Wednesday, November 30, 2011

فلسطين رقم غير قابل للقسمة

فلسطين رقم غير قابل للقسمة
علي زبيدات – سخنين

قلت ذات مرة أنه من الطبيعي أن يكون هناك، في الحياة عموما وفي السياسة خصوصا، فجوة بين النظرية والتطبيق، بين ما تؤمن به حقيقة وبين ما تظهره، بين ما تقوله للآخرين عبر وسائل الإعلام المختلفة وبين ما تمارسه عمليا، ولكن أن تكون هناك قطيعة كلية أو شبه كلية بين هذه الأمور أو أن يكون هناك تناقض صارخ ومباشر فيما بينها فهذا أمر غير طبيعي حسب كافة المعايير. وهذه هي إحدى مصائبنا المزمنة نحن معشر الفلسطينيين بشكل عام ونحن في فلسطين المحتلة عام 1948 بشكل خاص. خذوا مثلا وعد بلفور فقد أطلقنا عليه اسم: الوعد المشئوم، وعد من لا بملك لمن لا يستحق. ولم نترك صفة سلبية إلا وألصقناها بهذا الوعد الجاحد. ولكننا عمليا قبلنا به برحابة صدر لا بل ومنحنا دولة إسرائيل أكثر مما منحه هذا الوعد نفسه. على الأقل يوجد في نص هذا الوعد جملة تدعو إلى عدم " انتقاص الحقوق المدنية والدينية للطوائف غير اليهودية الموجودة في فلسطين". بينما ما نقبل به اليوم ( ومنذ فترة طويلة) هو تفريط بكافة الحقوق المشروعة. إذن ما الفائدة من كيل الشتائم لوعد صدر قبل حوالي القرن من الزمن بينما نقبل الآن بما لم يحلم به بلفور أو الحركة الصهيونية التي قطع هذا الوعد من أجلها؟ أليس مثل هذا الموقف قمة العهر والنفاق؟
مثل آخر: لم نوفر شتائمنا من اتفاقية سايكس – بيكو وسمينا الدول التي تمخضت فيما بعد عن هذا الاتفاق بحظائر سايكس – بيكو وملأنا الصحف والكتب والأبحاث والدراسات في مهاجمة هذه الاتفاقية التي جاءت لتمزق العالم العربي والأمة العربية ورسمت الحدود الوهمية على الجسد الواحد بينما جعلنا نحن من هذه الحدود حدودا فولاذية لا يمكن اختراقها. فبينما يستطيع الأوروبي أن يقطع بلدان أوروبا المتنافرة قوميا وسياسيا، طولا وعرضا بدون تأشيرة دخول وبدون جواز سفر وبدون أن يرى إشارة: قف الحدود أمامك، نرى المواطن العربي يقف ذليلا كالشحاذ أمام السفارات العربية للحصول على تأشيرة أو أمام المعابر الحدودية لدخول البلد "الشقيق". إذن، والحالة هذه فما الفائدة من الكلام ضد هذه الاتفاقية وما هو مدى مصداقية هذا الكلام بينما نقوم بتنفيذها بحذافيرها؟
