. كان هذا الربيع صافيا بعض الشيء في تونس ومصر وكانت المشاركة الجماهيرية تبعث الدفء في أوصالنا جميعا. إلا أن هذا الربيع جاء مكفهرا وقاتما في ليبيا واليمن وسوريا والبحرين. التدخل الامبريالي المباشر في ليبيا بتواطؤ ومشاركة عربية زاد سماء ليبيا تلويثا واكفهرارا وكأن النظام الاستبدادي لوحده لا يكفي. هل كان تدمير مدينة سرت بواسطة طيارات حلف الناتو عملا ربيعيا جميلا حالما بينما كان قصف كتائب النظام لمصراطة عملا خريفيا همجيا؟ وهل قتل القذافي بعد أن قبض عليه حيا بهذه الطريقة البشعة هو عمل ربيعي شرعي اجتاز بنجاح فتوى"علماء" المسلمين يختلف عن القتل الذي مارسه النظام؟
لقد قلتها في الماضي وها أنا أكررها حاليا: إن المعارضة في أي بلد عربي ليست نقيضا للنظام بل هي امتدادا مكملة له حتى عندما تصبح بديلا له. بشكل عام، المعارضة في العالم العربي إما أنها كانت جزءا من النظام وانشقت عنه لخلافات فئوية على السلطة وإما أنها صورة طبق الأصل للنظام التي تسعى إلى تغييره. النقيض للنظام هو الشعب ولكن المأساة هي أن هذا الشعب ممزق بين النظام والمعارضة. على الجماهير الشعبية إذا أرادت أن تنتزع حريتها أن تضع النظام والمعارضة في سلة واحدة وتلقي بهما في مزبلة التاريخ.
لقد مر على العالم العربي 500 عاما من الركود السياسي والاقتصادي والفكري وكافة المجالات الأخرى والمستويات وعندما بدأ أخيرا يتحرك جاءت خطواته ثقيلة وبطيئة وبدا مترنحا بين الماضي والحاضر وسمح لكل قوة أجنبية أن تمد يدها تعيث فسادا وتعبث في نهضتها. والحالة هذه لم يكن غريبا أو مستهجنا أن يكون التغيير بطيئا وسطحيا حتى في الأماكن التي انتصرت بها الثورة بفضل تحرك جماهيري غير مسبوق كما في تونس ومصر. الانتقال من الثورة إلى الدولة في هذين البلدين جاء سريعا جدا. واليوم يتضح أكثر فأكثر أن الدولة الجديدة تحمل كل جينات الدولة القديمة. الأحزاب السياسية التي كانت تختبئ وراء الجدار أثناء الثورة وتقف بالمرصاد تتحين فرصتها نراها الآن تنقض على انجازات الثورة المتواضعة أصلا وتتسلق عليها لتصل إلى دفة السلطة.
يبدو الوضع في فلسطين أكثر سوأ. نلهث وراء الانتصارات الوهمية في الأمم المتحدة ومؤسساتها. فبعد غزوة استحقاق أيلول الناجحة - الفاشلة نكاد نشق ملابسنا فرحا في غزوة اليونسكو التي تلتها، وها نحن نعد ما استطعنا من عدة لخوض غزوات أخرى من هذا النوع.
أنا بصراحة لست من عشاق الربيع، عربيا كان أم أجنبيا. لا أستطيع أن أتمتع بربيع شمسه أمريكا وقمره إسرائيل ونجومه حلف الناتو ومصابيحه ملوك وأمراء وشيوخ النفط العربي. ليوم خريفي عاصف يكنس القاذورات المتراكمة منذ قرون في وطننا أفضل من مائة ربيع. وليوم شتوي هائج يجرف تخلفنا الحضاري من غير رحمة أو شفقة لهو الآخر أفضل من مائة ربيع. وليوم صيفي قائظ يبيد الطفيليات العالقة بشعوبنا لهو الآخر أفضل من مائة ربيع.
علي زبيدات – سخنين
لا أدري من أول من روج لفصل الربيع باعتباره أجمل فصول السنة حتى أصبحت أوصافه تستعار للتعبير عما هو مشرق وجميل في حياة الانسان. قد يكون شاعرا أو حالما أو عالما طبيعيا أو مجرد محب للطبيعة. ولا أريد هنا أن أناقش صحة أو عدم صحة هذه النظرة العامة السائدة. ولكن بما أن الربيع أصبح سيد الموقف بلا منازع وبما أننا، نحن الشعوب العربية قد دخلنا هذا الربيع من أوسع أبوابه وأصبح تعبير: "ربيع الشعوب العربية" سائرا على كل لسان يتداوله الجميع بصورة رصينة ومتفائلة تارة وبصورة مبتذلة تارة أخرى، كان لا بد من التوقف أمام صفتين على غاية الأهمية يبدو أنهما غابتا عن عيون عشاق الربيع على مختلف أصنافهم.
الصفة الأولى: هي أن الربيع كباقي الفصول محدود زمنيا، قصير وعابر.
الصفة الثانية: هي أن الربيع حسب موقعه الجغرافي والمجازي ( السياسي والاجتماعي) لا يتسم دوما بالطقس المعتدل، الدافئ، الصافي بل قد تشوبه التقلبات المناخية من غيوم وعواصف وفيضانات التي قد تحوله إلى نقيضه.
