علي زبيدات – سخنين
مما لا شك فيه أن الهزة الأرضية التي ضربت هاييتي هي أكثر من كارثة طبيعية، إنها أولا وقبل كل شيء مأساة إنسانية. حيث يقدر ضحاياها بمائتي ألف ضحية، هذا بالإضافة إلى مئات الآلاف من المشردين الذين فقدوا بيوتهم وأملاكهم الضئيلة أصلا وتدمير البنى التحتية والمرافق الاقتصادية. يقدر عدد المتضررون من هذه الهزة الأرضية ثلث السكان البالغ عددهم حوالي عشرة ملايين نسمة.
مأساة هاييتي لم تبدأ في 12 يناير 2010 يوم حدوث الهزة الأرضية بل تعود إلى زمن غابر منذ أن "اكتشفها" كولومبس واستعمرها الإنسان الغربي، الاسباني أولا ومن ثم الفرنسي والأمريكي وبدأ ينقل إليها آلاف العبيد الذين اقتلعوا من أفريقيا ليقوموا بأعمال السخرة في حقول البن وقصب السكر والتبغ وغيرها. لقد كانت هاييتي جزءا من جزيرة غنية وجميلة ولكن شره الإنسان المستعمر سلب خيراتها وثرواتها وجعلها من أفقر بلدان العالم. استبداد المستعمر فجر العديد من ثورات العبيد حتى نالت استقلالها في مطلع القرن الماضي بعد نضال عنيف ضد المستعمر الفرنسي. كانت هاييتي أول دولة في العالم للعبيد الذين تحرروا من نير العبودية. ولكن قبل أن تنعم باستقلالها وقعت تحت الهيمنة الأمريكية التي رأت بثورة العبيد تهديدا على نظام العبودية الذي كان متبعا في أمريكا. ويبدو أن الاستعمار لم يكن كافيا فقد بلي شعب هاييتي بحكام فاسدين ومتعاونين مع المستعمر الأجنبي. كان أشهرهم بابا دوك الذي حكم البلاد من 1957 إلى 1986 حيث أطيح به بثورة شعبية. غير أن الذين استلموا السلطة من بعده بدعم أمريكي لم يكونوا أفضل منه. وجاءت الطبيعة لتضع اللمسات الأخيرة على مأساة شعب هاييتي. فقد كانت البلاد دوما عرضة للزلازل والأعاصير والفيضانات والانهيارات الطينية.
وهكذا وقبل حدوث الزلزال الأخير كان الوضع في هذه البلاد الجميلة مأساويا. فقد تفشت أمراض الملا ريا والسل والايدز في كل مكان. وبلغت نسبة وفاة الأطفال أعلى نسبة في النصف الغربي من الكرة الأرضية. نصف الأطفال لا يعرفون المدارس. 2% فقط ينهون التعليم الثانوي. كل هذا كان يجري أمام أعين "المجتمع الدولي" أمام أعين الأمم المتحدة والولايات المتحدة الأمريكية والدول الأوروبية التي تذرف حاليا دموع التماسيح و تدعي أنها تهب لإغاثة وإنقاذ الشعب الهاييتي من هذه الكارثة.
إن الموارد التي تهدرها الولايات المتحدة الأمريكية والتسابق في تدمير البيئة وتهديد الحياة على كرتنا الأرضية تبلغ أضعاف مضاعفة لما ترسله من إغاثة. الحرب في العراق وأفغانستان لوحدها تكلفها شهريا 25 مليار دولار. حتى اليوم زادت نفقات الحرب على 500 مليار دولار وهذا الرقم سوف يعد بالترليونات قريبا. هذه التكاليف المهدورة لا تشمل تدمير البنى التحتية في كل من العراق وأفغانستان ولا تشمل ملايين القتلى والجرحى والمشردين. إذ أن خسائر الشعوب لا تعد جزءا من ثمن الحروب في أعين الامبرياليين.