واليوم تمر علينا الذكرى ال64 لقرار الأمم المتحدة بتقسيم فلسطين والمعروف بقرار 181. ماذا يمكن أن بقال في هذه المناسبة ولم يقال؟ لا شيء تقريبا. رفض معظم الشعب الفلسطيني بكافة فئاته وشرائحه وبحق هذا القرار المجحف، إذ لا يعقل أن يخسر أحد أكثر من نصف ما يملكه بين ليلة وضحاها عن طريق القوة والخداع ويقبل ويعترف بذلك. ومن تجرأ بقبول هذا القرار دمغ بالخيانة وعوقب بالنبذ والحصار. الحزب الشيوعي الفلسطيني الذي أصبح فيما بعد الحزب الشيوعي الإسرائيلي الذي أيد هذا القرار بعدما كان يعارضه وذلك انسجاما مع الموقف السوفييتي المنقلب على نفسه هو خير دليل على ذلك. فقد كان هذا الحزب في ذلك الوقت كما تقول النكتة ولا أدرى ما هو مصدرها: إذا أمطرت السماء في موسكو رفع الرفاق هنا مظلاتهم. وقد حاول هذا الحزب جاهدا أن يبرر موقفه هذا بأنه الحزب الوحيد الذي كان يعي حجم المؤامرة وخيانة الأنظمة العربية وأن قبول هذا القرار هو الطريق الوحيد لإنقاذ ما يمكن إنقاذه.غير أن هذا الكلام لم يكن ليقنع أحدا، وما زال الحزب الشيوعي الإسرائيلي يدفع ثمن موقفه هذا بالرغم من انعكاس الأمور 180 درجة. فاليوم، الموقف الفلسطيني الرسمي متخلف بدرجات عما قدمه قرار التقسيم. مما شجع الحزب الشيوعي الإسرائيلي لأن يقول: "الحجر الذي رفضه البناؤون عام 1947أصبح حجر الزاوية" جارا معه بعض "المفكرين" الجدد الذين اعتبروا رفض قرار التقسيم كان خطأ تاريخيا. مما لا شك فيه أن اتفاقيات أوسلو المتدحرجة إلى يومنا هذا أسوأ بما لا يقاس من قرار التقسيم. وفي الحقيقة أنا لا أستطيع أن أفهم من يرفض قرار التقسيم ويعتبره مؤامرة ويقبل باتفاقيات أوسلو ويعتبرها انجازا، وإذا كان هناك من يفهم ذلك فليعمل معروفا ويفهمني.
إذا لم نتصالح مع أنفسنا ونتخلص من عقدة التناقض في داخلنا، وإذا لم نؤمن بما نقوله وبقيت أفعالنا تتناقض مع أقوالنا فلن نستطيع أبدا إيقاف هذا التدهور العظيم الذي أوصلنا إلى الحضيض من وعد بلفور مرورا بسايكس بيكو وقرار التقسيم إلى أوسلو ومشتقاتها.

Wednesday, November 23, 2011

إنقاذ الثورة في استمراريتها

إنقاذ الثورة في استمراريتها
علي زبيدات – سخنين

"إذا كانت الظروف هي التي تصنع الإنسان فعلينا أن نصنع ظروفا إنسانية" كارل ماركس

مرة أخرى ينزل شباب مصر إلى ميدان التحرير ويتصدون بصدورهم العارية لرصاص جنود وشرطة النظام بعدما سقط القناع وبان الوجه الحقيقي للطغمة العسكرية التي استلمت السلطة بعد رحيل مبارك ليس لتحقيق مطالب الثورة كما كانت تدعي بل لإنقاذ نظامه التي هي جزء منه.
نعود إلى مقولة كارل ماركس: مما لا شك فيه أن الظروف تلعب دورا حاسما في صنع الإنسان وفي كثير من الأحيان الدور الرئيسي ولكن مما لا شك فيه أيضا أن الإنسان هو من يصنع هذه الظروف، في معظم الأحيان يصنعها بصورة عفوية وغير واعية وفي بعض الأحيان بصورة لا إنسانية إطلاقا عن طريق الحروب واقتراف الجرائم ضد الإنسانية. ولكن في حالات أخرى يصنع الإنسان ظروفا إنسانية. وهذا هو بالذات دور الثورات: إنها تصنع ظروفا إنسانيا تقوم بدورها بصنع إنسان أفضل.
أذكر عندما كنت صغيرا كنت مغرما بمشاهدة أفلام رعاة البقر الأمريكية التي اكتشفت رجعيتها وتفاهتها فيما بعد. وأحد الأفلام الذي علق بذهني حتى يومنا هذا يروي قصة رئيس عصابة يقوم بالسطو على البنوك وفي إحدى عملياته يسطو على بنك سمع أنه يكدس في أقبيته كميات هائلة من الذهب. ولكنه عندما يصل مع أراد عصابته إلى الأقبية البنك ويكسر الأقفال لا يجد ذهبا بل يجد أن الحكومة قد حولتها إلى زنازين للثوار. وهكذا تلاحقه الدولة بجيوشها ليس بصفته لصا بل لكونه "حرر" الثوار. وهكذا جعلت منه بطلا قوميا بالرغم عنه لم يكن يحلم فيه. هذا هو نموذج صارخ كيف أن الظروف تصنع الإنسان بشكل عشوائي.
أتذكر هذه قصة كلما شاهدت فلما واقعيا تدور أحداثه على الخارطة السياسية في منطقتنا وأرى كم "بطلا قوميا" صنعته الظروف رغما عنه. أنظروا مثلا إلى محمود عباس، رئيس السلطة الفلسطينية ورئيس منظمة التحرير الفلسطينية ورئيس حركة فتح كبرى فصائل المقاومة الفلسطينية وقائد جيش التحرير الفلسطيني، وهو يفتخر بأنه لم يحمل ولم يستعمل مسدسا في حياته قط، ويصف عمليات مقاومة الاحتلال بالحقيرة. ما هي الظروف التي جعلت هذا الشخص يقود "الثورة الفلسطينية" التي كانت (وربما ما زال البعض يعتبرها حتى الآن) طليعة الثورات العربية بينما يقبع الثوار الحقيقيون إما في القبور وإما في الزنازين.
وكيف وجد طبيب عيون شاب سوري لا يملك أية خبرة سياسية أو عسكرية نفسه يرث نظاما دمويا فاسدا بعد أن لاقى شقيقه الذي أعد لهذه المهمة مصرعه وبعد أن هزم المرض والده. وها هو منذ توليه الحكم ينادي بالإصلاح الذي لم يتقدم قيد أنملة واليوم يضع البلد بأكمله على يد عفريت.
وأخير وليس آخرا - ولا أريد هنا أن أستعرض باقي الدول العربية كيف هيأت سخرية الأقدار الظروف لأشخاص أمثال أمير قطر والكويت والبحرين وعمان واليمن وغيرها وغيرها لأن يصبحوا زعماء وقيادة ينصب بعضهم نفسه حام لحقوق الإنسان، نصيرا للديمقراطية وراع للثورات العربية بينما يحكم بلاده وكأنها مزرعة خاصة له ولحاشيته - أتذكر قصة هذا الفلم الأمريكي الرخيص ولكنه يصور بصدق ظاهرة البطل الذي تصنعه الظروف رغما عنه عندما أشاهد ما يجري الآن في ميدان التحرير في القاهرة وفي مدن مصرية أخرى. كيف يعقل أن يكون المشير محمد حسين طنطاوي، الذي تربى في أحضان النظام البائد وحصل على ترقياته ورتبه العسكرية من يدي الرئيس المخلوع مباشرة، وصيا على الثورة؟
اليوم جاء تحرك الشباب المصري لكي يصحح هذا الخطأ التاريخي الفاحش. ما يسمى المجلس الأعلى للقوات المسلحة ليس سوى بؤرة تحتمي فيها فلول النظام البائد. على الصعيد السياسي، يشكل هذا المجلس امتدادا للنظام هدفه الوحيد إجهاض الثورة بكافة الأساليب المتاحة. في البداية بواسطة قطع الوعود السرابية وتقديم رموز النظام لمحاكمات صورية وفيما بعد استعمال القوة والبطش والتنكيل بالمواطنين كما يحصل الآن.
إنقاذ الثورة يكمن في استمراريتها. والثورة في مصر لا يمكن أن تستمر طالما يتمسك هذا المجلس بزمام السلطة. لذلك فإن شعار المرحلة كما حدده الثوار هو إسقاط المشير المدعوم ليس فقط من فلول النظام البائد بل من قبل الإدارة الأمريكية والصهيونية أيضا.
الثورة هي التي تصنع الظروف الإنسانية ليس فقط في مصر بل في العالم أجمع. فكل عيون أحرار العالم وقلبوهم تتوجه اليوم إلى مصر أم الدنيا.