لنأخذ مثلا ربيع الشعوب كما وصفه السياسيون والمؤرخون والمثقفون بشكل عام للأحداث التي اجتاحت أوروبا في عام 1848. فهذا الربيع الذي هبت رياحه من فرنسا حيث أسقطت الملكية ومن ثم انتشرت في بلدان أوروبية عديدة فأسقطت رمز الرجعية الأوروبية ممثلة بشخص رجل الدولة النمساوي مترنيخ وغيره، هذا الربيع كان قصيرا للغاية. فبعد فترة قصيرة عادت الأنظمة الرجعية والمحافظة إلى سابق عهدها وبسطت سلطتها بشكل أعتى واشد ظلما من السابق خصوصا في البلدان التي اضطرت بها إلى تقديم بعض التنازلات من أجل الحفاظ على أنظمتها وبدأت بمسيرة من التنكيل والانتقام. ولم تكن هذه الفترة قصيرة وعابرة فحسب بل تخللتها الحروب الدامية وتنامي النزعات القومية والعنصرية وأسست لفترة طويلة من النزاعات التي قادت إلى حربين عالميتين ولم تنته بعد.
"الربيع العربي" لا يشذ عن هذه القاعدة ولم يتخلص من هاتين الصفتين القاتلتين. كان هذا الربيع صافيا بعض الشيء في تونس ومصر وكانت المشاركة الجماهيرية تبعث الدفء في أوصالنا جميعا. إلا أن هذا الربيع جاء مكفهرا وقاتما في ليبيا واليمن وسوريا والبحرين. التدخل الامبريالي المباشر في ليبيا بتواطؤ ومشاركة عربية زاد سماء ليبيا تلويثا واكفهرارا وكأن النظام الاستبدادي لوحده لا يكفي. هل كان تدمير مدينة سرت بواسطة طيارات حلف الناتو عملا ربيعيا جميلا حالما بينما كان قصف كتائب النظام لمصراطة عملا خريفيا همجيا؟ وهل قتل القذافي بعد أن قبض عليه حيا بهذه الطريقة البشعة هو عمل ربيعي شرعي اجتاز بنجاح فتوى"علماء" المسلمين يختلف عن القتل الذي مارسه النظام؟
لقد قلتها في الماضي وها أنا أكررها حاليا: إن المعارضة في أي بلد عربي ليست نقيضا للنظام بل هي امتدادا مكملة له حتى عندما تصبح بديلا له. بشكل عام، المعارضة في العالم العربي إما أنها كانت جزءا من النظام وانشقت عنه لخلافات فئوية على السلطة وإما أنها صورة طبق الأصل للنظام التي تسعى إلى تغييره. النقيض للنظام هو الشعب ولكن المأساة هي أن هذا الشعب ممزق بين النظام والمعارضة. على الجماهير الشعبية إذا أرادت أن تنتزع حريتها أن تضع النظام والمعارضة في سلة واحدة وتلقي بهما في مزبلة التاريخ.
لقد مر على العالم العربي 500 عاما من الركود السياسي والاقتصادي والفكري وكافة المجالات الأخرى والمستويات وعندما بدأ أخيرا يتحرك جاءت خطواته ثقيلة وبطيئة وبدا مترنحا بين الماضي والحاضر وسمح لكل قوة أجنبية أن تمد يدها تعيث فسادا وتعبث في نهضتها. والحالة هذه لم يكن غريبا أو مستهجنا أن يكون التغيير بطيئا وسطحيا حتى في الأماكن التي انتصرت بها الثورة بفضل تحرك جماهيري غير مسبوق كما في تونس ومصر. الانتقال من الثورة إلى الدولة في هذين البلدين جاء سريعا جدا. واليوم يتضح أكثر فأكثر أن الدولة الجديدة تحمل كل جينات الدولة القديمة. الأحزاب السياسية التي كانت تختبئ وراء الجدار أثناء الثورة وتقف بالمرصاد تتحين فرصتها نراها الآن تنقض على انجازات الثورة المتواضعة أصلا وتتسلق عليها لتصل إلى دفة السلطة.
يبدو الوضع في فلسطين أكثر سوأ. نلهث وراء الانتصارات الوهمية في الأمم المتحدة ومؤسساتها. فبعد غزوة استحقاق أيلول الناجحة - الفاشلة نكاد نشق ملابسنا فرحا في غزوة اليونسكو التي تلتها، وها نحن نعد ما استطعنا من عدة لخوض غزوات أخرى من هذا النوع.
أنا بصراحة لست من عشاق الربيع، عربيا كان أم أجنبيا. لا أستطيع أن أتمتع بربيع شمسه أمريكا وقمره إسرائيل ونجومه حلف الناتو ومصابيحه ملوك وأمراء وشيوخ النفط العربي. ليوم خريفي عاصف يكنس القاذورات المتراكمة منذ قرون في وطننا أفضل من مائة ربيع. وليوم شتوي هائج يجرف تخلفنا الحضاري من غير رحمة أو شفقة لهو الآخر أفضل من مائة ربيع. وليوم صيفي قائظ يبيد الطفيليات العالقة بشعوبنا لهو الآخر أفضل من مائة ربيع.
No comments:
Post a Comment