روح النفاق الذي يسيطر على الدول الرأسمالية وعلى رأسها الولايات المتحدة الأمريكية وقناع المنقذ التي يغطي وجوهها لا يمكن أن يخفي بشاعة جرائمها. ما يجري حاليا تحت ستار إغاثة المنكوبين في هاييتي يجب أن يتحول إلى لائحة اتهام ضد النظام الامبريالي العالمي البغيض. ليس من باب الصدفة أن يتهم الرئيس الفنزويلي هوغو شافيز أمريكا بأنها في الحقيقة استغلت هذه الكارثة لتحتل هاييتي عسكريا، فقد قامت القوات الأمريكية باحتلال مطار العاصمة بورت أو برنس وتتحكم بوصول الاغاثات وطريقة توزيعها. فقد أصبح واضحا أن الاغاثات لا تصل بالسرعة المطلوبة ولا توزع بالشكل السليم الذي يصل إلى كافة المتضررين.
ما أشبه هاييتي ببلادنا فلسطين. كلا البلدين متشابهين من حيث المساحة وعدد السكان. ربما الفرق الوحيد هو أن ما دمرته الطبيعة هناك دمرته هنا آلة الحرب الإسرائيلية. ومن سخرية الأقدار أن تلعب إسرائيل دور المنقذ والمغيث من خلال إرسال بعض المساعدات والتي هدفها الأساسي ليس إنقاذ حياة البشر ولبس تقديم المساعدات الإنسانية للمنكوبين بقدر ما هي دعاية رخيصة لتجميل صورتها في العالم بعد الجرائم التي اقترفتها في قطاع غزة. إنه لأمر سريالي أن نسمع رئس الحكومة الإسرائيلية نتنياهو يقول:" ما حدث في هاييتي هو مأساة كبيرة، نحن دولة صغيرة ولكن عندها قلب كبير، هذا تجسيد للتراث والقيم اليهودية لمساعدة الآخرين". هذا القلب الكبير الذي يحمل مستشفى متنقلا إلى الطرف الآخر من العالم وينقذ طفلة من بين الأنقاض ويساعد سيدة على الولادة لكي يتم عرضهما على شاشة التلفزيون الإسرائيلي وعلى باقي وسائل الإعلام الإسرائيلية هو نفسه القلب الكبير الذي دفن العديد من أطفال غزة تحت الأنقاض ومنع عنهم الدواء والعلاج. هل تجسيد التراث والقيم اليهودية لمساعدة الآخرين تعني فرض حصار شامل على شعب أعزل ناهيك عن سلب أرضه وتشريده وزج أبناءه في السجون؟ هل يعقل أن يكون صاحب القلب الكبير بطل إنساني في هاييتي ومجرم حرب في غزة؟
لو كان الذين يتظاهرون بالإنسانية الآن من نتنياهو إلى أوباوما إلى براون إلى ميركل وغيرهم ذوي قلوب كبيرة حقا، لما وصلنا أصلا، في أي بقعة من العالم إلى مثل هذه المأساة من جراء كارثة طبيعية. لماذا تحصد الفيضانات والزلازل والأعاصير الأرواح بهذه الأعداد في بنغلادش وتايلاند وهاييتي وغيرها من الدول النامية فقط؟ لو كانت البنى التحتية المتينة متوفرة ولو كانت أجهزة الإنذار المبكر المتطورة متوفرة في كل مكان لما حدث ما حدث.
يجب التخلص من النظام الرأسمالي العالمي المسئول عن إشعال الحروب وتدمير البيئة وتهديد الحياة على وجه الكرة الأرضية واستبداله بنظام يقوم على التعاون ليس لمواجهة الكوارث الطبيعية فحسب بل من أجل الحفاظ على عالم أفضل يقوم على أساس الحرية والرخاء والسلام لجميع شعوب العالم.
No comments:
Post a Comment