Wednesday, June 11, 2008

عودة الى شعار: الدولة الديمقراطية العلمانية

20-عودة الى شعار: الدولة الديموقراطية العلمانية
بمناسبة مؤتمر حيفا 21 /6/2008

في الاسبوع القادم سوف يعقد في حيفا وبمبادرة حركة ابناء البلد ومشاركة جهات أخرى مؤتمر:" حول حق العودة والدولة الديموقراطية العلمانية في فلسطين". كنت قد كتبت مقالة نقدية عن هذ المؤتمر تناولت فيها الشعار الذي اصبح موضة رائجة في صالونات بعض الاكاديميين والناشطين، بعنوان: "الدولة الديموقراطية العلمانية- برنامج نضالي أم شكل جديد لتسوية تصفوية" وقد توصلت الى نتيجة انها تسوية تصفوية أكثر من كونها برنامج نضالي. وقد سردت الاسباب التي حسب رأيي تؤكد هذا الاستنتاج. غير أن مقالة صحفية قصيرة لم تكن كافية لتناول كافة جوانب شعار "الدولة الديموقراطية العلمانية" وقد وعدت بالعودة لهذا الموضوع قبل انعقاد المؤتمر لتوضيح بعد النقاط التي غابت عن المقال الاول.
لمن فاته قراءة المقال الاول قلت هناك بإختصار أن المنادين بالدولة الديموقراطية العلمانية يشكلون خليطا غريبا من الناحية الفكرية والسياسية فمنهم من يتكلم عن دولة "ثنائية القومية" ومنهم من يتكلم عن "دولة لجميع مواطنيها" ومنهم من يتكلم عن دولة واحدة في فلسطين التاريخية من خلال القفز عن الواقع الذي فرضه الكيان الصهيوني في فلسطين على مدى 60 سنة من الاحتلال. وزعمت أن جميع المنادين بهذا الحل بالرغم من خلافاتهم الظاهرية يتفقون على تغييب طبيعة التحرير الثوري للنضال ضد الكولونيالية لصهيونية الحاكمة.
في هذه المقالة أود العودة الى المصطلحات الثلاثة التي يتكون منها هذا الشعار: دولة – ديموقراطية – علمانية محاولا إعادة تعريفها خصوصا واننا نستعملها بطريقة خاطئة وإما بطريقة مغرضة كل حسب نواياه وإما بدون وعي لما تعنيه هذه المصطلحات. وفي جميع الحالات النتيجة واحدة: بلبلة وعدم وضوح في الرؤيا وبالتالي الانزلاق الى متاهات الانتهازية والتفريط.
الدولة:
من افلاطون وارسطو مرورا بالفارابي وابن خلدون وجان جاك روسو وهوبس ولوك الى ماركس وانجلز ولينين وباقي الفلاسفة الاجتماعيين والسياسيين تنوعت تعريفات الدولة وإختلفت فيما بينها إختلافا كبيرا. ليس هنا المكان الملائم للخوض في هذه التعريفات وفي هذه الخلافات. ولكن بما أن حركة ابناء البلد، وأنا ايضا، نتبنى التعريف الماركسي – اللينيني للدولة بالرغم من كافة التحريفات التي طالت هذا التعريف من الذين يتبنون الماركسية اللينينية انفسهم ومن غيرهم ومن كافة أشكال سوء الفهم له فلا غرابة أن ننطلق من هذا المفهوم.
المفهوم الماركسي للدولة الذي يرتكز على الفهم المادي لتطور التاريخ البشري يقول بإختصار: بما أن المجتمع البشري هو مجتمع طبقي في جوهره ويتطور من خلال الصراع الطبقي فالدولة هي هيئة، جهاز للسيادة الطبقية، هي نتاج المجتمع عند وصوله الى درجة من تطوره وتورطه في تناقض مع ذاته لا يمكنه حله. أي أن الدولة هي اداة للسيطرة والقمع في ايدي الطبقة او الطبقات السائدة وليست "عقد" أو "اتفاق" طوعي بين مركبات المجتمع لترتيب الامور الحياتية كما يروج علم الاجتماع البرجوازي. الدولة هي جهاز قمعي متكامل يمتلك الجيش المحترف والشرطة والسجون والبيروقراطية الادارية والسياسية ولكنه ايضا لكي يقوم بمهمته على افضل وجه يقوم بإفراز ايديولوجية سلطوية سائدة وقمع للايديولوجيات المناوئة، ومن اجل ذلك يقف ظاهريا فوق المجتمع وكأنه منفصل عنه هدفه تلطيف الصدام بين الطبقات المتناقضة في إطار المحافظة على النظام. هذه الخاصية تخدع العديد من الجماهير المسحوقة التي تتوهم أن الدولة هي لجميع المواطنين على قدم المساواة وليس للطقات السائدة. في هذا العصر وصلت الدولة الى ذروة تطورها إلا أن جوهرها لم يتغير. فهي ما زالت جهازا للقمع في يد الطبقة البرجوازية المسيطرة في معظم بلدان العالم.
التغيير الاجتماعي الثوري في بلد ما يحتم القضاء على جهاز الدولة التي أنشأته الطبقة السائدة. حتى الآن كانت الطبقات الثائرة تحافظ على هذا الجهاز في اعقاب الاستيلاء على الحكم أو تستعيض عنه بجهاز مشابه سرعان ما يتحول هو الاخر الى أداة سيطرة وقمع. ومن هنا جاءت الفكرة الماركسية التي تقول: أن القضاء على المجتمع الطبقي سوف يؤدي بالضروة الى الغاء الدولة. في هذه النقطة بالذات، مبدأ الغاء الدولة كدولة، تلتقي الماركسية مع الفوضوية. الخلاف فيما بينهما تمركز حول نقطتين اساسيتين: الاولى، من هي الجهة المهيئة تاريخيا بالقيام بهذه المهمة؟ الماركسية قالت البروليتاريا الثورية هي الطبقة الوحيدة القادرة على ذلك، بينما أنكرت الفوضوية ذلك وركزت على العمل الفردي. النقطة الثانية: رأى ماركس أن القضاء على المجتمع الطبقي ومن ثم الغاء الدولة لن يتم مباشرة بل سوف تكون هناك فترة إنتقالية يكون شكل الحكم فيها "ديكتاتورية البروليتاريا الثورية" بينما طالب الفوضويون إلغاء الدولة مباشرة. وقد شن ماركس هجوما عنيفا على الفوضويين وخصوصا أتباع لاسال الاشتراكي الذي نادى برفع شعار "الدولة الحرة" لأن هذا المصطلح يحتوي على تناقض داخلي، فالدولة في طبيعتها لا يمكن أن تكون حرة.
مهما كانت النظرية جميلة ومنطقية وخلاقة الا أنه فقط من خلال الممارسة العملية ممكن ان تثبت صحتها او عدمها. ليس سرا أن تطور المجتمع البشري في القرنين الاخيرين، وعلى ضوء الثورات العديدة منذ الثورة الفرنسية الكبرى مرورا بكومونة باريس وثورة اكتوبر في روسيا وحتى الثورات في الصين وكوبا وفيتنام وغيرها من البلدان قد أبرزت فجوة ساحقة بين النظرية والممارسة. مما يحتم إعادة النظر في النظرية وفي الممارسة على حد سواء.
لنعود الى حالتنا هنا، ولنطرح السؤال التالي: ما هي طبيعة "الدولة الديموقراطية العلمانية" التي نتكلم عنها؟ هل هي دولة طبقية؟ وما هي الطبقة او الطبقات السائدة؟ هل ستكون شكلا من "ديكتاتورية البروليتارية الثورية"؟ اذا كان الامر كذلك فلماذا لا نسمي الاشياء باسمائها؟ وهل هذه الدولة تعني القضاء على جهاز سلطة الدولة الذي أنشأته الحركة الصهيونية والتي تسمى اسرائيل؟ أم الحفاظ عليه بعد ترميمه وتحويله سلميا الى هيئة لسيادة الطبقية الجديدة؟ مما لا شك فيه أن معظم الذين ينادون بالدولة الديموقراطية العلمانية الآن يتبنون المفهوم البرجوازي الليبرالي للدولة خصوصا عندما يقرنونها بالدموقراطية.
أنا شخصيا أتبنى الفكرة التي تقول أن الدولة، كل دولة، هي جهاز للقمع يجب مبدئيا القضاء عليه. وإذا كان لا بد من "دولة" جديدة من أجل القضاء على الدولة البائدة، فلا بد أن تكون هذه الدولة "ديكتاتورية ثورية" في أيدي البروليتاريا والطبقات المسحوقة بشرط ألا تكتفي بالقضاء على الدولة البائدة بل تعمل في الوقت نفسه على الغاء نفسها ايضا.