Wednesday, November 16, 2011

احتلال وول ستريت: خطوة على طريق التحرير

احتلال وول ستريت: خطوة على طريق التحرير
علي زبيدات – سخنين

"جنرال، دبابتك مركبة جبارة
إنها تحطم غابات وتسحق مائة رجل
ولكن بها عيب واحد
إنها بحاجة إلى سائق

جنرال، قاذفتك جبارة
تطير أسرع من العاصفة وتحمل أكثر مما يحمله فيل
ولكن بها عيب واحد
إنها بحاجة إلى تقني

جنرال، الإنسان مفيد
يستطيع أن يطير وأن يقتل
ولكن به عيب واحد
إنه يستطيع أن يفكر"
(من قصيدة للشاعر الألماني التقدمي برتولد بريخت – ترجمة الكاتب)

كتب شاعرنا هذه القصيدة قبل سنوات عديدة. منذ ذلك الحين أصبحت أمريكا سيدة الجنرالات. وأصبحت تمتلك من الدبابات والقاذفات والقنابل النووية ما يكفي لتدمير الكرة الأرضية عدة مرات. ولكنها فشلت في أن تتخلص من العيب الكامن في جميع هذه الأسلحة وهو إنها بحاجة إلى إنسان وفشلت في أن تجعل هذا الإنسان يكف عن التفكير. هذا الإنسان هو الذي يزعزع الآن أعمدة النظام الرأسمالي.
أصبح وول ستريت، بعد انهيار برجي مركز التجارة العالمي قبل 10 أعوام، يشكل أكبر رمز للنظام الرأسمالي العالمي فهو يضم أكبر مركز للقمار عرفه التاريخ الحديث والذي يحمل الاسم المحترم: بورصة نيويورك كما يضم مراكز لأكبر الشركات المالية العالمية. على عكس برجي مركز التجارة العالمي لم يتعرض وول ستريت لعملية إرهابية قادها تنظيم القاعدة بل يتعرض منذ شهرين للحصار بهدف احتلاله من قبل حركة "احتلوا وول ستريت" وهي حركة من الشباب والطلاب والعمال تمثل 99% من الشعب المسحوق مقابل ال1% من المقامرين المختبئين في أوكار وول ستريت. الدولة التي تصدر ديمقراطيتها إلى العالم بواسطة دباباتها وقاذفاتها ترسل اليوم شرطتها لتفريق المتظاهرين بوسائل عنيفة وتمنعهم من ممارسة حقهم الطبيعي في التعبير عن أفكارهم. الشرطة هي الشرطة في كل مكان هدفها الأساسي هو المحافظة على مصالح الطبقة الحاكمة بكل ثمن.
لم يعد سرا أن الأزمة الاقتصادية التي تعصف منذ أكثر من 3 سنوات بالنظام الرأسمالي العالمي في عقر دارها هي في تفاقم مستمر. حسب التقارير الرسمية الأخيرة: 50 مليون أمريكي يعيشون تحت خط الفقر. نسبة البطالة وصلت إلى 10%. آلاف الوظائف وأماكن الشغل تغلق أبوابها. العديد من الشركات والمصانع تعلن إفلاسها أو ترحل إلى الدول النامية. هذا بالإضافة إلى غلاء المعيشة وأزمة السكن والقروض. الفوارق في الأجور بين العمال ومدراء الشركات المالية الطفيلية وصلت إلى 300 ضعف وأكثر. بينما تحاول الإدارة الأمريكية إنقاذ البنوك والشركات المالية الفاسدة التي تعود إلى 1% من السكان.
لقد علمنا التاريخ، كما حدث في عشرينات وثلاثينات القرن الماضي أن النظام الرأسمالي عندما يتعرض إلى ركود وأزمة اقتصادية عميقة يصبح أكثر توحشا وعدوانية مما عرض البشرية إلى الحرب العالمية الثانية التي أدت إلى موت أكثر من 60 مليون شخص وإلى دمار رهيب ما زالت البشرية تعاني منه إلى يومنا هذا. فليس من باب الصدفة تتعالى اليوم أصوات التهديد الامبريالية لتأجيج الحرب ضد إيران وللتدخلات العسكرية في ليبيا وسوريا وأماكن أخرى من العالم. الحرب ضرورية للنظام الرأسمالي لكي يتعافى ويخرج من أزمته ومن حالة الركود والكساد التي يمر بها. فالحرب طريقته المفضلة للهيمنة على النفط والغاز وثروات الشعوب وعلى الأسواق العالمية وتجارة الأسلحة.
الثورة كانت وما زالت أفضل طريقة لإجهاض الحرب الإمبريالية. حركة "احتلال وول ستريت" هي جزء من التحرك الثوري على الصعيد العالمي، فقد انتشرت إلى أكثر من مائة مدينة أمريكية وفي بعضها وصلت إلى درجة المواجهات العنيفة كما حصل في أوكلاند. كما انتقلت المواجهات إلى حوالي 1500 مدينة في كل أرجاء العالم. وفي بعضها وصلت إلى درجة المواجهات بين المحتجين وبين حراس النظام كما حصل في روما ولندن ولشبونة ومدن أخرى. العولمة ألإمبريالية تخلق حركة مقاومة عالمية، أي إنها تخلق الأداة التي سوف تحفر قبرها وتلقي بها إلى مزبلة التاريخ.
وكما يؤكد قانون الرياضيات والمنطق: سالب ضرب سالب يساوي موجب فإن احتلال ضرب احتلال يساوي تحرير.

