يصر العديد من الاكاديميين العرب الذين يحرصون حرصا شديدا على إلصاق لقبهم الجامعي بإسمهم في جميع الندوات والمؤتمرات والايام الدراسية التي يدعون اليها والتي تلاقي رواجا كبيرا في هذه الايام، على إعتبار دولة إسرائيل في نهاية المطاف وبالرغم من كل انتقاداتهم دولة طبيعية تمثل شعبا طبيعيا له الحق في تقرير مصيره. ويبدأون في تنظيرات لا اول لها ولا آخر ولا تقوم على اية اسس موضوعية علمية. كل همهم هو تسويق نظرياتهم التي تعلموها في الجامعات الاسرائيلية والآن يعلمونها بدورهم لطلابهم.
منهم من يدعي أن دولة إسرائيل لم تعد ذلك الكيان الكولونيالي الذي اقامته الحركة الصهيونية قبل 60 عاما، بل اصبحت دولة عادية تعبر عن حق تقرير المصير للشعب اليهودي الاسرائيلي. ومنهم من يزعم أن الصهيونية كحركة وكأيديولوجية قد انتهت ونحن نعيش فيما يسمى "عهد ما بعد الصهيونية" (بوست صهيونية). من هذا المنطلق، حتى لو قبلنا أن قيامها كان على أنقاض وعلى حساب الشعب الفلسطيني، علينا أن نعترف بحقها في الوجود كأية دولة أخرى.
هذه النظرة العامة لا تقتصر على الاكاديميين المحسوبين على الاحزاب العربية الاسرائيلية الممثلة في الكنيست فحسب بل تشمل ايضا أولئك الذين يدعون الرديكالية وينظرون لدولة ثنائية القومية، دولة لجميع مواطنيها أو دولة ديموقراطية علمانية.غير أن نظرياتهم هذه تتبخر وتتلاشى حتى قبل مغادرتهم لقاعة المؤتمرات التي يعرضون بها نظرياتهم حال اصطدامها. إذ أن دولة اسرائيل تأبى أن تغير طبيعتها وهي لا تستطيع أن تخرج من جلدها. طبيعة اسرائيل الكولونيالية ما زالت مستمرة الى هذه اللحظة وسوف تستمر ما دامت هذه الدولة قائمة. ولا يستطيع أي شخص مهما كبر لقبه الجامعي أن يقنعنا بغير ذلك. النظريات مهما كانت منمقة تبقى أعجز من أن تغير الحقائق على ارض الواقع. طبيعة هذه الدولة الكولونيالية تتجسد في كل بيت تبنيه في المستوطنات وليس في القدس والضفة الغربية فحسب، بل في الجليل والنقب وفي كل مكان في فلسطين.
بينما تتجه جميع الانظار الى بناء الاحياء الاستيطانية او وحدات السكن في القدس وضواحيها أو في الكتل الاستيطانية نتعامى عما يحصل في النقب والجليل من أعمال استيطانية. السياسة واحدة والاهداف واحدة. أستطيع أن أجزم أن وضع الفلسطينيين في الضفة الغربية في هذا المجال أفضل بما لا يقاس من وضعنا في الداخل، على الاقل هناك مازال الفلسطينيون يملكون أكثر من نصف الاراضي بينما لا نملك نحن أكثر من 3% من الاراضي. وما زال العالم يرى بها أراض محتلة بينما نحن جزء من دولة مستقلة، والأهم من ذلك كله، ما زال الفلسطينيون في الضفة يقاومون الاستيطان بجميع اشكاله ويقدمون التضحيات في سبيل ذلك، بينما نحن خضعنا للأمر الواقع وأصبحنا نشارك الحكومة حتى في استعمال مصطلحاتها وأصبحنا نسمي الاستيطان تطويرا. فهناك ثمة سياسة لتطوير الجليل والنقب تشرف عليها وزارة خاصة وكل ما ينبغي علينا عمله هو المطالبة بالحصول على حصة أكبر. قبل ايام نشرت جريدة هآرتس تقريرا عن "تطوير الجليل والنقب" تقوم بتمويله ليس فقط الحكومة الاسرائيلية بل بمشاركة فعالة للتنظيمات الصهيونية في أمريكا والعالم حيث تم جمع 60 مليون دولار كمساهمة في حملة استيطانية جديدة سيكون ضحاياها المباشرين بدو النقب والقرى العربية في المثلث والجليل. سياسة التطهير العرقي التي بدأت في عام 1948 ما زالت مستمرة وجميعنا نشعر بها على أجسادنا ولكن كيف نواجهها؟ بالشعارات والخطابات والتباكي والتسول على ابواب المسؤولين، ولكن الاخطر من ذلك كله هي تلك التنظيرات التي يروج لها بعض المثقفين والتي تؤمن للحكومة التبريرات اللازمة للإستمرار بسياستها الكولونيالية العنصرية.
فلسطين بإسرها ترزح تحت الاحتلال والشعب الفلسطيني بجميع أماكن تواجده يعاني من هذا الاحتلال. ولكن ككل إحتلال في العالم وفلسطين ليست إستثناء، يوجد هناك فئات مستفيدة تتعاون مع المحتلين من أجل تحقيق مكاسب خاصة، ويوجد هناك فئات خاملة أو متهادنة، ولكن يوجد هناك دائما فئات مقاومة وهي التي تصنع التاريخ في نهاية المطاف.
لا يكفي أن نردد صباحا مساء، أننا جزء لا يتجزأ من الشعب الفلسطيني، ولا يكفي أن نربت على أكتفنا ونعلل نفوسنا المهزومة بأننا الجزء الباقي المتشبث بإرضه حتى نرسخ وجودنا على هذه الارض ونستعيد حقوقنا السليبة. علينا أولا وقبل كل شيء أن نتخلص من أوهام المواطنة المزيفة التي تروجها السلطة ويقوم على تجميلها نخبة من المثقفين. ينبت الى جانب القمح الزوان ويختلط به ولكن مهمتنا هي أن ننقي القمح من الزوان.