في إطار النقاش الذي أثاره ودعا اليه مؤتمر حيفا: "من أجل العودة والدولة الديموقراطية العلمانية في فلسطين" الذي بادرت له حركة أبناء البلد، كنت قد نشرت مقالين تناولا بشكل نقدي الاطروحات المنشورة في الموقع الرسمي للمؤتمر وكذلك الكم الهائل حول هذا الموضوع في العديد من المواقع الاخرى. وقد اثار هذين المقالين استياء بعض الرفاق من المبادرين والقيمين على المؤتمر مدعين بأنني أوزع الاتهامات وأصدر الاحكام جزافا وألجأ الى التعميم وغير مطلع على كل ما كتب ونشر في هذا الموضوع.
لكي لا يتحول الحوار الى جدل بيزنطي لا طائل منه، يدور في فراغ ولا يستمع به أحد للآخر لذلك فضلت عدم الرد على كافة ردود الفعل هذه وبالمقابل الاكتفاء بتأكيد النقاط التي أراها اساسية في هذا الموضوع وتوضيح بعض الالتباسات في طرحها السابق.
لقد قلت أن المنادين بحل الدولة الواحدة، او الدولة الديموقراطية العلمانية يشكلون "خليطا غريبا" وبالرغم من الاختلاف فيما بينهم فثمة خطوط عامة مشتركة تربطهم جميعا. وأحد الخطوط العامة هذه والتي تناولتها بالنقد هو: " تغييب الطابع الكولونيالي للكيان الصهيوني وبالتالي تغييب الطابع التحرري للنضال ضد هذا الكيان".
مما لا شك فيه أن كل تعميم هو خاطئ أو على الاقل صحته نسبية، ولكن في بعض الاحيان، وفي سياق النقاش العام لا بد منه. فمثلا الرفيق سلامة كيلة، رئيس تحرير موقع أجراس، يقول انه هو والعديد من المنادين بالدولة الديموقراطية العلمانية، ليس فقط انهم لا يغيبون الطابع الكولونيالي لدولة اسرائيل بل على العكس فإنهم حريصون على تأكيده، وبالتالي يرون بشعار الدولة الديموقراطية العلمانية شعارا تحرريا.
حسنا جدا، كما يقول المثل، الطريق الى جهنم مليء بالنوايا الحسنة. الطابع الكولونيالي للكيان الصهيوني حقيقة تاريخية وسياسية. ولا يتغير شيء على هذه الحقيقة اذا اعترف بها البعض وانكرها البعض الآخر. المهم هو كيف نتعامل مع هذه الحقيقة. انا أدعي أن البعض يتعامل مع هذا الكيان كدولة عادية هذا بالرغم من معرفته بطابع هذا الكيان الكولونيالي العنصري. وهنا يدخل العديد منا في تناقض داخلي: كيف يمكن رفض هذا الكيان وقبوله بشكل ما في آن واحد؟ لنأخذ مثلا موقف الجبهة الشعبية لتحرير فلسطين، وهو الفصيل الاكثر جذرية في طرحه لشعار الدولة الديموقراطية العلمانية. هذا الموقف يؤكد على الطبيعة الكولونيالية للكيان الصهيوني وعلى ضرورة إنهائه من جهة، ولكنه يتشبث بما يسمى ب"الشرعية الدولية" من جهة أخرى. هذه "الشرعية" التي منحت الكيان الصهيوني "شرعيته". ألا يوجد تناقض داخلي في هذا الموقف؟
على كل حال وإختصارا للنقاش، كل ما اردت أن اقوله ببساطة: ما دامت فلسطين ترزح تحت نير الاحتلال الاستيطاني الصهيوني فالمطروح في هذه الحقبة من التاريخ هو التحرير، المطروح هو الثورة لا الدولة. هذا التحول الخطير في الاستراتيجية الفلسطينية بدأ في الدورة الثانية عشرة من المجلس الوطني الفلسطيني عام 1974 وتبني ما يسمى "البرنامج المرحلي" والذي اصبح اليوم برنامجا دائما. المفروض طرح قضايا الثورة للنقاش: هل ينبغي أن تكون ثورة وطنية ديموقراطية أم ثورة إشتراكية، ام ثورة اسلامية؟ ما هو البرنامج السياسي لهذه الثورة ومن هي القيادة التي تضمن إنتصارها؟ الخ. وليس المطروح حاليا الدولة، واحدة كانت او إثنتان أو أكثر، علمانية او غير علمانية، ثنائية القومية أو متعددة القوميات أولاقومية، إسراطين القذافي أو دولة جميع مواطنيها لعزمي بشارة.
بالطبع لا يمكن الفصل نهائيا بين مفهومي الدولة والثورة. وينبغي فهم العلاقة الديالكتيكية بين المفهومين. فكل ثورة لها تصورها عن الدولة التي تسعى لتحقيقها. المقصود هنا هو ترتيب الأولويات. لن أفضح سرا اذا قلت أن مفهوم "الثورة الفلسطينية" لم يعد أكثر من شعار فارغ يردده بعض الخطباء الديماغوغيين عندما ينهون خطاباتهم: "وانها لثورة حتى النصر".
من هذا المنطلق أكرر أن طرح "الدولة الفلسطينية" على كافة اشكالها يغيب طرح الثورة والتحرير. ولا استطيع استثناء طرح "الدولة الديموقراطية العلمانية" من هذا السياق. هذا الشعار أصبح قناعا يختبئ وراءه العديد من الانتهازيين. فثمة مفاوض فلسطيني فاشل يهدد إسرائيل بأنها اذا لم تسرع بإقامة الدولة الفلسطينية الى جانبها فأنه سوف يطالب بدولة واحدة. وآخر يقول: فقط في إطار الدولة الواحدة تستطيع الكتل الاستيطانية الصهيونية في الضفة الغربية أن تبقى مكانها بينما حل الدولتين يحتم تفكيكها. هذه القضية تلتبس على الرفيق سلامة كيلة في رده المذكور عندما يقول: اليهود المستوطنون، نطردهم ام نقبل بهم؟ ويجيب قائلا: الحل الديموقراطي يقوم على قبول من تبقى منهم.
اليهود كمستوطنين لا حق لهم في العيش في أي مكان في فلسطين او خارج فلسطين. فقط بعد القضاء على الطبيعة الكولونيالية لتواجدهم ونزع صفة الاستيطان عنهم وبعد أن يصبحوا مواطنين عاديين كغيرهم يمكن القبول بهم. فالقضية لا تكمن في كونهم يهودا أم لا بل في كونهم مستوطنين أم لا.
القضية الاخرى التي يتحاشى المؤتمر، حسب رأيي، الخوض بها هي قضية القومية العربية والوحدة العربية بما يتجاوز الشعارات الروتينية. وهذا المكان أضيق من تناول هذه القضية بإسهاب وآمل أن تجد متسعا في ورشات عمل المؤتمر.
لكي يصبح شعار"الدولة الديموقراطية العلمانية" شعارا نضاليا وليس تصفويا يجب أن يناقش كل هذه القضايا بجرأة ويحدد موقفا واضحا منها.
No comments:
Post a Comment