Wednesday, November 09, 2011

جريمة مستمرة

جريمة مستمرة

علي زبيدات – سخنين

لم أكن أعلم أن مصطلح "جريمة مستمرة" هو أيضا مصطلح قانوني يتعامل به القضاء الإسرائيلي حتى اكتشفت ذلك مؤخرا عندما مثلت أمام القضاء الإسرائيلي فائق العدالة. في الماضي كنت أستعمل هذا المصطلح لوصف ما حدث عام النكبة حيث شرد نصف الشعب الفلسطيني وجرد من ممتلكاته ودمرت العديد من مدنه وقراه. هذه الجريمة مستمرة إلى يومنا هذا ليس فقط من خلال مواصلة أعمال القتل والنهب بل أيضا من خلال إنكار النكبة. وكنت أستعمل هذا المصطلح لوصف احتلال ما تبقى من فلسطين عام 1967 ومواصلة الجريمة حتى يومنا هذا من خلال بناء المستوطنات والجدار العازل والحواجز. فالاحتلال، كل احتلال، هو جريمة مستمرة من حيث طبيعته لا تتوقف إلا بعد زواله. لكن مخطئ من يظن أن القانون الإسرائيلي في إطار تعريفه للجريمة المستمرة يأخذ هذين النموذجين الصارخين بعين الاعتبار. فالنكبة من وجهة نظره هي حرب استقلال مشروعة. أما احتلال ما تبقى من فلسطين فيما بعد هو في حقيقة الأمر تحرير. فالشعب الفلسطيني في الضفة الغربية وقطاع غزة في حقيقة الأمر ليس سوى محتل بينما جيش الاحتلال الإسرائيلي هو جيش تحرير. أما نحن، الفلسطينيون في النقب والجليل لسنا سوى دخلاء أو غزاة نغزو أرض الدولة ونستولي عليها من غير حق. وهذا ما تقوله لي تلك اللافتة اللعينة كلما مررت من تحت جسر كرمئيل في الطريق إلى قرى الشاغور: "جسر موطي غور محرر القدس" وكأن غور هذا صلاح الدين أو أحد قواده.
إذن، الجريمة المستمرة حسب القانون الإسرائيلي لا علاقة لها بالنكبة ولا بالنكسة. لا علاقة لها بهدم البيوت ولا بمصادرة الأراضي. ولكن لها علاقة وثيقة بما يسمى قانون البناء والتنظيم إذا ما تجرأت وبنيت بيتا صغيرا يأوي عائلتك ويقوم قاض في محكمة الصلح مدافعا عن هذا القانون الجائر ويصدر حكمه القاطع: إما أن تهدم البيت وإما أن تحصل على ترخيص. هذا طبعا بالإضافة إلى الغرامات الباهظة والسجن مع وقف التنفيذ والتوقيع على التزامات مالية. طبعا لا يوجد هناك إنسان عاقل يقوم بهدم بيته بيده. فلا يبقى أمامك سوى القيام بمعجزة في عصر انتهت به المعجزات وهو الحصول على ترخيص. المصيبة هنا هي أن المشتكي (لجنة التنظيم والبناء) هي التي من المفروض أن تمنحك مثل هذا الترخيص. وتجد نفسك أمام خيار مستحيل يعجز عنه أعظم أبطال التراجيديا الإغريقية: اهدم أو احصل على رخصة. أو كما يقول الشاعر: ألقاه في اليم مكتوفا وقال له إياك إياك أن تبتل في الماء.
الهدف المعلن للجان التنظيم والبناء هو مساعدة المواطن في تسهيل عملية البناء بشكل منظم لا يخالف القانون ولا يسبب الضرر لطرف آخر. ولكن لهذه اللجان في الوسط العربي هدف آخر وهو وضع العراقيل وإنهاك المواطن حتى يصل إلى مرحلة من اليأس حتى يهدم بيته أو يرحل. وإلا كيف نفسر أن آلاف المواطنين العرب لا يحصلون على ترخيص ومن ثم يضطرون للبناء "اللاشرعي" بينما يحصل المواطنون اليهود والمستوطنات على جميع التسهيلات؟
هل نحن شعب نحب مخالفة القانون ونعشق دفع الغرامات ونهوى الدخول للسجون؟
بدأت جريمتي المستمرة قبل حوالي 13 سنة بعدما يئست من لجنة التنظيم والبناء التابعة لمجلس مسغاف الإقليمي أن تصدر لي ترخيصا وذلك بحجج واهية مفعمة بالعنصرية. وقد حوكمت منذ ذلك الوقت عدة مرات بحجة أن جريمتي خطيرة ومستمرة ولم أنفذ قرار المحكمة. في كل مرة تطلب فيها النيابة تحويل الأحكام مع وقف التنفيذ إلى أحكام فعلية وسعادة القاضي يلبي الطلب. كيف لا والقانون واضح: لا يوجد هدم ولا يوجد رخصة إذن أنت مخالف للقانون ومدان.
في الجلسة الأخيرة قبل عدة أيام ألقيت نظرة على قائمة المتهمين الملصقة على باب القاضي والذين يجب عليهم المثول أمام القاضي. كان هناك 30 اسما بتهمة مخالفة قانون البناء والتنظيم من بينهم 29 اسم عربي.
لقد حكم علي بأربعة أشهر سجن تم تحويلها للعمل في خدمة الجمهور وتفعيل التزاما ماليا قديما بمبلغ 15000 شاقل بالإضافة إلى غرامة جديدة بمبلغ 5000 شاقل، هذا بالإضافة إلى عقوبات جديدة مع وقف التنفيذ. بعد المحكمة توجه إلي كهل لا أعرفه وقال لي: أنت شخص محظوظ فقد فرض عليك القاضي غرامة بسيطة.
يقف المواطن الفلسطيني في هذه البلاد وحيدا في معركة غير متكافئة أمام القانون المجحف ولجان التنظيم والبناء والمحكمة. أين دور البلديات والأحزاب السياسية ولجنة المتابعة وباقي المؤسسات المدنية في هذه القضية؟ تكاد تكون هذه المؤسسات غائبة تماما. في بعض الأحيان تكتفي بتصريحات دعم كلامية لا تسمن ولا تغني من جوع، خصوصا في الحالات التي تصل إلى درجة الهدم الفعلي ومن ثم تعود إلى سباتها العميق؟ متى على مؤسساتنا المذكورة أن تتخذ موقفا مبدئيا من هذه الأمور؟
شخصيا لست متفائلا في أن يكون هناك أي تحول جذري في موقف هذه المؤسسات. لذلك أدعو جميع المواطنين المتضررين مباشرة من لجان التنظيم المعتمدة قانون جائر والمدعومة من قبل حكومة تمارس سياسة عنصرية، للوحدة من أجل تحدي هذه اللجان ومن يقف ورائها.

Wednesday, November 02, 2011

ثورات محدودة الضمان

ثورات محدودة الضمان

علي زبيدات – سخنين

لا أدري من أول من روج لفصل الربيع باعتباره أجمل فصول السنة حتى أصبحت أوصافه تستعار للتعبير عما هو مشرق وجميل في حياة الانسان. قد يكون شاعرا أو حالما أو عالما طبيعيا أو مجرد محب للطبيعة. ولا أريد هنا أن أناقش صحة أو عدم صحة هذه النظرة العامة السائدة. ولكن بما أن الربيع أصبح سيد الموقف بلا منازع وبما أننا، نحن الشعوب العربية قد دخلنا هذا الربيع من أوسع أبوابه وأصبح تعبير: "ربيع الشعوب العربية" سائرا على كل لسان يتداوله الجميع بصورة رصينة ومتفائلة تارة وبصورة مبتذلة تارة أخرى، كان لا بد من التوقف أمام صفتين على غاية الأهمية يبدو أنهما غابتا عن عيون عشاق الربيع على مختلف أصنافهم.
الصفة الأولى: هي أن الربيع كباقي الفصول محدود زمنيا، قصير وعابر.
الصفة الثانية: هي أن الربيع حسب موقعه الجغرافي والمجازي ( السياسي والاجتماعي) لا يتسم دوما بالطقس المعتدل، الدافئ، الصافي بل قد تشوبه التقلبات المناخية من غيوم وعواصف وفيضانات التي قد تحوله إلى نقيضه.
لنأخذ مثلا ربيع الشعوب كما وصفه السياسيون والمؤرخون والمثقفون بشكل عام للأحداث التي اجتاحت أوروبا في عام 1848. فهذا الربيع الذي هبت رياحه من فرنسا حيث أسقطت الملكية ومن ثم انتشرت في بلدان أوروبية عديدة فأسقطت رمز الرجعية الأوروبية ممثلة بشخص رجل الدولة النمساوي مترنيخ وغيره، هذا الربيع كان قصيرا للغاية. فبعد فترة قصيرة عادت الأنظمة الرجعية والمحافظة إلى سابق عهدها وبسطت سلطتها بشكل أعتى واشد ظلما من السابق خصوصا في البلدان التي اضطرت بها إلى تقديم بعض التنازلات من أجل الحفاظ على أنظمتها وبدأت بمسيرة من التنكيل والانتقام. ولم تكن هذه الفترة قصيرة وعابرة فحسب بل تخللتها الحروب الدامية وتنامي النزعات القومية والعنصرية وأسست لفترة طويلة من النزاعات التي قادت إلى حربين عالميتين ولم تنته بعد.
"الربيع العربي" لا يشذ عن هذه القاعدة ولم يتخلص من هاتين الصفتين القاتلتين. كان هذا الربيع صافيا بعض الشيء في تونس ومصر وكانت المشاركة الجماهيرية تبعث الدفء في أوصالنا جميعا. إلا أن هذا الربيع جاء مكفهرا وقاتما في ليبيا واليمن وسوريا والبحرين. التدخل الامبريالي المباشر في ليبيا بتواطؤ ومشاركة عربية زاد سماء ليبيا تلويثا واكفهرارا وكأن النظام الاستبدادي لوحده لا يكفي. هل كان تدمير مدينة سرت بواسطة طيارات حلف الناتو عملا ربيعيا جميلا حالما بينما كان قصف كتائب النظام لمصراطة عملا خريفيا همجيا؟ وهل قتل القذافي بعد أن قبض عليه حيا بهذه الطريقة البشعة هو عمل ربيعي شرعي اجتاز بنجاح فتوى"علماء" المسلمين يختلف عن القتل الذي مارسه النظام؟
لقد قلتها في الماضي وها أنا أكررها حاليا: إن المعارضة في أي بلد عربي ليست نقيضا للنظام بل هي امتدادا مكملة له حتى عندما تصبح بديلا له. بشكل عام، المعارضة في العالم العربي إما أنها كانت جزءا من النظام وانشقت عنه لخلافات فئوية على السلطة وإما أنها صورة طبق الأصل للنظام التي تسعى إلى تغييره. النقيض للنظام هو الشعب ولكن المأساة هي أن هذا الشعب ممزق بين النظام والمعارضة. على الجماهير الشعبية إذا أرادت أن تنتزع حريتها أن تضع النظام والمعارضة في سلة واحدة وتلقي بهما في مزبلة التاريخ.
لقد مر على العالم العربي 500 عاما من الركود السياسي والاقتصادي والفكري وكافة المجالات الأخرى والمستويات وعندما بدأ أخيرا يتحرك جاءت خطواته ثقيلة وبطيئة وبدا مترنحا بين الماضي والحاضر وسمح لكل قوة أجنبية أن تمد يدها تعيث فسادا وتعبث في نهضتها. والحالة هذه لم يكن غريبا أو مستهجنا أن يكون التغيير بطيئا وسطحيا حتى في الأماكن التي انتصرت بها الثورة بفضل تحرك جماهيري غير مسبوق كما في تونس ومصر. الانتقال من الثورة إلى الدولة في هذين البلدين جاء سريعا جدا. واليوم يتضح أكثر فأكثر أن الدولة الجديدة تحمل كل جينات الدولة القديمة. الأحزاب السياسية التي كانت تختبئ وراء الجدار أثناء الثورة وتقف بالمرصاد تتحين فرصتها نراها الآن تنقض على انجازات الثورة المتواضعة أصلا وتتسلق عليها لتصل إلى دفة السلطة.
يبدو الوضع في فلسطين أكثر سوأ. نلهث وراء الانتصارات الوهمية في الأمم المتحدة ومؤسساتها. فبعد غزوة استحقاق أيلول الناجحة - الفاشلة نكاد نشق ملابسنا فرحا في غزوة اليونسكو التي تلتها، وها نحن نعد ما استطعنا من عدة لخوض غزوات أخرى من هذا النوع.
أنا بصراحة لست من عشاق الربيع، عربيا كان أم أجنبيا. لا أستطيع أن أتمتع بربيع شمسه أمريكا وقمره إسرائيل ونجومه حلف الناتو ومصابيحه ملوك وأمراء وشيوخ النفط العربي. ليوم خريفي عاصف يكنس القاذورات المتراكمة منذ قرون في وطننا أفضل من مائة ربيع. وليوم شتوي هائج يجرف تخلفنا الحضاري من غير رحمة أو شفقة لهو الآخر أفضل من مائة ربيع. وليوم صيفي قائظ يبيد الطفيليات العالقة بشعوبنا لهو الآخر أفضل من مائة ربيع.