كلاب الصيد وكلاب التسلية
علي زبيدات - سخنين
عندما كنت صغيرا كنت كثير الشقاوة. ولكني في الوقت نفسه كنت نحيل البنية ضئيل القوة. وكم عدت إلى البيت باكيا من ضرب الاولاد الاقوى والاكبر مني. وكانت جدتي تزجرني عن الخروج للعب في حواكير الحارة مع الاولاد الكبار ولكني كنت أصر على الخروج لأعود مرة أخرى باكيا واحمل على جسدي أو وجهي علامات الضرب والكدمات. وكانت جدتي تقول لي دائما: "كلاب الصيد مخرمشة الوجوه". كبرت وبقيت هذه الجملة التي ظننتها مثلا شعبيا شائعا مع اني لم اسمعها فيما بعد من أي شخص آخر، محفورة في ذاكرتي. عرفت ما تعنيه جدتي: فليس كل كلب يصلح للصيد. فكلب الصيد يجب أن يتمتع بالجرأة والقوة فيقتحم الادغال الشائكة ويركض وراء الفريسة حتى يمسك بها وغالبا بعد صراع معها أو مع الكلاب الاخرى، وكان يعود إلى صاحبة ووجهه مليء بالخرمشات. بالمقابل يوجد هناك الكلاب التي يقتنيها بعض الناس في بيوتهم للتسلية واللعب وهي لا تصلح للصيد.
عادت جملة جدتي تستحوذ على تفكيري بعد قرار دونالد ترامب الأخير حول القدس. وكنت اردد بيني وبين نفسي: كم نحن بحاجة إلى كلاب صيد تهجم على ترامب، تنقض عليه وتحكم فكيها على عنقه وتجره ذليلا إلى القدس، حتى ولو عادت ووجوهها مخرمشة وتنزف دم. ولكن تبين إننا لا نملك سوى كلاب للتسلية واللعب.
لنبدأ من النهاية: في مؤتمر القمة الإسلامي الذي عقد مؤخرا في اسطنبول وضم زعماء من 50 دولة إسلامية يمثلون أكثر من مليار ونصف نسمة، لم يكن بينهم كلب صيد واحد (طبعا كلمة كلب صيد هنا لا يقصد منها اي شكل من اشكال المسبة أو الهجاء، بالعكس). كانت القاعة تعج بكلاب للتسلية والترفيه وهذا ما اتعكس في بيانهم الختامي الذي تمخض عن قرارات هزيلة منها:
1- "الاعلان عن القدس الشرقية عاصمة للدولة الفلسطينية ودعوة باقي الدول للاعتراف بدولة فلسطين وبالقدس الشرقية المحتلة عاصمة لها".على حد علمي عدد الدول التي تعترف بدولة فلسطين يفوق عدد الدول التي تعترف بإسرائيل ولكنه إعتراف لا يساوي جناح ذبابة. وسيكون اعترافهم بالقدس عاصمة لمثل هذه الدولة الوهمية هو الآخر بالقيمة نفسها. حيث صفر + صفر = صفر.
2- " قرار ترامب هو تقويض متعمد للجهود المبذولة لتحقيق السلام ويصب في مصلحة التطرف والإرهاب". جميل جدا، وكأن ترامب ومن سبقه من رؤساء أمريكيين بذلوا حقا جهودا جبارة لتحقيق السلام. وكأنهم بعيدون كل البعد عن التطرف والإرهاب.
3- "القرار بمثابة إعلان انسحاب الإدارة الأمريكية من ممارسة دورها كوسيط وراعية للسلام" طبعا، إذ كانت دوما وسيطا نزيها وغير منحاز: تسليح الجيش الاسرائيلي من رأسه إلى أخمص قدميه بأعتى الأسلحة الفتاكة، مساعدات سنوية بمقدار 4 مليار دولار، استعمال الفيتو لصالح إسرائيل عشرات المرات، هذا كله وغيره الكثير يخولها لأن تكون وسيطا نزيها وراعية لتحقيق السلام العادل!!.
4- " القرار تشجيع لإسرائيل لمواصلة سياسة الاستيطان و الابرتهايد". صح النوم، متى توقف الاستيطان؟ وهل كان الاستيطان ممكنا أصلا لولا الدعم الامريكي المادي والسياسي؟
آسف، قرارات كهذه لا تصدر عن كلاب صيد بل عن كلاب للتسلية والترفيه. هل أدلكم على بعض القرارات التي تليق بكلاب الصيد؟ هل فكرت دولة واحدة من الدول الخمسين المشاركة في مؤتمر القمة قطع علاقتها بأمريكا أو بإسرائيل؟ أو التهديد بقطع العلاقات؟ أو أن تدعو السفير الأمريكي وتحمله رسالة احتجاج مباشرة؟ أو على الأقل أن تقوم بإعادة سفيرها من واشنطن للتشاور؟ ولماذا بلع اردوغان كلامه؟ ألم يهدد بقطع علاقاته مع إسرائيل؟ لماذا لم يعلن ذلك في المؤتمر ويدعو المؤتمرين الآخرين أن يحذوا حذوه؟ وهل فكرت الدول العربية التي تقيم علاقات دبلوماسية مع إسرائيل بإغلاق سفاراتها أو طرد السفراء؟ هل أوقفت سلطة أوسلو التنسيق الأمني مع إسرائيل؟ وما هو سر هذا التمسك الغريب بجثة اتفاقيات أوسلو خصوصا وأن إسرائيل ضربت بها بعرض الحائط منذ سنوات طويلة؟
قبل مؤتمر القمة الإسلامي كان هناك مؤتمرا لوزراء الخارجية العرب في جامعة الدول العربية وكانت كلاب التسلية تسرح وتمرح في الأروقة وخرجت ببيان ختامي أهزل من بيان القمة الاسلامية لم يتعد الإدانة اللفظية المهذبة بكلمة واحدة. أما عن زعامتنا المحلية فحدث ولا حرج: نواب الكنيست العرب يعملون من قلب "العاصمة الابدية" لدولة لدولة إسرائيل وفي أهم مؤسسة سياسية تابعة لها، هل فكروا بمغادرة هذه المؤسسة وهذه العاصمة كشكل من أشكال الرفض والاحتجاج؟ نراهم يستنكرون زيارة الوفد التطبيعي البحريني بينما هم غارقون حتى اذانهم بالتطبيع. وكل عتبهم على ترامب أنه لم يقل: القدس الغربية فقط، لصفقوا له وأراحهم من عناء الإدانات الكلامية ومشقة وقفات الاحتجاج العقيمة.
إسرائيل تمارس سيادتها على القدس الغربية وتعتبرها عاصمتها منذ عام 1948 وقبل أن يجف حبر قرار الامم المتحدة الذي اعتبرها منطقة تحت الإدارة الدولية. ولم تنتظر أحدا ليعترف بالقدس عاصمة لها. وقبل 50 سنة احتلت القدس الشرقية وضمتها إلى القدس الغربية وأعلنت عنها عاصمتها الموحدة والأبدية بالرغم من أن معظم دول العالم ما زالت تعتبرها مدينة محتلة. خلال هذه الفترة وقعت إسرائيل اتفاقيات سلام مع مصر والأردن ومنظمة التحرير الفلسطينية التي لم تزعجها حقيقة اعتبار إسرائيل للقدس عاصمتها الابدية، حتى أن المنظمة وافقت على ترك القدس لنهاية المفاوضات التي لم تنته بعد ربع قرن، بل في الحقيقة المفاوضات التي لم تبدأ بعد. المنطق يقول عندما يتفاوض طرفان متخاصمان حول قضية معينة يبدآن بحل القضايا الجوهرية بينما تستطيع القضايا الجانبية أن تجد حلولا فيما بعد. أما منظمة التحرير في اتفاقيات أوسلو فقد عكست هذا المنطق رأسا على عقب. فبدأت المفاوضات حول القضايا الجانبية التي استغرقت ربع قرن وارجأت القضايا الجوهرية وهي حق العودة والقدس والحدود إلى أجل غير مسمى.
يبدو أن جدتي رحمها الله قد كانت على علاقة وثيقة مع مالكوم إكس من غير أن تعرف اسمه فهو قد تكلم عن عبيد الحقل مقابل عبيد البيت، أما هي فقد اكتفت بالكلام عن كلاب الصيد وكلاب البيت للزينة والتسلية.