وأخيرا أسدل الستار على مسرحية جلعاد شاليط
علي زبيدات – سخنين
التاريخ لا يتطور حسب أمنيات وتطلعات أي شخص مهما كان موقعه أو دوره. والتاريخ لا يصنع في ظروف تؤدي دائما إلى النجاح أو الانتصار. وأخيرا وليس آخرا وللأسف الشديد لا يتطور التاريخ حسب القيم الأخلاقية ومعايير العدالة والكرامة الإنسانية. ولكن هذا لا يعني أن الأمنيات والتطلعات خصوصا من قبل الشعوب المظلومة لا تلعب دورا حاسما في تطور التاريخ، ولا تنفي أن يصبو الجميع إلى النجاح والانتصار، ولا يقلل من أهمية القيم الأخلاقية مهما غابت عن الأنظار ومهما تم تشويهها.
هذا الأسبوع أسدل الستار على الفصل الأخير من مسرحية غلعاد شاليط وسط تصفيق الجمهور من جميع الأطراف. هذه المسرحية التي تنتمي إلى مسرح اللامعقول شغلتنا وشغلت العالم في السنوات الخمس الأخيرة حتى وصلت ذروتها هذا الأسبوع.
في الجانب الفلسطيني يوجد من يرفض أصلا اللجوء إلى خطف الجنود الاسرائيليين كوسيلة لتحرير الأسرى . ويعتبر عمليات الخطف عمليات إرهابية بحتة أو في أحسن الحالات عمليات عبثية تلحق الأضرار بالقضية الوطنية وتعرقل ما يسمى بالعملية السلمية ونهج المفاوضات. هذا لا يمنع، في حالة نجاح عملية خطف وتبادل، أن نراه يزاحم من أجل الحصول على بعض الانجازات. بالمقابل يوجد هناك من يؤمن بأن عملية خطف الجنود هي الوسيلة الوحيدة لإطلاق سراح الأسرى ولكن عند نجاح إحدى هذه العمليات نراه يعبر عن سخطه وخيبة أمله لأنها لم تحقق مآربه الخاصة.
في الجانب الإسرائيلي، وبالرغم من انعكاس الأدوار لا يختلف الأمر كثيرا: فمنهم من يؤيد عملية التبادل على اعتبار أن واجب الدولة التي ترسل جنودها للجبهة أن تعيدهم مهما كان الثمن، ومنهم من يرفض ذلك جملة وتفصيلا لأن ذلك يعتبر خضوعا للإرهاب على حد تعبيرهم وتشجيعا له.
في هذه العجالة، كفلسطيني منحاز كليا للقضية الوطنية الفلسطينية بكافة جوانبها، أريد أن ألقي الضوء على بعض الجوانب الخفية التي تتجاوز فرحة عائلات الأسرى بإطلاق سراح أبنائهم وتتجاوز خيبة أمل من بقي قابعا في سجون الاحتلال، ومن الجهة الأخرى تتجاوز فرحة عائلة شاليط والمجتمع الإسرائيلي بشكل عام بعودة الجندي المخطوف. قد تبدو هذه الجوانب للوهلة الأولى ليست ذات أهمية ومهملة بالرغم من الكم الهائل من التحليلات والتعليقات والانتقادات التي فاضت بها وسائل الإعلام الفلسطينية والعربية إلا أنها حسب رأيي ذات أهمية بالغة على تطور القضية الوطنية برمتها.
لقد نجحت دولة إسرائيل عن طريق إعلامها المتطور والمجند والمدعوم غربيا أن تستغل قضية الجندي المخطوف لقلب الموازين المقلوبة أصلا وتظهر للعالم على صورة الضحية البريئة التي تدافع عن نفسها. حتى أصبح اسم شاليط على كل لسان وتم تصويره كأنه حمل وديعا وليس جنديا تم اختطافه من قلب دبابته التي كانت تقصف المدنيين في غزة وفرد في جيش ارتكب جرائم حرب في حق مدنيين عزل. الأسوأ والأخطر من ذلك أنها نجحت بتحويل قضية الجندي المخطوف إلى وسيلة ناجعة لبلورة نوع من الانتماء الوطني الإسرائيلي مما ساهم في وقف عملية التفكك الذي يعاني منه المجتمع الإسرائيلي المصطنع. من خلال الدعاية المكثفة عن الدولة التي لا تترك جنودها في المعركة وأنه لا يوجد ثمن لإعادة جندي إلى بيته استطاعت دولة إسرائيل أن تنجز نجاحا وتقدما ملحوظا في صهر مركباتها المتنافرة بصورة تفوق جميع الأساطير التوراتية والصهيونية. لقد مر المواطن اليهودي الإسرائيلي خلال سنوات الاختطاف الخمسة وبشكل مكثف خلال الأسبوع الأخير بعملية مسح دماغ لم يسبق لها مثيل. تمم هذا الأمر بشكل واع ومدروس حيث تعرف السلطات الإسرائيلية حق المعرفة وتشعر بأن كيانها في مهب الرياح ومهدد بخطر الاندثار وأن التركيز على قضية الجندي وإعادته إلى البيت مهما كان الثمن يبقى ثمنا بخسا أمام إقناع الشباب اليهود بالبقاء مخلصين للدولة. يعاني الجيش الإسرائيلي في السنوات الأخيرة وباعتراف من قيادته العليا من ظاهرة تهرب وتملص هؤلاء الشباب من التجنيد. من هذا المنطلق عملت السلطات الإسرائيلية كل ما تستطيعه لجعل الجندي البسيط التافه المختطف أيقونة تقف الدولة بأسرها من ورائه كضمان لهم.
في المقابل فشل الإعلام الفلسطيني والعربي بإظهار الجانب الإنساني لآلاف الأسرى الذين ضحوا بحريتهم من أجل قضية عادلة. فبقوا مجرد أرقام. وقد انعكس ذلك بشكل مأساوي في الخطأ الذي تم بسببه استثناء بعض الأسيرات من عملية التبادل. فقد تم تصديق الرقم 27 بدون فحص أو تمحيص، ألا يوجد لهؤلاء الأسيرات أسماء كان من المفروض على المفاوض الفلسطيني معرفتها بحذافيرها؟
يجب ألا تصبح عملية اسر الجنود الإسرائيليين بهدف تبديلهم بالأسرى هدفا بحد ذاته يستحوذ على حركات المقاومة ويأتي على حساب النضال الواعي والهادف من أجل تحرير الأرض والإنسان. سمعت أحد الزملاء يقول: "خطف جندي واحد أسفر عن تحرير ألف أسير فيكفي أن يتم اختطاف 5 جنود لإفراغ السجون من الأسرى"، هذه العقلية الساذجة والمبسطة تستحوذ على معظمنا. إغلاق السجون الإسرائيلية بعد إفراغها من الأسرى لن يتم إلا بعد التحرير. وأخشى أن يكون الحلم بخطف الجنود وتبادل الأسرى تعبيرا عن العجز واليأس وليس وسيلة من وسائل النضال تخدم إستراتيجية التحرير وتكون خاضعة لها.
إسدال الستار على مسرحية شاليط يجب أن يكون حافزا ومؤشرا للعمل على إضعاف الكيان الصهيوني وليس على تقويته وفي الوقت نفسه حافزا لتنقية النضال الثوري الفلسطيني من الشوائب التي علقت به.
No comments:
Post a Comment