الديموقراطية:
لعل هذا المصطلح من أكثر المصطلحات الذي نال نصيبه من حيث التحريف والتشويه والترويج حتى اصبح أكبر كذبة في العصر الحديث. فقد أحتلت بريطانيا معظم العالم ونهبته تحت شعار الديموقراطية. وقامت الولايات المتحدة الامريكية بشن الحروب البشعة في كوريا وفيتنام وافغانستان والعراق وغيرها بحجة نشر الديموقراطية أو الدفاع عنها. بينما تمارس اسرائيل جرائمها ضد الشعب الفلسطيني وضد الانسانية متلفعة بقناع الديموقراطية.
لنعود قليلا الى الجذور. هذه الكلمة اليونانية الاصل تعني حرفيا حكم الشعب. وهذا يقودنا الى مصطلحين جديدين تعريفهما بحد ذاته يشكل قضية فلسفية من الدرجة الاولى. ما هو الحكم؟ ومتى يكون الحكم ضروريا وعادلا؟ وما هو تعريف الشعب؟ حسب رأيي يحتوي المصطلح نفسه تناقضا مستعصيا. هل يستطيع الشعب أن يحكم؟ ويحكم من؟ هل يحكم غيره أم يحكم نفسه؟ فأذا كان الاول هو الجواب الصحيح (يحكم غيره) فكيف يكون ديموقراطيا؟ واذا كان الثاني (يحكم نفسه) هو الجواب الصحيح، فما هي ضرورة لذلك؟ تعريف الشعب عند اليونان كان يستثني النساء وهم نصف الشعب. وكان يستثني العبيد وهم أكثر من ضعف الشعب. أثينا القديمة التي تعتبر منبع الديموقراطية لم تكتف بإقصاء النساء والعبيد عن الحكم بل قامت أيضا بشن الغارات والحروب على جيرانها واحتلت بلدانهم. ولا ننسى أن هذه الديموقراطية اعدمت اول شهيد سياسي الا وهو الفيلسوف سقراط. إذن، "الديموقراطية" هي شكل من أشكل الحكم وقد يدعي البعض انها بالرغم من جميع مساوئها هي أفضل شكل. ولكن من يرفض الحكم أصلا لا يستطيع أن يقبل شكل من أشكاله. الديموقراطية في شكلها الحديث، البرجوازي الليبرالي، هي من أسوأ اشكال الحكم. وكما وصفها ماركس: الديموقراطية البرجوازية هي أن تمنح المسحوقين الحرية كل بضع سنوات أن يختاروا من يسحقهم ويستغلهم.
هل يوجد هناك ثمة ديموقراطية أخرى غير الديموقراطية البرجوازية؟ يجيب اليساريون العرب: نعم هناك الديموقراطية الشعبية. وعندما تسألهم: أين توجد هذه الديموقراطية؟ يبحثون عنها في اروقة الكي جي بي والستازي. علينا أن نتحرر من سحر هذه الكلمة المخادعة ونكف حتى عن استعمالها. أنا شخصيا أقترح استعمال كلمة "التحررية" في كل مكان تظهر به كلمة "الديموقراطية".
التحررية تعني اللاسلطة، تعني اللاحكم. تمزج بشكل خلاق بين الحرية الفردية والادارة الجماعية للمجتمع القائمة على الوعي الثوري ونبذ الاستعباد والاستغلال مهما كان شكله.
ماذا يقصد رفاقنا عندما يطالبون بدولة ديموقراطية؟ انتخابات للكنيست الصهيوني مرة كل 4 أعوام؟ لكي تقوم هذه بسن القوانين العنصرية "ديموقراطيا" لقمعنا؟ أم إحتلالنا إحتلالا متنورا يحصد أجسادنا بالاسلحة الحديثة؟ إذا كانت الولايات المتحدة وبريطانيا واسرائيل هي النموذج الارقى للديموقراطية، فأقول لهذه الديموقراطية: لا شكرا فأنا لا ديموقراطي.

العلمانية:
هذا المصطلح هو الآخر نال نصيبه من الاختلاف والتشويه والتزوير. وأنا هنا لست بصدد تعريف جديد لهذا المصطلح. تعدد التعريفات في هذه الحالة ليس بالضرورة سلبيا بل على العكس من ذلك تماما إذ يغني محتواه ومضمونه. العلمانية تعني من ضمن ما تعنيه فصل الدين عن الدولة في السياسة. ولكنها تعني في الوقت نفسه حرية المعتقدات والتدين. يستطيع كل إنسان أن يكون متدينا بالطريقة التي تقنعه في حياته الخاصة وأن يكون علمانيا في حياته العامة. الحل الفلسفي للتناقض بين الدين والعلمانية يكمن في جعل هذا التناقض مستحيلا. الدولة العلمانية يجب الا تشجع أية معتقدات دينية وفي الوقت ذاته ألا تمنع أية معتقدات دينية. الدين هو قناعة ذاتية بحت وعلى الانسان أن يملك حرية أن يكون متدينا بالدين الذي يختاره بمحض إرادته أو أن يكون ملحدا. الدولة، مهما كانت، لا تملك حق التدخل في هذا المجال. الدولة العلمانية لا تعني ملاحقة النساء المحجبات ومنعهن من دخول الجامعات أو المؤسسات العامة كما هو الأمر في تركيا وفرنسا مثلا. تماما كما لا يحق للدولة ملاحقة غير الملتزمين بالصوم أو راحة يوم السبت مثلا. على العكس من ذلك تماما: على الدولة العلمانية ان توفر الحماية للمرأة المحجبة كما عليها أن توفر الحماية لمن لا يصوم ولمن يقود سيارته يوم السبت. العلمانية في نهاية المطاف هي مبدأ انساني.
وأخيرا، لنعود الى مؤتمر "حق العودة والدولة الديموقراطية العلمانية في فلسطين" المزمع عقده في حيفا قريبا. وأقول: ما دمنا نخشى الخوض في أعماق المفاهيم التي نرددها يوميا فلن يتمخض عن هذا المؤتمر سوى الشعارات الرنانة الجوفاء. وما دام المنادون بهذا الشعار يدفنون رؤوسهم بالرمل ويدعون أن أحدا لا يراهم فلن يكون هذا المؤتمر أكثر من ذر الغبار في العيون. يجب أن نقولها بصراحة أية دولة نريد وأية دولة نرفض، والى اية ديموقراطية نصبو وبأية علمانية نطالب.

No comments: